الكِتَابُ الثّاني: السيرة النبوية الشريفة

3569 - (خ) عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: إِنَّ أَوَّلَ قَسَامَةٍ كانَتْ فِي الجَاهِلِيَّةِ لَفِينَا بَنِي هَاشِمٍ: كانَ رَجُلٌ مِنْ بَنِي هَاشِمٍ، اسْتَأَجَرَهُ رَجُلٌ مِنْ قُرَيْشٍ مِنْ فَخِذٍ أُخْرَى، فَانْطَلَقَ مَعَهُ في إِبِلِهِ، فَمَرَّ رَجُلٌ بِهِ مِنْ بَنِي هَاشِمٍ، قَدِ انْقَطَعَتْ عُرْوَةُ جُوَالِقِهِ، فَقَالَ: أَغِثْنِي بِعِقَالٍ أَشُدُّ بِهِ عُرْوَةَ جُوَالِقِي، لاَ تَنْفِرُ الإِبِلُ، فَأَعْطَاهُ عِقَالاً فَشَدَّ بِهِ عُرْوَةَ جُوَالِقِهِ [1] . فَلَمَّا نَزَلُوا عُقِلَتِ الإِبِلُ؛ إِلاَّ بَعِيراً وَاحَداً، فَقَالَ الَّذِي اسْتَأْجَرَهُ: ما شَأْنُ هَذَا البَعِيرِ لَمْ يُعْقَلْ مِنْ بَيْنِ الإِبِلِ؟ قالَ: لَيْسَ لَهُ عِقَالٌ [2] ، قالَ: فَأَيْنَ عِقَالُهُ؟ قَالَ: فَحَذَفَهُ بِعَصاً كانَ فِيهَا أَجَلُهُ. فَمَرَّ بِهِ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْيَمَنِ، فَقَالَ: أَتَشْهَدُ المَوْسِمَ؟ [3] قالَ: ما أَشْهَدُ، وَرُبَّمَا شَهِدْتُهُ، قالَ: هَلْ أَنْتَ مُبْلِغٌ عَنِّي رِسَالَةً مَرَّةً مِنَ الدَّهْرِ؟ قالَ: نَعَمْ، قالَ: فَكُنْتَ إِذَا أَنْتَ شَهِدْتَ المَوْسِمَ فَنَادِ: يَا آلَ قُرَيْشٍ! فَإِذَا أَجَابُوكَ فَنَادِ: يَا آلَ بَنِي هَاشِمٍ! فَإِنْ أَجابُوكَ، فَسَلْ عَنْ أَبِي طَالِبٍ فَأَخْبِرْهُ: أَنَّ فُلاَناً قَتَلَنِي في عِقَالٍ، وَمَاتَ المُسْتأْجَرُ.
فَلَمَّا قَدِمَ الذِي اسْتَأْجَرَهُ، أَتَاهُ أَبُو طَالِبٍ، فَقَالَ: ما فَعَلَ صَاحِبُنَا؟ قالَ: مَرِضَ، فَأَحْسَنْتُ الْقِيَامَ عَلَيْهِ، فَوَلِيتُ دَفْنَهُ، قالَ: قَدْ كانَ أَهْلَ ذَاكَ مِنْكَ، فَمَكَثَ حِيناً، ثُمَّ إِنَّ الرَّجُلَ الَّذِي أَوْصَى إِلَيْهِ أَنْ يُبْلِغَ عَنْهُ وَافَى المَوْسِمَ، فَقَالَ: يَا آلَ قُرَيْشٍ! قَالُوا: هذِهِ قُرَيْشٌ، قَالَ: يَا آلَ بَنِي هَاشِمٍ! قَالُوا: هذِهِ بَنُو هَاشِمٍ، قالَ: أَيْنَ أَبُو طالِبٍ؟ قالوا: هَذَا أَبُو طَالِبٍ، قالَ: أَمَرَنِي فُلاَنٌ أَنْ أُبْلِغَكَ رِسَالَةً، أَنَّ فُلاَناً قَتَلَهُ في عِقَالٍ.
فَأَتَاهُ أَبُو طَالِبٍ فَقَالَ لَهُ: اخْتَرْ مِنَّا إِحْدَى ثَلاَثٍ: إِنْ شِئْتَ أَنْ تُؤَدِّيَ مِائَةً مِنَ الإِبِلِ فَإِنَّكَ قَتَلْتَ صَاحِبَنَا، وَإِنْ شِئْتَ حَلَفَ خَمْسُونَ مِنْ قَوْمِكَ أَنَّكَ لَمْ تَقْتُلْهُ، فَإِنْ أَبَيْتَ قَتَلْنَاكَ بِهِ، فَأَتَى قَوْمَهُ فَقَالُوا: نَحْلِفُ، فَأَتَتْهُ امْرَأَةٌ مِنْ بَنِي هَاشِمٍ، كانَتْ تَحْتَ رَجُلٍ مِنْهُمْ، قَدْ وَلَدَتْ لَهُ، فَقَالَتْ: يَا أَبَا طَالِبٍ! أُحِبُّ أَنْ تُجِيزَ ابْنِي
[4]
هَذَا بِرَجُلٍ مِنَ الْخَمْسِينَ، وَلاَ تَصْبُرْ يَمِينَهُ [5] حَيْثُ تُصْبَرُ الأَيْمَانُ [6] ، فَفَعَلَ، فَأَتَاهُ رَجُلٌ مِنْهُمْ فَقَالَ: يَا أَبَا طَالِبٍ! أَرَدْتَ خَمْسِينَ رَجُلاً أَنْ يَحْلِفُوا مكانَ مِائَةٍ مِنَ الإِبِلِ، يُصِيبُ كُلَّ رَجُلٍ بَعِيرَانِ، هَذَانِ بَعِيرَانِ، فَاقْبَلْهُمَا عَنِّي وَلاَ تَصْبُرْ يَمِينِي حَيْثُ تُصْبَرُ الأَيْمَانُ، فَقَبِلَهُمَا، وَجَاءَ ثَمَانِيَةٌ وَأَرْبَعُونَ فَحَلَفُوا.
قالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ! ما حالَ الحَوْلُ، وَمِنَ الثَّمَانِيَةِ وَالأَرْبَعِينَ عَيْنٌ تَطْرِفُ.

3570 - (خ) عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما: أَنَّ النَّبِيَّ صلّى الله عليه وسلّم لَقِيَ زَيْدَ بْنَ عَمْرِو بْنِ نُفَيْلٍ بِأَسْفَلِ بَلْدَحَ [1] ، قَبْلَ أَنْ يَنْزِلَ عَلَى النَّبِيِّ صلّى الله عليه وسلّم الْوَحْيُ، فَقُدِّمَتْ إِلَى النَّبِيِّ صلّى الله عليه وسلّم سُفْرَةٌ، فَأَبى أَنْ يَأْكُلَ مِنْهَا، ثُمَّ قالَ زَيْدٌ: إِنِّي لَسْتُ آكُلُ مِمَّا تَذْبَحُونَ عَلَى أَنْصَابِكُمْ [2] ، وَلاَ آكُلُ إِلاَّ ما ذُكِرَ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ. وأَنَّ زَيْدَ بْنَ عَمْرٍو كانَ يَعِيبُ عَلَى قُرَيْشٍ ذَبَائِحَهُمْ، وَيَقُولُ: الشَّاةُ خَلَقَهَا اللهُ، وَأَنْزَلَ لَهَا مِنَ السَّمَاءِ المَاءَ، وَأَنْبَتَ لَهَا مِنَ الأَرْضِ، ثُمَّ تَذْبَحُونَهَا عَلَى غَيْرِ اسْمِ اللهِ! إِنْكاراً لِذلِكَ وَإِعْظَاماً لَهُ.

[م: الإيمان 162 (261)]

3576 - (ق) عَنْ عَائِشَةَ أُمِّ المُؤْمِنِينَ أَنَّهَا قَالَتْ: أَوَّلُ مَا بُدِئَ بِهِ رَسُولُ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم مِنَ الْوَحْيِ الرُّؤْيَا الصالِحَةُ فِي النَّوْمِ، فَكَانَ لاَ يَرَى رُؤْيَا؛ إِلاَّ جَاءَتْ مِثْلَ فَلَقِ الصُّبْحِ، ثُمَّ حُبِّبَ إِلَيْهِ الخَلاَءُ، وَكَانَ يَخْلُو بِغَارِ حِرَاءٍ، فَيَتَحَنَّثُ فِيهِ ـ وَهُوَ: التَّعَبُّدُ ـ اللَّيَالِيَ ذَوَاتِ الْعَدَدِ قَبْلَ أَنْ يَنْزِعَ إِلَى أَهْلِهِ، وَيَتَزَوَّدُ لِذلِكَ، ثُمَّ يَرْجِعُ إِلَى خَدِيجَةَ فَيَتَزَوَّدُ لِمِثْلِهَا، حَتَّى جَاءَهُ الْحَقُّ وَهُوَ فِي غَارِ حِرَاءٍ، فَجَاءَهُ المَلَكُ فَقَالَ: اقْرَأْ، قَالَ: (مَا أَنَا بِقَارِئٍ) . قَالَ: (فَأَخَذَنِي فَغَطَّنِي [1] حَتَّى بَلَغَ مِنِّي الْجَهْدَ [2] ، ثُمَّ أَرْسَلَنِي فَقَالَ: اقْرَأْ، قُلْتُ: مَا أَنَا بِقَارِئٍ، فَأَخَذَنِي فَغَطَّنِي الثَّانِيَة حَتَّى بَلَغَ مِنِّي الْجَهْدَ، ثُمَّ أَرْسَلَنِي فَقَالَ: اقْرَأْ، فَقُلْتُ: مَا أَنَا بِقَارِئٍ، فَأَخَذَنِي فَغَطَّنِي الثَّالِثَةَ، ثُمَّ أَرْسَلَنِي فَقَالَ: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ *خَلَقَ الإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ *اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكَرَمُ *} [العلق] ).
فَرَجَعَ بِهَا رَسُولُ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم يَرْجُفُ فُؤَادُهُ، فَدَخَلَ عَلَى خَدِيجَةَ بِنْتِ خُوَيْلَدٍ رضي الله عنها فَقَالَ: (زَمِّلُونِي زَمِّلُونِي)
[3]
. فَزَمَّلُوهُ حَتَّى ذَهَبَ عَنْهُ الرَّوْعُ [4] ، فَقَالَ لِخَدِيجَةَ وَأَخْبَرَهَا الْخَبَرَ: (لَقَدْ خَشِيتُ عَلَى نَفْسِي) . فَقَالَتْ خَدِيجَةُ: كَلاَّ، وَاللهِ! مَا يُخْزِيكَ اللهُ أَبَداً، إِنَّكَ لَتَصِلُ الرَّحِمَ، وَتَحْمِلُ الْكَلَّ [5] ، وَتَكْسِبُ المَعْدُومَ، وَتَقْرِي الضَّيْفَ، وَتُعَينُ عَلَى نَوَائِبِ الْحَقِّ [6] .
فَانْطَلَقَتْ بِهِ خَدِيجَةُ حَتَّى أَتَتْ بِهِ وَرَقَةَ بْنَ نَوْفَلِ بْنِ أَسَدِ بْنِ عَبْدِ الْعُزَّى، ابْنَ عَمِّ خَدِيجَةَ، وَكَانَ امْرَأً تَنَصَّرَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، وَكَانَ يَكْتُبُ الْكِتَابَ الْعِبْرَانِيَّ، فَيَكْتُبُ مِنَ الإِنْجِيلِ بِالْعِبْرَانِيَّةِ مَا شَاء اللهُ أَنْ يَكْتُبَ، وَكَانَ شَيْخاً كَبِيراً قَدْ عَمِيَ، فَقَالَتْ لَهُ خَدِيجَةُ: يَا ابْنَ عَمِّ! اسْمَعْ مِنِ ابْنِ أَخِيكَ.
فَقَالَ لَهُ وَرَقَةُ: يَا ابْنَ أَخِي! مَاذَا تَرَى؟ فَأَخْبَرَهُ رَسُولُ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم خَبَرَ مَا رَأَى، فَقَالَ لَهُ وَرَقَةُ: هَذَا النَّامُوسُ
[7]
الَّذِي نَزَّلَ اللهُ عَلَى مُوسَى، يَا لَيْتَنِي فِيهَا جَذَعاً! [8] ، لَيْتَنِي أَكُونُ حَيّاً إِذْ يُخْرِجُكَ قَوْمُكَ! فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم: (أَوَمُخْرِجِيَّ هُمْ) . قَالَ: نَعَمْ، لَمْ يَأْتِ رَجُلٌ قَطُّ بِمِثْلِ مَا جِئْتَ بِهِ؛ إِلاَّ عُودِيَ، وَإِنْ يُدْرِكْنِي يَوْمُكَ أَنْصُرْكَ نَصْراً مُؤزَّراً [9] .

3578 - (ق) عَنْ عَائِشَةَ أُمِّ المُوَمِنِينَ رضي الله عنها: أَنَّ الحَارِثَ بْنَ هِشَامٍ رضي الله عنه سَأَلَ رَسُولَ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ! كَيْفَ يَأْتِيكَ الْوَحْيُ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم: (أَحْيَاناً يَأْتِينِي مِثْلَ صَلْصَلَةِ الْجَرَسِ، وَهُوَ أَشَدُّهُ عَلَيَّ، فَيُفْصَمُ [1] عَنِّي وَقَدْ وَعَيْتُ عَنْهُ مَا قَالَ، وَأَحْيَاناً يَتَمَثَّلُ لِيَ المَلَكُ رَجُلاً، فَيُكَلِّمُنِي فَأَعِي مَا يَقُولُ) .
قَالَتْ عَائِشَةُ رضي الله عنها: وَلَقَدْ رَأَيْتُهُ يَنْزِلُ عَلَيْهِ الْوَحْيُ فِي الْيَوْمِ الشَّدِيدِ الْبَرْدِ، فَيَفْصِمُ عَنْهُ وَإِنَّ جَبِينَهُ لَيَتَفَصَّدُ عَرَقاً
[2]
.

3579 - (ق) عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قامَ رَسُولُ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم حِينَ أَنْزَلَ اللهُ عزّ وجل: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ *} [الشعراء] قَالَ: (يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ ـ أَوْ كَلِمَةً نَحْوَهَا ـ اشْتَرُوا أَنْفُسَكُمْ [1] ، لاَ أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللهِ شَيْئاً. يَا بَنِي عَبْدِ مَنَافٍ لاَ أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللهِ شَيْئاً. يَا عَبَّاسُ بْنَ عَبْدِ المُطَّلِبِ لاَ أُغْنِي عَنْكَ مِنَ اللهِ شَيْئاً. وَيَا صَفِيَّةُ عَمَّةَ رَسُولِ اللهِ لاَ أُغْنِي عَنْكِ مِنَ اللهِ شَيْئاً. وَيَا فَاطِمَةُ بِنْتَ مُحَمَّدٍ سَلِينِي ما شِئْتِ مِنْ مالِي، لاَ أُغْنِي عَنْكِ مِنَ اللهِ شَيْئاً) .

3580 - (ق) عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قالَ: لَمَّا نَزَلتْ: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ *} وَرَهْطَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ [1] ، خَرَجَ رَسُولُ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم حَتَّى صَعِدَ الصَّفَا، فَهَتَـفَ: (يَا صَبَاحَاهْ!) [2] . فَقَالُوا: مَنْ هَذَا؟ فَاجْتَمَعُوا إِلَيْهِ، فَقَالَ: (أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخْبَرْتُكُمْ أَنَّ خَيْلاً تَخْرُجُ مِنْ سَفْحِ هَذَا الجَبَلِ، أَكُنْتُمْ مُصَدِّقِيَّ) ؟ قَالُوا: ما جَرَّبْنَا عَلَيْكَ كَذِباً، قالَ: (فَإِنِّي نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ) . قالَ أَبُو لَهَبٍ: تَبّاً لَكَ [3] ، ما جَمَعَتْنَا إِلاَّ لِهذَا، ثُمَّ قَامَ، فَنَزَلَتْ: {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ *} [المسد] وَقَدْ تَبَّ. هكَذَا قَرَأَهَا الأَعْمَشُ يَوْمَئِذٍ.

[خ4971 (1394)/ م208]