64 - عن عمَّارِ بنِ ياسرٍ رضي الله عنهما قال: بَعَثَنِي رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فِي حَاجَةٍ فَأَجْنَبْتُ، فَلَمْ أَجِدِ الْمَاءَ، فَتَمَرَّغْتُ فِي الصَّعِيدِ كَمَا تَمَرَّغُ الدَّابَّةُ ثُمَّ أَتَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لَهُ فَقَالَ: «إِنَّمَا كَانَ يَكْفِيكَ أَنْ تَقُولَ بِيَدَيْكَ هَكَذَا» ثُمَّ ضَرَبَ بِيَدَيْهِ الْأَرْضَ ضَرْبَةً وَاحِدَةً، ثُمَّ مَسَحَ الشِّمَالَ عَلَى الْيَمِينِ، وَظَاهِرَ كَفَّيْهِ، وَوَجْهَهُ [1] .
ترجمة راوي الحديث:
هو: عمَّارُ بنُ ياسرِ بنِ عامرِ، الإمامُ الكبير، أبو اليَقْظَانِ العَنْسِيُّ الْمَكِّيُّ، مَوْلَى بَنِي مَخْزُومٍ، أَحَدُ السَّابقين الأَوَّلِين، والأعيانِ البَدْرِيِّينَ، كان هو وأبوه وأمُّه ممَّن يُعذَّب في الله، فكان يمرُّ عليهم النبيُّ صلى الله عليه وسلم فيقول: «صَبْرًا آلَ ياسرٍ؛ فإنَّ مَوْعدَكم الجنَّة». وَأُمُّهُ هِيَ سُمَيَّةُ مَوْلاةُ بَنِي مَخْزومٍ، مِن كِبَارِ الصَّحَابِيَّاتِ، طعنها أبو جهل بِحَرْبَته في قُبُلها حتى قَتَلها، فكانت أوَّلَ شهيدة في الإِسلام. اختُلِف في هجرته إلى الحبشة، وهاجَر إلى المدينة، وشَهِد المشاهدَ كلَّها، ثم شَهِد اليمامةَ فقُطِعت أُذُنه بها، ثم استعمله عمرُ على الكوفة، وكتب إليهم: إنه من النُّجباء من أصحاب محمَّد. فيه أنزل اللَّه عزَّ وجلَّ: {إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ} [النحل: ١٠٦]. لَهُ عِدَّةُ أَحَادِيْثَ؛ فَفِي "مُسْنَدِ بَقِيٍّ" لَهُ اثْنَانِ وَسِتُّونَ حَدِيثًا، مِنْهَا فِي "الصحيحين" خَمْسَةٌ. قُتل عمَّارٌ مع عليِّ بْن أَبي طالب بصفِّينَ سنة سبع وثلاثين، ودُفِن هناك بصِفِّين. وكان النَّبِيُّ قد قَالَ له: «تَقْتُلُكَ الفِئَةُ البَاغِيَةُ»
[2]
. المعنى الإجماليُّ للحديث:
(يروي عمَّارِ بنِ ياسرٍ رضي الله عنهما قال: بَعَثَنِي رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فِي حَاجَةٍ فَأَجْنَبْتُ)؛ أي: صرتُ جُنُبًا. (فَلَمْ أَجِدِ الْمَاءَ، فَتَمَرَّغْتُ فِي الصَّعِيدِ كَمَا تَمَرَّغُ الدَّابَّةُ)؛ أي: فتقلَّبتُ في التُّراب على الأرض كما تتقلَّب الدابَّة. (ثُمَّ أَتَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لَهُ)؛ أي: حتى يُعلِّمني أصَوَابٌ ما فعلتُ أم خطأ؟
فَقَالَ صلى الله عليه وسلم: «إِنَّمَا كَانَ يَكْفِيكَ أَنْ تَقُولَ بِيَدَيْكَ هَكَذَا»؛ أي: فعلَّمه النبيُّ صلى الله عليه وسلم أن ما فعله خطأ، وعلَّمه الصواب؛ فقال له: إنما كان يكفيك أن تَفعَل هكذا.
(ثُمَّ ضَرَبَ بِيَدَيْهِ الْأَرْضَ ضَرْبَةً وَاحِدَةً، ثُمَّ مَسَحَ الشِّمَالَ عَلَى الْيَمِينِ، وَظَاهِرَ كَفَّيْهِ، وَوَجْهَهُ)؛ أي: كان يَكفِيكَ أن تَضرِب الأرضَ ضَرْبةً واحدة، ثم تمسح الكفَّيْنِ، ثم تمسح بهما وجهك وكفَّيك. الشرح المفصَّل للحديث:
إن التيمُّم يرفَعُ الحدَث رَفْعًا مؤقَّتًا إلى حينِ وُجودِ الماء، ويُبيح فعل الصَّلاةِ والطَّواف وغيرِها من العِبادات، وهو رُخصةٌ شَرَعها اللهُ تعالى لعِبادِه عندَ فَقْدِ الماءِ، أو العجزِ عن استِعمالِه؛ تيسيرًا عليهم، وإن الله تعالى يحبُّ أن تؤتى رُخَصُه؛ عن ابن عُمَرَ، قال: قال رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ أَنْ تُؤْتَى رُخَصُهُ كَمَا يَكْرَهُ أَنْ تُؤْتَى مَعْصِيَتُهُ»
[3]
، "واختُلف هل التّيمُّم عزيمةٌ أو رخصة؟ وفصَّل بعضهم فقال: هو لعَدَم الماء عزيمةٌ، وللعُذر رخصة"
[4]
.
و"التّيمُّمُ في اللّغة وفي كلام العرب: القَصْدُ، يُقال: تَيَمَّمْتُ فُلَانًا وَتَأَمَّمْتُهُ وَيَمَّمْتُهُ وَأَمَمْتُهُ؛ أَيْ: قَصَدْتُهُ. وفي الشّرع: القَصْدُ إلى الصَّعيد لمسح الوجهِ واليدَيْنِ بنيَّة استباحة الصَّلاة ونحوِها"
[5]
.
"واعلم أنَّ التّيمُّم ثابت بالكتاب والسُّنَّة والإجماع، وهو خَصِيصةٌ خصَّ اللّه تعالى بها هذه الأمَّة"
[6]
؛ فعن جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «أُعْطِيتُ خَمْسًا لَمْ يُعْطَهُنَّ أَحَدٌ قَبْلِي: نُصِرْتُ بِالرُّعْبِ مَسِيرَةَ شَهْرٍ، وَجُعِلَتْ لِي الأَرْضُ مَسْجِدًا وَطَهُورًا، فَأَيُّمَا رَجُلٍ مِنْ أُمَّتِي أَدْرَكَتْهُ الصَّلاَةُ فَلْيُصَلِّ، وَأُحِلَّتْ لِي الْمَغَانِمُ وَلَمْ تَحِلَّ لِأَحَدٍ قَبْلِي، وَأُعْطِيتُ الشَّفَاعَةَ، وَكَانَ النَّبِيُّ يُبْعَثُ إِلَى قَوْمِهِ خَاصَّةً، وَبُعِثْتُ إِلَى النَّاسِ عَامَّةً»
[7]
.
وقد روت السيدة عَائِشَةُ – رضي الله عنها – عن سبب نزول آية التيمُّم، قَالَتْ: خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي بَعْضِ أَسْفَارِهِ، حَتَّى إِذَا كُنَّا بِالْبَيْدَاءِ أَوْ بِذَاتِ الجَيْش، انْقَطَعَ عِقْدٌ لِي، فَأَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى الْتِمَاسِهِ، وَأَقَامَ النَّاسُ مَعَهُ وَلَيْسُوا عَلَى مَاءٍ، فَأَتَى النَّاسُ إِلَى أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ، فَقَالُوا: أَلاَ تَرَى مَا صَنَعَتْ عَائِشَةُ؟ أَقَامَتْ بِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَالنَّاسِ وَلَيْسُوا عَلَى مَاءٍ، وَلَيْسَ مَعَهُمْ مَاءٌ، فَجَاءَ أَبُو بَكْرٍ وَرَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَاضِعٌ رَأْسَهُ عَلَى فَخِذِي قَدْ نَامَ، فَقَالَ: حَبَسْتِ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَالنَّاسَ، وَلَيْسُوا عَلَى مَاءٍ، وَلَيْسَ مَعَهُمْ مَاءٌ، فَقَالَتْ عَائِشَةُ: فَعَاتَبَنِي أَبُو بَكْرٍ، وَقَالَ: مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَقُولَ، وَجَعَلَ يَطْعُنُنِي بِيَدِهِ فِي خَاصِرَتِي، فَلاَ يَمْنَعُنِي مِنَ التَّحَرُّكِ إِلَّا مَكَانُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى فَخِذِي، فَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حِينَ أَصْبَحَ عَلَى غَيْرِ مَاءٍ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ آيَةَ التَّيَمُّمِ، فَتَيَمَّمُوا، فَقَالَ أُسَيْدُ بْنُ الحُضَيْرِ: مَا هِيَ بِأَوَّلِ بَرَكَتِكُمْ يَا آلَ أَبِي بَكْرٍ، قَالَتْ: فَبَعَثْنَا البَعِيرَ الَّذِي كُنْتُ عَلَيْهِ، فَأَصَبْنَا العِقْدَ تَحْتَهُ
[8]
.
وفي هذا الحديث يروي عمَّارِ بنِ ياسرٍ رضي الله عنهما قال: (بَعَثَنِي رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فِي حَاجَةٍ فَأَجْنَبْتُ)؛ أي: صرتُ جُنُبًا، يُقال: أَجنَب الرَّجُل صارَ جُنبًا، (فَلَمْ أَجِدِ الْمَاءَ، فَتَمَرَّغْتُ فِي الصَّعِيدِ كَمَا تَمَرَّغُ الدَّابَّةُ)؛ أي: فتقلَّبتُ في التراب على الأرض كما تتقلَّب الدابَّة، "وَإِنَّمَا فعل هذا لأنه رأى التُّرَاب بَدَلًا عن الماء، فاسْتَعْمله في جَمِيع الْبَدَن، فأما الصَّعِيدُ، فهو التُّرَاب؛ قاله عَليٌّ وَابْنُ مَسْعُود واللغويون، منهم الْفرَّاء وأبو عُبيد والزجَّاج وابن قُتَيْبَة. وقال الشَّافِعِيُّ: لا يقع اسم (الصَّعِيد) إِلَّا على تُرَاب ذي غُبَار؛ فعلى هذا لا يجوز التَّيَمُّم إِلَّا بِالتُّرَابِ، وهو قَول أَحْمدَ وَالشَّافِعِيِّ ودَاوُدَ. وقال أَبُو حنيفة ومالك: يجوز بجميع أجزاء الأرض كالنورة والجصِّ والزَّرنيخ وَغَيرِه. وزاد مالكٌ فقال: ويجوز بالحَشِيش والشَّجر؛ فعلى هذا يكون الصَّعِيد عندهما ما تَصاعَد على وَجه الأرض، سَوَاءٌ كان تُرَابًا أَو غَيرَه، ولا خلاف أنه إِذا ضَرَب بيَده على الطِّين أنه لا يُجْزِيه... فَأَمَّا الرَّمْلُ فلأبي حنيفةَ وأحمدَ فيه رِوَايتانِ"
[9]
.
"وفي الحديث جوازُ الاجتهاد في زمان النبيِّ صلى الله عليه وسلم عند الضرورة والبُعد منه؛ كما قال معاذٌ - رضي الله عنه - له: (أجتهد رأيي)، واستعمال القياس؛ لأنه لَمَّا رأى آية التيمُّم في الوضوء في بعض الأعضاء - إذ كان الوضوء مختصًّا ببعض الأعضاء - وكان طُهر الجنابة لعموم الجسد، استعمل التيمُّم بالتراب في جميع الجسد"
[10]
.
قوله: (ثُمَّ أَتَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لَهُ)؛ أي: حتى يعلِّمني أصَوَابٌ ما فعلتُ أم خطأ؟
فَقَالَ صلى الله عليه وسلم: «إِنَّمَا كَانَ يَكْفِيكَ أَنْ تَقُولَ بِيَدَيْكَ هَكَذَا»؛ أي: تَفعَل، والقولُ يُطلَق على الفعل؛ كقولهم: قال بيدِه هكذا. ثم بيَّنه بقوله: (ثُمَّ ضَرَبَ بِيَدَيْهِ الْأَرْضَ ضَرْبَةً وَاحِدَةً، ثُمَّ مَسَحَ الشِّمَالَ عَلَى الْيَمِينِ، وَظَاهِرَ كَفَّيْهِ، وَوَجْهَهُ)؛ أي: كان يَكفِيكَ أن تَضرِب الأرضَ ضَرْبةً واحدة، ثم تمسح الكفَّيْنِ، ثم تمسح بهما وجهك وكفَّيك.
"استعمل عمّارٌ القياس، فرأى أنّه لَمَّا كان التّراب نائبًا عن الغُسل، فلا بدَّ من عمومه للبَدَن، فأبان له صلى الله عليه وسلم الكيفيّة الّتي تُجزئه، وأراه الصّفة المشروعة، وأَعلَمه أنّها فُرضت عليه، ودلَّ أنّه يكفي ضربةٌ واحدة، ويكفي في اليدَين مسحُ الكفَّين، وأنّ الآية مُجمَلة بيَّنها صلى الله عليه وسلم بالاقتصار على الكفَّين، وأفاد أنّ التّرتيب بين الوجه والكفَّين غير واجب، وإن كانت الواو لا تُفيد التّرتيب، إلّا أنّه قد ورد العطف في رواية للبخاريِّ للوجهِ على الكفَّين بـ(ثُمَّ)، وفي لفظ لأبي داود: «ثمّ ضرب بشِماله على يمينه، وبيمينه على شماله على الكفَّين، ثمّ مسح وجهه» وفي لفظ للإسماعيليِّ ما هو أوضحُ من هذا: «إنّما يكفيك أن تضرب بيدَيْكَ على الأرض، ثمّ تَنْفُضَهما، ثمّ تمسح بيمينك على شمالك، وبشمالك على يمينك، ثمّ تمسح على وجهك». ودلَّ أنّ التَّيمُّم فرض من أَجنَب ولم يَجِدِ الماء"
[11]
.
"والحديث يدلُّ على مشروعيَّة التّيمُّم للصّلاة عند عَدَم الماء من غير فرق بين الجُنُب وغيره، وقد أجمع على ذلك العلماء، ولم يُخالف فيه أحدٌ من الخَلَف ولا من السَّلَف إلَّا ما جاء عن عمرَ بنِ الخطَّاب وعبدِ اللّه بن مسعود، وحُكِيَ مثلُه عن إبراهيمَ النَّخَعِيِّ من عدم جوازه للجُنُب، وقيل: إنَّ عمرَ وعبدَ اللّه رَجَعا عن ذلك. وقد جاءت بجوازه للجُنُب الأحاديث الصّحيحة. وإذا صلَّى الجُنُب بالتّيمُّم ثمَّ وجد الماء، وَجَب عليه الاغتسال بإجماع العلماء، إلَّا ما يُحكى عن أبي سلمةَ بنِ عبد الرّحمن الإمامِ التّابعيِّ أنّه قال: لا يَلزَمُه، وهو مَذهَب متروك بإجماع مَن بَعدَه ومن قَبلَه، وبالأحاديث الصّحيحة المشهورة في أمره صلى الله عليه وسلم للجُنُب بغَسل بَدَنه إذا وَجَد الماء"
[12]
.
و"التيمُّم الصحيح مثلما قال الله عزَّ وجلَّ: {وَإِن كُنتُم مَّرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاء أَحَدٌ مَّنكُم مِّنَ الْغَائِطِ أَوْ لاَمَسْتُمُ النِّسَاء فَلَمْ تَجِدُواْ مَاء فَتَيَمَّمُواْ صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُواْ بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُم مِّنْهُ} [المائدة: ٦] المشروع ضربةٌ واحدة للوجه والكفَّين، وصفةُ ذلك أنه يَضرِب التراب بيدَيه ضربةً واحدة، ثم يَمسَح بهما وجهه وكفَّيه؛ كما في الصحيحين أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال لعمَّارِ بنِ ياسرٍ رضي الله عنه: «إنما يَكفِيكَ أن تقول بيدَيك هكذا، ثم ضَرَب بيدَيه الأرضَ، ومسح بهما وجهَه وكفَّيه».
ويُشترَط أن يكون التراب طاهرًا، ولا يُشرع مسح الذراعين؛ بل يكفي مسح الوجه والكفَّين للحديث المذكور. ويقوم التيمُّم مقام الماء في رفع الحدث على الصحيح، فإذا تيمَّم صلَّى بهذا التيمُّم النافلةَ والفريضة الحاضرة والمستقبَلة، ما دام على طهارة، حتى يُحدِث أو يَجِد الماء إن كان عادمًا له، أو حتى يستطيع استعماله إذا كان عاجزًا عن استعماله، فالتيمُّم طُهور يقوم مقام الماء كما سمَّاه النبيُّ صلى الله عليه وسلم طهورًا"
[13]
.
"وقد اختُلف في كمِّيَّة الضّربات، وقدر التّيمُّم في اليدين، فذهب جماعة من السَّلف ومَن بعدهم إلى أنّها تكفي الضَّربة الواحدة، وذهب إلى أنّها لا تكفي الضّربة الواحدة جماعةٌ من الصّحابة ومَن بعدهم، وقالوا: لا بدَّ من ضربتينِ، والذّاهبون إلى كفاية الضَّربة جمهورُ العلماء وأهلُ الحديث؛ عملًا بحديث عمَّارٍ؛ فإنّه أصحُّ حديث في الباب، وحديث الضَّربتين لا يَقْوى على معارضته. قالوا: وكلُّ ما عدا حديثَ عمّارٍ فهو ضعيف أو موقوف.
وأمّا قَدْرُ ذلك في اليدين، فقال جماعة من العلماء وأهل الحديث: إنّه يكفي في اليدينِ الرّاحتان، وظاهرُ الكفَّين؛ لحديث عمّار هذا، وقد رُوِيَت عن عمّارٍ روايات بخلاف هذا؛ لكنّ الأصحَّ ما في الصّحيحين، وقد كان يُفتي به بعد موت النّبيِّ صلى الله عليه وسلم. وقال آخرون: إنّها تجب ضربتانِ، ومسح اليدين مع الْمِرفَقين؛ لحديث ابن عمر، والأصحُّ فيه أنّه موقوف، فلا يقاوم حديث عمّار المرفوع الوارد للتّعليم، ومن ذلك اختلافُهم في التّرتيب بين الوجه واليدين، وحديث عمّار كما عرفتَ قاضٍ بأنّه لا يَجِب، وإليه ذهب من قال بالضَّربتين، إلا أنّه قال: لا بدَّ من التّرتيب بتقديم الوجه على اليدين، واليُمنى على اليسرى"
[14]
.
"وقد دلَّ حديث عمَّار هذا على أنه يجوز الاقتصارُ في التَّيَمُّم على الوجه والكَفَّيْنِ بضَربة واحدة، وهو قولُ مالك وداود، وقال أبو حنيفةَ والشافعيُّ في الجديد: لا يُجْزِيه إِلَّا أن يمسح إلى الْمِرْفَقين. ولا يختلف أصحابُنا في جواز الأمرين؛ إنما اختلفوا في المسنون: فقال القاضي أبو يعلى: المسنون أن يَضْرب ضربتين، يَمسَح بواحدة وَجهَه وبالأخرى يَدَيْهِ إلى الْمِرْفَقين، فإن ضَرَب ضَرْبَة فمسح بها وجهَه وكفَّيه جاز. وقال أبو الخطَّاب الكلواذانيُّ: بل الْمَسنون عندَ أحمدَ ضَرْبَةٌ واحدة للوَجْه والكَفَّيْن. وقال أبو الوفاء بنُ عقيل: ظاهرُ كلام أحمدَ يدلُّ على أن المسح إلى الْمِرْفَقين جائز، وليس بمستحَبٍّ"
[15]
.
"وفي حديث عمّار دلالة على أنّ المشروع هو ضرب التّراب، وقال بعض الفقهاء بعدم إجزاء غيره؛ لحديث عمّار هذا، وحديث ابن عمر، وقال الشّافعيُّ: يُجزئ وضع يده في التُّراب؛ لأنّ في إحدى روايتَيْ تيمُّمه صلى الله عليه وسلم من الجدار، أنّه وضع يده. وفي رواية أيٍّ من حديث عمّار للبخاريِّ: «وضرب بكفَّيه الأرض ونفخ فيهما، ثمّ مسح بهما وجهه وكفَّيه»؛ أي: ظاهرهما كما سلف، وهو كاللّفظ الأوّل، إلّا أنّه خالفه بالتّرتيب وزيادة النّفخ، فأمّا نفخ التّراب فهو مندوب. وقيل: لا يُندَب، وهذا التّيمُّم وارد في كفاية التّراب للجُنُب الفاقد للماء، وقد قاسُوا عليه الحائض والنُّفَساء، وخالف فيه ابن عمر وابن مسعود"
[16]
.
"وقولُه: (ونَفَض يَدَيْهِ). وَفِي لفظ: «يَكْفِيكَ أَن تضرب بيديك الأَرْض ثمَّ تَنفُخ»: يَحْتَجُّ به مَن يرى جَوَاز الضَّرْب على حَجَر لَا غُبَار له، وهو مَذْهَب أبي حنيفةَ ومالك. وعند أحمد والشافعيِّ: لا بدَّ من غُبَار يَعلَق باليد؛ لقَوْله تَعَالَى: {فَامْسَحُواْ بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُم مِّنْهُ} [المائدة: ٦]، و"من" للتَّبْعِيض. وَأما نفضُ اليد ونفخُها، فالمراد به تخفيف ما تعلَّق باليد؛ فإنه قد تعلَّق بها الكثير، والنفخ لا يَدفَع الْخَفِيف، وبه تقع الكفاية"
[17]
.
"وفيه من الفقه أَنَّ المتأوِّل المجتهد لا إعادةَ عليه؛ لأن النبيَّ صلى الله عليه وسلم لم يأمر عمَّارًا بالإعادة، وإن كان خطَّأ اجتهادَه؛ لأنه إنما ترك هيئة الطهارة، وقد جاء بها على غير هَيئتها، وأكمل مما يلزمه. وقوله: (فنفض يدَيه فنفخ فيهما): حُجَّة لمن أجاز نفض اليدين من التراب، وهو قول مالك والشافعيِّ، دون استقصاء لما فيهما من التراب؛ لكن لخشية ما يضرُّ به من ذلك من كثرته بتلويث وجهه، أو مُصادفة رُقاق حجرٍ فيه يُؤذيه ونحوه، وكان ابن عمر لا ينفُض"
[18]
. الفوائد العلمية:
1. التيمُّم في الشرع: هو القَصْدُ إلى الصَّعيد لمسح الوجهِ واليدَيْنِ بنيَّة استباحة الصَّلاة ونحوِها
[19]
.
2. التّيمُّم ثابت بالكتاب والسُّنَّة والإجماع
[20]
.
3. التيمُّم خَصِيصةٌ خصَّ اللّه تعالى بها هذه الأمَّة؛ فعن جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «أُعْطِيتُ خَمْسًا لَمْ يُعْطَهُنَّ أَحَدٌ قَبْلِي: نُصِرْتُ بِالرُّعْبِ مَسِيرَةَ شَهْرٍ، وَجُعِلَتْ لِي الأَرْضُ مَسْجِدًا وَطَهُورًا، فَأَيُّمَا رَجُلٍ مِنْ أُمَّتِي أَدْرَكَتْهُ الصَّلاَةُ فَلْيُصَلِّ، وَأُحِلَّتْ لِي الْمَغَانِمُ وَلَمْ تَحِلَّ لِأَحَدٍ قَبْلِي، وَأُعْطِيتُ الشَّفَاعَةَ، وَكَانَ النَّبِيُّ يُبْعَثُ إِلَى قَوْمِهِ خَاصَّةً، وَبُعِثْتُ إِلَى النَّاسِ عَامَّةً»
[21]
.
4. روت السيدة عَائِشَةُ – رضي الله عنها – عن سبب نزول آية التيمُّم، قَالَتْ: خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي بَعْضِ أَسْفَارِهِ، حَتَّى إِذَا كُنَّا بِالْبَيْدَاءِ أَوْ بِذَاتِ الجَيْش، انْقَطَعَ عِقْدٌ لِي، فَأَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى الْتِمَاسِهِ، وَأَقَامَ النَّاسُ مَعَهُ وَلَيْسُوا عَلَى مَاءٍ، فَأَتَى النَّاسُ إِلَى أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ، فَقَالُوا: أَلاَ تَرَى مَا صَنَعَتْ عَائِشَةُ؟ أَقَامَتْ بِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَالنَّاسِ وَلَيْسُوا عَلَى مَاءٍ، وَلَيْسَ مَعَهُمْ مَاءٌ، فَجَاءَ أَبُو بَكْرٍ وَرَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَاضِعٌ رَأْسَهُ عَلَى فَخِذِي قَدْ نَامَ، فَقَالَ: حَبَسْتِ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَالنَّاسَ، وَلَيْسُوا عَلَى مَاءٍ، وَلَيْسَ مَعَهُمْ مَاءٌ، فَقَالَتْ عَائِشَةُ: فَعَاتَبَنِي أَبُو بَكْرٍ، وَقَالَ: مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَقُولَ، وَجَعَلَ يَطْعُنُنِي بِيَدِهِ فِي خَاصِرَتِي، فَلاَ يَمْنَعُنِي مِنَ التَّحَرُّكِ إِلَّا مَكَانُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى فَخِذِي، فَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حِينَ أَصْبَحَ عَلَى غَيْرِ مَاءٍ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ آيَةَ التَّيَمُّمِ، فَتَيَمَّمُوا، فَقَالَ أُسَيْدُ بْنُ الحُضَيْرِ: مَا هِيَ بِأَوَّلِ بَرَكَتِكُمْ يَا آلَ أَبِي بَكْرٍ، قَالَتْ: فَبَعَثْنَا البَعِيرَ الَّذِي كُنْتُ عَلَيْهِ، فَأَصَبْنَا العِقْدَ تَحْتَهُ
[22]
. الفوائد الفقهية:
1. الحديث دليلٌ على أنّ التَّيمُّم فرض من أَجنَب ولم يَجِدِ الماء، وعلى أنه تكفي الضربةُ الواحدة للوجه والكفَّينِ جميعًا، وعلى أن محلَّ المسح في التيمُّم هو الوجه والكفَّانِ.
2. التيمُّم يرفَعُ الحدَث رَفْعًا مؤقَّتًا إلى حينِ وُجودِ الماء، ويُبيح فعل الصَّلاةِ والطَّواف وغيرِها مِن العِبادات.
3. التيمُّم رُخصةٌ شَرَعها اللهُ تعالى لعِبادِه عندَ فَقْدِ الماءِ، أو العجزِ عن استِعمالِه؛ تيسيرًا عليهم، وإن الله تعالى يحبُّ أن تؤتى رُخَصُه؛ عن ابن عُمَرَ، قال: قال رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ أَنْ تُؤْتَى رُخَصُهُ كَمَا يَكْرَهُ أَنْ تُؤْتَى مَعْصِيَتُهُ»
[23]
. "واختُلف هل التّيمّم عزيمةٌ أو رخصة؟ وفصَّل بعضهم فقال: هو لعَدَم الماء عزيمةٌ، وللعُذر رخصة"
[24]
.
4. اختُلف في (الصَّعِيد)، فقيل: هو التُّرَاب. وقيل: لا يقع اسم (الصَّعِيد) إِلَّا على تُرَاب ذي غُبَار؛ فعلى هذا لا يجوز التَّيَمُّم إِلَّا بِالتُّرَابِ. وقيل: الصَّعِيد ما تَصاعَد على وَجه الأرض، سَوَاءٌ كان تُرَابًا أَو غَيرَه، فيجوز بجميع أجزاء الأرض كالنُّورة والجصِّ والزَّرنيخ والحَشِيش والشَّجر وغيره. ولا خلاف أنه إِذا ضَرَب بيَده على الطِّين أنه لا يُجْزِيه
[25]
.
5. في الحديث جوازُ الاجتهاد في زمان النبيِّ صلى الله عليه وسلم عند الضرورة والبُعد منه؛ كما قال معاذٌ - رضي الله عنه - له: (أجتهد رأيي)، واستعمل عمَّارٌ القياس، فرأى أنّه لَمَّا كان التّراب نائبًا عن الغُسل، فلا بدَّ من عمومه للبَدَن، فأبان له صلى الله عليه وسلم الكيفيّة الّتي تُجزئه، وأراه الصّفة المشروعة.
6. اختلفوا في التّرتيب بين الوجه واليدين، وحديث عمّار قاضٍ بأنّه لا يَجِب، ومن قال بالضَّربتين قال: لا بدَّ من التّرتيب بتقديم الوجه على اليدين، واليُمنى على اليسرى
[26]
.
7. أجمع العلماء على ما دلَّ عليه الحديث من مشروعيَّة التّيمُّم للصّلاة عند عَدَم الماء من غير فرق بين الجُنُب وغيره، ولم يُخالف فيه أحدٌ من الخَلَف ولا من السَّلَف إلَّا ما جاء عن عمرَ بنِ الخطَّاب وعبدِ اللّه بن مسعود، وحُكِيَ مثلُه عن إبراهيمَ النَّخَعِيِّ من عدم جوازه للجُنُب، وقيل: إنَّ عمرَ وعبدَ اللّه رَجَعا عن ذلك
[27]
.
8. إذا صلَّى الجُنُب بالتّيمُّم ثمَّ وجد الماء، وَجَب عليه الاغتسال بإجماع العلماء، إلَّا ما يُحكى عن أبي سلمةَ بنِ عبد الرّحمن الإمامِ التّابعيِّ أنّه قال: لا يَلزَمُه، وهو مَذهَب متروك بإجماع مَن بَعدَه ومن قَبلَه، وبالأحاديث الصّحيحة المشهورة في أمره صلى الله عليه وسلم للجُنُب بغَسل بَدَنه إذا وَجَد الماء
[28]
.
9. التيمُّم الصحيح مثلما قال الله عزَّ وجلَّ: {وَإِن كُنتُم مَّرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاء أَحَدٌ مَّنكُم مِّنَ الْغَائِطِ أَوْ لاَمَسْتُمُ النِّسَاء فَلَمْ تَجِدُواْ مَاء فَتَيَمَّمُواْ صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُواْ بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُم مِّنْهُ} [المائدة: ٦]؛ فالمشروع ضربةٌ واحدة للوجه والكفَّين، وصفةُ ذلك أنه يَضرِب التراب بيدَيه ضربةً واحدة، ثم يَمسَح بهما وجهه وكفَّيه
[29]
.
10. في الحديث يُشترَط أن يكون التراب طاهرًا، ولا يُشرع مسح الذراعين؛ بل يكفي مسح الوجه والكفَّين
[30]
.
11. يقوم التيمُّم مقام الماء في رفع الحدث على الصحيح، فإذا تيمَّم صلَّى بهذا التيمُّم النافلةَ والفريضة الحاضرة والمستقبَلة، ما دام على طهارة، حتى يُحدِث أو يَجِد الماء إن كان عادمًا له، أو حتى يستطيع استعماله إذا كان عاجزًا عن استعماله، فالتيمُّم طُهور يقوم مقام الماء كما سمَّاه النبيُّ صلى الله عليه وسلم طهورًا
[31]
.
12. اختُلف في عدد الضّربات في التّيمُّم، فذهب جماعةٌ من الصّحابة ومَن بعدهم إلى أنّه لا تكفي الضّربة الواحدة وقالوا: لا بدَّ من ضربتينِ، وذهب جمهورُ العلماء وأهلُ الحديث إلى أنّه تكفي الضَّربة الواحدة؛ عملًا بحديث عمَّارٍ؛ فإنّه أصحُّ حديث في الباب، وحديث الضَّربتين لا يَقْوى على معارضته
[32]
.
13. اختُلف في قدر التيمُّم؛ فقال جماعة من العلماء وأهل الحديث: إنّه يكفي في اليدينِ الرّاحتان، وظاهرُ الكفَّين؛ لحديث عمّار هذا، وقد رُوِيَت عن عمّارٍ روايات بخلاف هذا؛ لكنّ الأصحَّ ما في الصّحيحين، وقد كان يُفتي به بعد موت النّبيِّ صلى الله عليه وسلم. وقال آخرون: إنّها تجب ضربتانِ، ومسح اليدين مع الْمِرفَقين؛ لحديث ابن عمر، والأصحُّ فيه أنّه موقوف، فلا يقاوم حديث عمّار المرفوع الوارد للتّعليم
[33]
.
14. اختُلف في نفخ التّراب، فقيل: هو مندوب. وقيل: لا يُندَب
[34]
.
15. في الحديث من الفقه أَنَّ المتأوِّل المجتهد لا إعادةَ عليه؛ لأن النبيَّ صلى الله عليه وسلم لم يأمر عمَّارًا بالإعادة، وإن كان خطَّأ اجتهادَه؛ لأنه إنما ترك هيئة الطهارة، وقد جاء بها على غير هَيئتها، وأكمل مما يلزمه
[35]
. الفوائد الحديثية:
1. قال العلماء: كلُّ ما عدا حديثَ عمّارٍ في التيمُّم فهو ضعيف أو موقوف
[36]
.
2. لعمار بن ياسر – رضي الله عنه - في "مُسْنَدِ بَقِيٍّ" اثْنَانِ وَسِتُّونَ حَدِيثًا، منها في "الصحيحين" خَمْسَةٌ. النقول:
قال الشوكانيُّ رحمه الله: "التّيمُّمُ في اللّغة: القَصْدُ. قال الأزهريُّ: التّيمُّم في كلام العرب القَصْدُ، يُقال: تَيَمَّمْتُ فُلَانًا وَتَأَمَّمْتُهُ وَيَمَّمْتُهُ وَأَمَمْتُهُ؛ أَيْ: قَصَدْتُهُ. وفي الشّرع: القَصْدُ إلى الصَّعيد لمسح الوجهِ واليدَيْنِ بنيَّة استباحة الصَّلاة ونحوِها؛ قاله في الفتح. واعلم أنَّ التّيمُّم ثابت بالكتاب والسُّنَّة والإجماع. وهي خَصِيصة خصَّص اللّه تعالى بها هذه الأمَّة. قال في الفتح: واختُلف هل التّيمّم عزيمةٌ أو رخصة؟ وفصَّل بعضهم فقال: هو لعَدَم الماء عزيمةٌ، وللعُذر رخصة"
[38]
.
قال الصنعانيُّ رحمه الله: "قال: (بَعَثني رسول اللّه صلى الله عليه وسلم في حاجة فأجنبتُ)؛ أي: صرتُ جُنُبًا، وقدَّمنا أنّه يُقال: أَجنَب الرّجل صارَ جُنبًا، ولا يُقال: اجتَنَب، وإن كَثُر في لسان الفقهاء. (فلم أجد الماء فتَمَرَّغت)، وفي لفظ: (فتمَعَّكتُ)، ومعناه: تقلّبتُ (في الصّعيد كما تتمرَّغ الدّابَّة ثمّ أتيت النّبيّ صلى الله عليه وسلم فذكرت له ذلك فقال: «إنّما كان يكفيك أن تقول»؛ أي: تَفعَل، والقولُ يُطلَق على الفعل؛ كقولهم: قال بيدِه هكذا. «بيدَيْك هكذا»: بيَّنه بقوله: «ثمّ ضرب بيدَيه الأرض ضربةً واحدةً، ثمّ مسح الشّمال على اليمين، وظاهر كفَّيه، ووجهه» متّفق عليه بين الشّيخين، واللّفظ لمسلم"
[39]
.
قال الشوكانيُّ رحمه الله: "والحديث يدلُّ على مشروعيَّة التّيمُّم للصّلاة عند عَدَم الماء من غير فرق بين الجُنُب وغيره، وقد أجمع على ذلك العلماء، ولم يُخالف فيه أحدٌ من الخَلَف ولا من السَّلَف إلَّا ما جاء عن عمرَ بنِ الخطَّاب وعبدِ اللّه بن مسعود، وحُكِيَ مثلُه عن إبراهيمَ النَّخَعِيِّ من عدم جوازه للجُنُب، وقيل: إنَّ عمرَ وعبدَ اللّه رَجَعا عن ذلك. وقد جاءت بجوازه للجُنُب الأحاديث الصّحيحة. وإذا صلَّى الجُنُب بالتّيمُّم ثمَّ وجد الماء، وَجَب عليه الاغتسال بإجماع العلماء، إلَّا ما يُحكى عن أبي سلمةَ بنِ عبد الرّحمن الإمامِ التّابعيِّ أنّه قال: لا يَلزَمُه، وهو مَذهَب متروك بإجماع مَن بَعدَه ومن قَبلَه، وبالأحاديث الصّحيحة المشهورة في أمره صلى الله عليه وسلم للجُنُب بغَسل بَدَنه إذا وَجَد الماء"
[40]
.
قال ابن باز رحمه الله: "التيمُّم الصحيح مثل ما قال الله عزَّ وجلَّ: {وَإِن كُنتُم مَّرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاء أَحَدٌ مَّنكُم مِّنَ الْغَائِطِ أَوْ لاَمَسْتُمُ النِّسَاء فَلَمْ تَجِدُواْ مَاء فَتَيَمَّمُواْ صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُواْ بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُم مِّنْهُ} [المائدة: ٦] المشروع ضربةٌ واحدة للوجه والكفَّين، وصفةُ ذلك أنه يَضرِب التراب بيدَيه ضربةً واحدة، ثم يَمسَح بهما وجهه وكفَّيه، كما في الصحيحين أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال لعمَّارِ بنِ ياسرٍ رضي الله عنه: «إنما يَكفِيكَ أن تقول بيدَيك هكذا، ثم ضَرَب بيدَيه الأرضَ، ومسح بهما وجهَه وكفَّيه».
ويُشترَط أن يكون التراب طاهرًا، ولا يُشرع مسح الذراعين؛ بل يكفي مسح الوجه والكفَّين للحديث المذكور. ويقوم التيمُّم مقام الماء في رفع الحدث على الصحيح، فإذا تيمَّم صلَّى بهذا التيمُّم النافلةَ والفريضة الحاضرة والمستقبَلة، ما دام على طهارة، حتى يُحدِث أو يَجِد الماء إن كان عادمًا له، أو حتى يستطيع استعماله إذا كان عاجزًا عن استعماله، فالتيمُّم طهور يقوم مقام الماء كما سمَّاه النبيُّ صلى الله عليه وسلم طهورًا"
[41]
.
قال الصنعانيُّ رحمه الله: "استعمل عمّارٌ القياس، فرأى أنّه لَمَّا كان التّراب نائبًا عن الغُسل، فلا بدَّ من عمومه للبَدَن، فأبان له صلى الله عليه وسلم الكيفيّة الّتي تُجزئه، وأراه الصّفة المشروعة، وأَعلَمه أنّها فُرضت عليه، ودلَّ أنّه يكفي ضربةٌ واحدة، ويكفي في اليدَين مسحُ الكفَّين، وأنّ الآية مُجمَلة بيَّنها صلى الله عليه وسلم بالاقتصار على الكفَّين، وأفاد أنّ التّرتيب بين الوجه والكفَّين غير واجب، وإن كانت الواو لا تُفيد التّرتيب، إلّا أنّه قد ورد العطف في رواية للبخاريِّ للوجهِ على الكفَّين بـ(ثُمَّ)، وفي لفظ لأبي داود: «ثمّ ضرب بشِماله على يمينه، وبيمينه على شماله على الكفَّين، ثمّ مسح وجهه» وفي لفظ للإسماعيليِّ ما هو أوضحُ من هذا: «إنّما يكفيك أن تضرب بيدَيْكَ على الأرض، ثمّ تَنْفُضَهما، ثمّ تمسح بيمينك على شمالك، وبشمالك على يمينك، ثمّ تمسح على وجهك». ودلَّ أنّ التَّيمُّم فرض من أَجنَب ولم يَجِدِ الماء"
[42]
.
قال ابن الجوزيِّ رحمه الله: "وَقد دلَّ حديث عمَّار هذا على أنه يجوز الِاقْتِصَارُ فِي التَّيَمُّم على الْوَجْه وَالْكَفَّيْنِ بضَربة واحدة، وهو قولُ مالك وَدَاوُد، وقال أَبُو حنيفةَ وَالشَّافِعِيُّ فِي الْجَدِيد: لَا يُجْزِيه إِلَّا أَن يمسح إِلَى الْمِرْفَقين. وَلَا يخْتَلف أَصْحَابُنا في جَوَاز الْأَمريْنِ؛ إِنَّمَا اخْتلفُوا فِي الْمَسْنُون: فَقَالَ القَاضِي أَبُو يعلى: الْمسنون أَن يَضْرب ضربتين، يَمسَح بِوَاحِدَة وَجهَه وبالأخرى يَدَيْهِ إلى الْمِرْفَقين، فإن ضَرَب ضَرْبَة فمسح بها وجهَه وكفَّيه جَازَ. وقال أبو الخطَّاب الكلواذانيُّ: بل الْمَسنون عندَ أَحْمدَ ضَرْبَةٌ واحدة للْوَجْه والكَفَّيْنِ. وقال أبو الْوَفَاء بنُ عقيل: ظَاهرُ كلام أَحْمدَ يدلُّ على أَن الْمَسْح إلى الْمِرْفَقين جائز، وليس بمستحَبٍّ"
[43]
.
قال الصنعانيُّ رحمه الله: "وقد اختُلف في كمِّيَّة الضّربات، وقدر التّيمُّم في اليدين، فذهب جماعة من السَّلف ومَن بعدهم إلى أنّها تكفي الضَّربة الواحدة، وذهب إلى أنّها لا تكفي الضّربة الواحدة جماعةٌ من الصّحابة ومَن بعدهم، وقالوا: لا بدَّ من ضربتينِ، والذّاهبون إلى كفاية الضَّربة جمهورُ العلماء وأهلُ الحديث؛ عملًا بحديث عمَّارٍ؛ فإنّه أصحُّ حديث في الباب، وحديث الضَّربتين لا يَقْوى على معارضته. قالوا: وكلُّ ما عدا حديثَ عمّارٍ فهو ضعيف أو موقوف.
وأمّا قَدْرُ ذلك في اليدين، فقال جماعة من العلماء وأهل الحديث: إنّه يكفي في اليدينِ الرّاحتان، وظاهرُ الكفَّين؛ لحديث عمّار هذا، وقد رُوِيَت عن عمّارٍ روايات بخلاف هذا؛ لكنّ الأصحَّ ما في الصّحيحين، وقد كان يُفتي به بعد موت النّبيِّ صلى الله عليه وسلم. وقال آخرون: إنّها تجب ضربتانِ، ومسح اليدين مع الْمِرفَقين؛ لحديث ابن عمر، والأصحُّ فيه أنّه موقوف، فلا يقاوم حديث عمّار المرفوع الوارد للتّعليم، ومن ذلك اختلافُهم في التّرتيب بين الوجه واليدين، وحديث عمّار كما عرفتَ قاضٍ بأنّه لا يَجِب، وإليه ذهب من قال بالضَّربتين، إلا أنّه قال: لا بدَّ من التّرتيب بتقديم الوجه على اليدين، واليُمنى على اليسرى"
[44]
.
قال القاضي عياض رحمه الله: "وقوله صلى الله عليه وسلم: «إنما كان يكفيك هكذا، وضرب بكفَّيه الأرض ونَفَخ فيهما»، يُحتجُّ به في نفض اليدين، وقد أجاز مالك النَّفْضَ الخفيف في ذلك، وهو قول الكوفيين. وقوله: (فمسح بها وجَهه وكفَّيه): في ظاهره حُجَّةٌ لمن يرى الفرض ضربةً واحدةً، وهو قول بعض أصحابنا، ودليلُ قول مالكٍ، وأنه لا إعادة على مَن فَعَله، أو يُعيد في الوقت، وأن الضَّربة الثانية عنده سنَّةٌ، وجمهور العلماء على أنه لا يُجزيه إِلا ضربتان، وهو قول بعض أصحابنا، وَجَعله بعضهم قول مالك، ويَحتجُّ بها أيضًا من يقول: التيمُّم إلى الكُوعينِ، وهو قول جماعة من العلماء وفقهاء أصحاب الحديث، وبعض أصحابنا، وتأوَّلوها على رواية ابن القاسم عن مالك فيمن صلَّى بذلك أنه يُعيد في الوقت، والمعروف من مذهب مالك أن فَرْضه إلى الْمِرفَقين، وهو قول أكثرِ أئمَّة الفتوى والسلف. وقوله في الرواية الأخرى: «يمسح الشمال على اليمين وظاهِر كفّه»: تفسيرٌ لصفة المسح وعمومه"
[45]
.
قال ابن الجوزيِّ رحمه الله: "قَوله: (فتمرَّغت فِي الصَّعِيد كَمَا تتمرَّغ الدَّابَّة)، وَإِنَّمَا فعل هَذَا لِأَنَّهُ رأى التُّرَاب بَدَلًا عَن الْمَاء، فَاسْتَعْملهُ فِي جَمِيع الْبَدَن، فَأَما الصَّعِيد، فهو التُّرَاب؛ قَالَه عَليٌّ وَابْنُ مَسْعُود واللغويون، منهم الْفرَّاء وأبو عُبيد والزجَّاج وابن قُتَيْبَة.
وقال الشَّافِعِيُّ: لا يقع اسم (الصَّعِيد) إِلَّا على تُرَاب ذي غُبَار؛ فعلى هذا لا يجوز التَّيَمُّم إِلَّا بِالتُّرَابِ، وهو قَول أَحْمدَ وَالشَّافِعِيِّ ودَاوُدَ. وقال أَبُو حنيفة ومالك: يجوز بجميع أجزاء الأرض كالنورة والجصِّ والزَّرنيخ وَغَيرِه. وزاد مالكٌ فقال: ويجوز بالحَشِيش والشَّجر؛ فعلى هذا يكون الصَّعِيد عندهما ما تَصاعَد على وَجه الأرض، سَوَاءٌ كان تُرَابًا أَو غَيرَه، ولا خلاف أنه إِذا ضَرَب بيَده على الطِّين أنه لا يُجْزِيه، وَقد سلَّم خَصْمُنا بُرادة الذَّهَب وَالْفِضَّة، والصفر والنُّحاس، والدَّقيق وسحيق الزّجاج، والجوَّهر والصَّندل، ونحاتة الْخشب، وَنَحْو ذَلِك، فَأَمَّا الرَّمْلُ فلأبي حنيفَةَ وَأحمدَ فِيهِ رِوَايتانِ"
[46]
.
قال الصنعانيُّ رحمه الله: "وفي حديث عمّار دلالة على أنّ المشروع هو ضرب التّراب، وقال بعدم إجزاء غيره الهادويّة وغيرهم؛ لحديث عمّار هذا، وحديث ابن عمر، وقال الشّافعيُّ: يُجزئ وضع يده في التُّراب؛ لأنّ في إحدى روايتي تيمُّمه صلى الله عليه وسلم من الجدار، أنّه وضع يده. وفي رواية أيٍّ من حديث عمّار للبخاريِّ: «وضرب بكفَّيه الأرض ونفخ فيهما، ثمّ مسح بهما وجهه وكفَّيه»؛ أي: ظاهرهما كما سلف، وهو كاللّفظ الأوّل، إلّا أنّه خالفه بالتّرتيب وزيادة النّفخ، فأمّا نفخ التّراب فهو مندوب. وقيل: لا يُندَب، وهذا التّيمُّم وارد في كفاية التّراب للجُنُب الفاقد للماء، وقد قاسُوا عليه الحائض والنُّفساء، وخالف فيه ابن عمر وابن مسعود"
[47]
.
قال القاضي عياض رحمه الله: "وفيه جواز الاجتهاد في زمان النبيِّ صلى الله عليه وسلم عند الضرورة والبُعد منه؛ كما قال معاذٌ - رضي الله عنه - له: (أجتهد رأيي)، واستعمال القياس؛ لأنه لَمَّا رأى آية التيمُّم في الوضوء في بعض الأعضاء - إذ كان الوضوء مختصًّا ببعض الأعضاء - وكان طُهر الجنابة لعموم الجسد، استعمل التيمُّم بالتراب في جميع الجسد"
[48]
.
قال ابن الجوزيِّ رحمه الله: "وقولُه: (ونَفَض يَدَيْهِ). وَفِي لفظ: «يَكْفِيكَ أَن تضرب بيديك الأَرْض ثمَّ تَنفُخ»: يَحْتَجُّ به مَن يرى جَوَاز الضَّرْب على حَجَر لَا غُبَار لَهُ، وهو مَذْهَب أبي حنيفةَ ومالك. وعند أَحْمد وَالشَّافِعِيِّ: لا بدَّ من غُبَار يَعلَق بِالْيَدِ؛ لقَوْله تَعَالَى: ﱡ ﱭ ﱮ ﱯ ﱰ ﱠ [المائدة: ٦]، و"من" للتَّبْعِيض. وَأما نفضُ الْيَد ونفخُها، فَالْمُرَاد بِهِ تَخْفيُف مَا تعلَّق بِالْيَدِ؛ فإنَّه قد تعلَّق بها الكثير، والنفخ لا يَدفَع الْخَفِيف، وبه تقع الكفاية"
[49]
.
قال القاضي عياض رحمه الله: "وفيه من الفقه أَنَّ المتأوِّل المجتهد لا إعادةَ عليه؛ لأن النبيَّ صلى الله عليه وسلم لم يأمر عمَّارًا بالإعادة، وإن كان خطَّأ اجتهادَه؛ لأنه إنما ترك هيئة الطهارة، وقد جاء بها على غير هَيئتها، وأكمل مما يلزمه. وقوله: (فنفض يدَيه فنفخ فيهما): حُجَّة لمن أجاز نفض اليدين من التراب، وهو قول مالك والشافعيِّ، دون استقصاء لما فيهما من التراب؛ لكن لخشية ما يضرُّ به من ذلك من كثرته بتلويث وجهه، أو مُصادفة رُقاق حجرٍ فيه يُؤذيه ونحوه، وكان ابن عمر لا ينفُض"
[50]
.
ترجمة راوي الحديث:
هو: عمَّارُ بنُ ياسرِ بنِ عامرِ، الإمامُ الكبير، أبو اليَقْظَانِ العَنْسِيُّ الْمَكِّيُّ، مَوْلَى بَنِي مَخْزُومٍ، أَحَدُ السَّابقين الأَوَّلِين، والأعيانِ البَدْرِيِّينَ، كان هو وأبوه وأمُّه ممَّن يُعذَّب في الله، فكان يمرُّ عليهم النبيُّ صلى الله عليه وسلم فيقول: «صَبْرًا آلَ ياسرٍ؛ فإنَّ مَوْعدَكم الجنَّة». وَأُمُّهُ هِيَ سُمَيَّةُ مَوْلاةُ بَنِي مَخْزومٍ، مِن كِبَارِ الصَّحَابِيَّاتِ، طعنها أبو جهل بِحَرْبَته في قُبُلها حتى قَتَلها، فكانت أوَّلَ شهيدة في الإِسلام. اختُلِف في هجرته إلى الحبشة، وهاجَر إلى المدينة، وشَهِد المشاهدَ كلَّها، ثم شَهِد اليمامةَ فقُطِعت أُذُنه بها، ثم استعمله عمرُ على الكوفة، وكتب إليهم: إنه من النُّجباء من أصحاب محمَّد. فيه أنزل اللَّه عزَّ وجلَّ: {إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ} [النحل: ١٠٦]. لَهُ عِدَّةُ أَحَادِيْثَ؛ فَفِي "مُسْنَدِ بَقِيٍّ" لَهُ اثْنَانِ وَسِتُّونَ حَدِيثًا، مِنْهَا فِي "الصحيحين" خَمْسَةٌ. قُتل عمَّارٌ مع عليِّ بْن أَبي طالب بصفِّينَ سنة سبع وثلاثين، ودُفِن هناك بصِفِّين. وكان النَّبِيُّ قد قَالَ له: «تَقْتُلُكَ الفِئَةُ البَاغِيَةُ» [2] .
هو: عمَّارُ بنُ ياسرِ بنِ عامرِ، الإمامُ الكبير، أبو اليَقْظَانِ العَنْسِيُّ الْمَكِّيُّ، مَوْلَى بَنِي مَخْزُومٍ، أَحَدُ السَّابقين الأَوَّلِين، والأعيانِ البَدْرِيِّينَ، كان هو وأبوه وأمُّه ممَّن يُعذَّب في الله، فكان يمرُّ عليهم النبيُّ صلى الله عليه وسلم فيقول: «صَبْرًا آلَ ياسرٍ؛ فإنَّ مَوْعدَكم الجنَّة». وَأُمُّهُ هِيَ سُمَيَّةُ مَوْلاةُ بَنِي مَخْزومٍ، مِن كِبَارِ الصَّحَابِيَّاتِ، طعنها أبو جهل بِحَرْبَته في قُبُلها حتى قَتَلها، فكانت أوَّلَ شهيدة في الإِسلام. اختُلِف في هجرته إلى الحبشة، وهاجَر إلى المدينة، وشَهِد المشاهدَ كلَّها، ثم شَهِد اليمامةَ فقُطِعت أُذُنه بها، ثم استعمله عمرُ على الكوفة، وكتب إليهم: إنه من النُّجباء من أصحاب محمَّد. فيه أنزل اللَّه عزَّ وجلَّ: {إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ} [النحل: ١٠٦]. لَهُ عِدَّةُ أَحَادِيْثَ؛ فَفِي "مُسْنَدِ بَقِيٍّ" لَهُ اثْنَانِ وَسِتُّونَ حَدِيثًا، مِنْهَا فِي "الصحيحين" خَمْسَةٌ. قُتل عمَّارٌ مع عليِّ بْن أَبي طالب بصفِّينَ سنة سبع وثلاثين، ودُفِن هناك بصِفِّين. وكان النَّبِيُّ قد قَالَ له: «تَقْتُلُكَ الفِئَةُ البَاغِيَةُ» [2] .
المعنى الإجماليُّ للحديث:
(يروي عمَّارِ بنِ ياسرٍ رضي الله عنهما قال: بَعَثَنِي رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فِي حَاجَةٍ فَأَجْنَبْتُ)؛ أي: صرتُ جُنُبًا. (فَلَمْ أَجِدِ الْمَاءَ، فَتَمَرَّغْتُ فِي الصَّعِيدِ كَمَا تَمَرَّغُ الدَّابَّةُ)؛ أي: فتقلَّبتُ في التُّراب على الأرض كما تتقلَّب الدابَّة. (ثُمَّ أَتَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لَهُ)؛ أي: حتى يُعلِّمني أصَوَابٌ ما فعلتُ أم خطأ؟
فَقَالَ صلى الله عليه وسلم: «إِنَّمَا كَانَ يَكْفِيكَ أَنْ تَقُولَ بِيَدَيْكَ هَكَذَا»؛ أي: فعلَّمه النبيُّ صلى الله عليه وسلم أن ما فعله خطأ، وعلَّمه الصواب؛ فقال له: إنما كان يكفيك أن تَفعَل هكذا.
(ثُمَّ ضَرَبَ بِيَدَيْهِ الْأَرْضَ ضَرْبَةً وَاحِدَةً، ثُمَّ مَسَحَ الشِّمَالَ عَلَى الْيَمِينِ، وَظَاهِرَ كَفَّيْهِ، وَوَجْهَهُ)؛ أي: كان يَكفِيكَ أن تَضرِب الأرضَ ضَرْبةً واحدة، ثم تمسح الكفَّيْنِ، ثم تمسح بهما وجهك وكفَّيك.
(يروي عمَّارِ بنِ ياسرٍ رضي الله عنهما قال: بَعَثَنِي رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فِي حَاجَةٍ فَأَجْنَبْتُ)؛ أي: صرتُ جُنُبًا. (فَلَمْ أَجِدِ الْمَاءَ، فَتَمَرَّغْتُ فِي الصَّعِيدِ كَمَا تَمَرَّغُ الدَّابَّةُ)؛ أي: فتقلَّبتُ في التُّراب على الأرض كما تتقلَّب الدابَّة. (ثُمَّ أَتَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لَهُ)؛ أي: حتى يُعلِّمني أصَوَابٌ ما فعلتُ أم خطأ؟
فَقَالَ صلى الله عليه وسلم: «إِنَّمَا كَانَ يَكْفِيكَ أَنْ تَقُولَ بِيَدَيْكَ هَكَذَا»؛ أي: فعلَّمه النبيُّ صلى الله عليه وسلم أن ما فعله خطأ، وعلَّمه الصواب؛ فقال له: إنما كان يكفيك أن تَفعَل هكذا.
(ثُمَّ ضَرَبَ بِيَدَيْهِ الْأَرْضَ ضَرْبَةً وَاحِدَةً، ثُمَّ مَسَحَ الشِّمَالَ عَلَى الْيَمِينِ، وَظَاهِرَ كَفَّيْهِ، وَوَجْهَهُ)؛ أي: كان يَكفِيكَ أن تَضرِب الأرضَ ضَرْبةً واحدة، ثم تمسح الكفَّيْنِ، ثم تمسح بهما وجهك وكفَّيك.
الشرح المفصَّل للحديث:
إن التيمُّم يرفَعُ الحدَث رَفْعًا مؤقَّتًا إلى حينِ وُجودِ الماء، ويُبيح فعل الصَّلاةِ والطَّواف وغيرِها من العِبادات، وهو رُخصةٌ شَرَعها اللهُ تعالى لعِبادِه عندَ فَقْدِ الماءِ، أو العجزِ عن استِعمالِه؛ تيسيرًا عليهم، وإن الله تعالى يحبُّ أن تؤتى رُخَصُه؛ عن ابن عُمَرَ، قال: قال رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ أَنْ تُؤْتَى رُخَصُهُ كَمَا يَكْرَهُ أَنْ تُؤْتَى مَعْصِيَتُهُ» [3] ، "واختُلف هل التّيمُّم عزيمةٌ أو رخصة؟ وفصَّل بعضهم فقال: هو لعَدَم الماء عزيمةٌ، وللعُذر رخصة" [4] .
و"التّيمُّمُ في اللّغة وفي كلام العرب: القَصْدُ، يُقال: تَيَمَّمْتُ فُلَانًا وَتَأَمَّمْتُهُ وَيَمَّمْتُهُ وَأَمَمْتُهُ؛ أَيْ: قَصَدْتُهُ. وفي الشّرع: القَصْدُ إلى الصَّعيد لمسح الوجهِ واليدَيْنِ بنيَّة استباحة الصَّلاة ونحوِها" [5] .
"واعلم أنَّ التّيمُّم ثابت بالكتاب والسُّنَّة والإجماع، وهو خَصِيصةٌ خصَّ اللّه تعالى بها هذه الأمَّة" [6] ؛ فعن جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «أُعْطِيتُ خَمْسًا لَمْ يُعْطَهُنَّ أَحَدٌ قَبْلِي: نُصِرْتُ بِالرُّعْبِ مَسِيرَةَ شَهْرٍ، وَجُعِلَتْ لِي الأَرْضُ مَسْجِدًا وَطَهُورًا، فَأَيُّمَا رَجُلٍ مِنْ أُمَّتِي أَدْرَكَتْهُ الصَّلاَةُ فَلْيُصَلِّ، وَأُحِلَّتْ لِي الْمَغَانِمُ وَلَمْ تَحِلَّ لِأَحَدٍ قَبْلِي، وَأُعْطِيتُ الشَّفَاعَةَ، وَكَانَ النَّبِيُّ يُبْعَثُ إِلَى قَوْمِهِ خَاصَّةً، وَبُعِثْتُ إِلَى النَّاسِ عَامَّةً» [7] .
وقد روت السيدة عَائِشَةُ – رضي الله عنها – عن سبب نزول آية التيمُّم، قَالَتْ: خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي بَعْضِ أَسْفَارِهِ، حَتَّى إِذَا كُنَّا بِالْبَيْدَاءِ أَوْ بِذَاتِ الجَيْش، انْقَطَعَ عِقْدٌ لِي، فَأَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى الْتِمَاسِهِ، وَأَقَامَ النَّاسُ مَعَهُ وَلَيْسُوا عَلَى مَاءٍ، فَأَتَى النَّاسُ إِلَى أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ، فَقَالُوا: أَلاَ تَرَى مَا صَنَعَتْ عَائِشَةُ؟ أَقَامَتْ بِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَالنَّاسِ وَلَيْسُوا عَلَى مَاءٍ، وَلَيْسَ مَعَهُمْ مَاءٌ، فَجَاءَ أَبُو بَكْرٍ وَرَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَاضِعٌ رَأْسَهُ عَلَى فَخِذِي قَدْ نَامَ، فَقَالَ: حَبَسْتِ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَالنَّاسَ، وَلَيْسُوا عَلَى مَاءٍ، وَلَيْسَ مَعَهُمْ مَاءٌ، فَقَالَتْ عَائِشَةُ: فَعَاتَبَنِي أَبُو بَكْرٍ، وَقَالَ: مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَقُولَ، وَجَعَلَ يَطْعُنُنِي بِيَدِهِ فِي خَاصِرَتِي، فَلاَ يَمْنَعُنِي مِنَ التَّحَرُّكِ إِلَّا مَكَانُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى فَخِذِي، فَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حِينَ أَصْبَحَ عَلَى غَيْرِ مَاءٍ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ آيَةَ التَّيَمُّمِ، فَتَيَمَّمُوا، فَقَالَ أُسَيْدُ بْنُ الحُضَيْرِ: مَا هِيَ بِأَوَّلِ بَرَكَتِكُمْ يَا آلَ أَبِي بَكْرٍ، قَالَتْ: فَبَعَثْنَا البَعِيرَ الَّذِي كُنْتُ عَلَيْهِ، فَأَصَبْنَا العِقْدَ تَحْتَهُ [8] .
وفي هذا الحديث يروي عمَّارِ بنِ ياسرٍ رضي الله عنهما قال: (بَعَثَنِي رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فِي حَاجَةٍ فَأَجْنَبْتُ)؛ أي: صرتُ جُنُبًا، يُقال: أَجنَب الرَّجُل صارَ جُنبًا، (فَلَمْ أَجِدِ الْمَاءَ، فَتَمَرَّغْتُ فِي الصَّعِيدِ كَمَا تَمَرَّغُ الدَّابَّةُ)؛ أي: فتقلَّبتُ في التراب على الأرض كما تتقلَّب الدابَّة، "وَإِنَّمَا فعل هذا لأنه رأى التُّرَاب بَدَلًا عن الماء، فاسْتَعْمله في جَمِيع الْبَدَن، فأما الصَّعِيدُ، فهو التُّرَاب؛ قاله عَليٌّ وَابْنُ مَسْعُود واللغويون، منهم الْفرَّاء وأبو عُبيد والزجَّاج وابن قُتَيْبَة. وقال الشَّافِعِيُّ: لا يقع اسم (الصَّعِيد) إِلَّا على تُرَاب ذي غُبَار؛ فعلى هذا لا يجوز التَّيَمُّم إِلَّا بِالتُّرَابِ، وهو قَول أَحْمدَ وَالشَّافِعِيِّ ودَاوُدَ. وقال أَبُو حنيفة ومالك: يجوز بجميع أجزاء الأرض كالنورة والجصِّ والزَّرنيخ وَغَيرِه. وزاد مالكٌ فقال: ويجوز بالحَشِيش والشَّجر؛ فعلى هذا يكون الصَّعِيد عندهما ما تَصاعَد على وَجه الأرض، سَوَاءٌ كان تُرَابًا أَو غَيرَه، ولا خلاف أنه إِذا ضَرَب بيَده على الطِّين أنه لا يُجْزِيه... فَأَمَّا الرَّمْلُ فلأبي حنيفةَ وأحمدَ فيه رِوَايتانِ" [9] .
"وفي الحديث جوازُ الاجتهاد في زمان النبيِّ صلى الله عليه وسلم عند الضرورة والبُعد منه؛ كما قال معاذٌ - رضي الله عنه - له: (أجتهد رأيي)، واستعمال القياس؛ لأنه لَمَّا رأى آية التيمُّم في الوضوء في بعض الأعضاء - إذ كان الوضوء مختصًّا ببعض الأعضاء - وكان طُهر الجنابة لعموم الجسد، استعمل التيمُّم بالتراب في جميع الجسد" [10] .
قوله: (ثُمَّ أَتَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لَهُ)؛ أي: حتى يعلِّمني أصَوَابٌ ما فعلتُ أم خطأ؟
فَقَالَ صلى الله عليه وسلم: «إِنَّمَا كَانَ يَكْفِيكَ أَنْ تَقُولَ بِيَدَيْكَ هَكَذَا»؛ أي: تَفعَل، والقولُ يُطلَق على الفعل؛ كقولهم: قال بيدِه هكذا. ثم بيَّنه بقوله: (ثُمَّ ضَرَبَ بِيَدَيْهِ الْأَرْضَ ضَرْبَةً وَاحِدَةً، ثُمَّ مَسَحَ الشِّمَالَ عَلَى الْيَمِينِ، وَظَاهِرَ كَفَّيْهِ، وَوَجْهَهُ)؛ أي: كان يَكفِيكَ أن تَضرِب الأرضَ ضَرْبةً واحدة، ثم تمسح الكفَّيْنِ، ثم تمسح بهما وجهك وكفَّيك.
"استعمل عمّارٌ القياس، فرأى أنّه لَمَّا كان التّراب نائبًا عن الغُسل، فلا بدَّ من عمومه للبَدَن، فأبان له صلى الله عليه وسلم الكيفيّة الّتي تُجزئه، وأراه الصّفة المشروعة، وأَعلَمه أنّها فُرضت عليه، ودلَّ أنّه يكفي ضربةٌ واحدة، ويكفي في اليدَين مسحُ الكفَّين، وأنّ الآية مُجمَلة بيَّنها صلى الله عليه وسلم بالاقتصار على الكفَّين، وأفاد أنّ التّرتيب بين الوجه والكفَّين غير واجب، وإن كانت الواو لا تُفيد التّرتيب، إلّا أنّه قد ورد العطف في رواية للبخاريِّ للوجهِ على الكفَّين بـ(ثُمَّ)، وفي لفظ لأبي داود: «ثمّ ضرب بشِماله على يمينه، وبيمينه على شماله على الكفَّين، ثمّ مسح وجهه» وفي لفظ للإسماعيليِّ ما هو أوضحُ من هذا: «إنّما يكفيك أن تضرب بيدَيْكَ على الأرض، ثمّ تَنْفُضَهما، ثمّ تمسح بيمينك على شمالك، وبشمالك على يمينك، ثمّ تمسح على وجهك». ودلَّ أنّ التَّيمُّم فرض من أَجنَب ولم يَجِدِ الماء" [11] .
"والحديث يدلُّ على مشروعيَّة التّيمُّم للصّلاة عند عَدَم الماء من غير فرق بين الجُنُب وغيره، وقد أجمع على ذلك العلماء، ولم يُخالف فيه أحدٌ من الخَلَف ولا من السَّلَف إلَّا ما جاء عن عمرَ بنِ الخطَّاب وعبدِ اللّه بن مسعود، وحُكِيَ مثلُه عن إبراهيمَ النَّخَعِيِّ من عدم جوازه للجُنُب، وقيل: إنَّ عمرَ وعبدَ اللّه رَجَعا عن ذلك. وقد جاءت بجوازه للجُنُب الأحاديث الصّحيحة. وإذا صلَّى الجُنُب بالتّيمُّم ثمَّ وجد الماء، وَجَب عليه الاغتسال بإجماع العلماء، إلَّا ما يُحكى عن أبي سلمةَ بنِ عبد الرّحمن الإمامِ التّابعيِّ أنّه قال: لا يَلزَمُه، وهو مَذهَب متروك بإجماع مَن بَعدَه ومن قَبلَه، وبالأحاديث الصّحيحة المشهورة في أمره صلى الله عليه وسلم للجُنُب بغَسل بَدَنه إذا وَجَد الماء" [12] .
و"التيمُّم الصحيح مثلما قال الله عزَّ وجلَّ: {وَإِن كُنتُم مَّرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاء أَحَدٌ مَّنكُم مِّنَ الْغَائِطِ أَوْ لاَمَسْتُمُ النِّسَاء فَلَمْ تَجِدُواْ مَاء فَتَيَمَّمُواْ صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُواْ بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُم مِّنْهُ} [المائدة: ٦] المشروع ضربةٌ واحدة للوجه والكفَّين، وصفةُ ذلك أنه يَضرِب التراب بيدَيه ضربةً واحدة، ثم يَمسَح بهما وجهه وكفَّيه؛ كما في الصحيحين أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال لعمَّارِ بنِ ياسرٍ رضي الله عنه: «إنما يَكفِيكَ أن تقول بيدَيك هكذا، ثم ضَرَب بيدَيه الأرضَ، ومسح بهما وجهَه وكفَّيه».
ويُشترَط أن يكون التراب طاهرًا، ولا يُشرع مسح الذراعين؛ بل يكفي مسح الوجه والكفَّين للحديث المذكور. ويقوم التيمُّم مقام الماء في رفع الحدث على الصحيح، فإذا تيمَّم صلَّى بهذا التيمُّم النافلةَ والفريضة الحاضرة والمستقبَلة، ما دام على طهارة، حتى يُحدِث أو يَجِد الماء إن كان عادمًا له، أو حتى يستطيع استعماله إذا كان عاجزًا عن استعماله، فالتيمُّم طُهور يقوم مقام الماء كما سمَّاه النبيُّ صلى الله عليه وسلم طهورًا" [13] .
"وقد اختُلف في كمِّيَّة الضّربات، وقدر التّيمُّم في اليدين، فذهب جماعة من السَّلف ومَن بعدهم إلى أنّها تكفي الضَّربة الواحدة، وذهب إلى أنّها لا تكفي الضّربة الواحدة جماعةٌ من الصّحابة ومَن بعدهم، وقالوا: لا بدَّ من ضربتينِ، والذّاهبون إلى كفاية الضَّربة جمهورُ العلماء وأهلُ الحديث؛ عملًا بحديث عمَّارٍ؛ فإنّه أصحُّ حديث في الباب، وحديث الضَّربتين لا يَقْوى على معارضته. قالوا: وكلُّ ما عدا حديثَ عمّارٍ فهو ضعيف أو موقوف.
وأمّا قَدْرُ ذلك في اليدين، فقال جماعة من العلماء وأهل الحديث: إنّه يكفي في اليدينِ الرّاحتان، وظاهرُ الكفَّين؛ لحديث عمّار هذا، وقد رُوِيَت عن عمّارٍ روايات بخلاف هذا؛ لكنّ الأصحَّ ما في الصّحيحين، وقد كان يُفتي به بعد موت النّبيِّ صلى الله عليه وسلم. وقال آخرون: إنّها تجب ضربتانِ، ومسح اليدين مع الْمِرفَقين؛ لحديث ابن عمر، والأصحُّ فيه أنّه موقوف، فلا يقاوم حديث عمّار المرفوع الوارد للتّعليم، ومن ذلك اختلافُهم في التّرتيب بين الوجه واليدين، وحديث عمّار كما عرفتَ قاضٍ بأنّه لا يَجِب، وإليه ذهب من قال بالضَّربتين، إلا أنّه قال: لا بدَّ من التّرتيب بتقديم الوجه على اليدين، واليُمنى على اليسرى" [14] .
"وقد دلَّ حديث عمَّار هذا على أنه يجوز الاقتصارُ في التَّيَمُّم على الوجه والكَفَّيْنِ بضَربة واحدة، وهو قولُ مالك وداود، وقال أبو حنيفةَ والشافعيُّ في الجديد: لا يُجْزِيه إِلَّا أن يمسح إلى الْمِرْفَقين. ولا يختلف أصحابُنا في جواز الأمرين؛ إنما اختلفوا في المسنون: فقال القاضي أبو يعلى: المسنون أن يَضْرب ضربتين، يَمسَح بواحدة وَجهَه وبالأخرى يَدَيْهِ إلى الْمِرْفَقين، فإن ضَرَب ضَرْبَة فمسح بها وجهَه وكفَّيه جاز. وقال أبو الخطَّاب الكلواذانيُّ: بل الْمَسنون عندَ أحمدَ ضَرْبَةٌ واحدة للوَجْه والكَفَّيْن. وقال أبو الوفاء بنُ عقيل: ظاهرُ كلام أحمدَ يدلُّ على أن المسح إلى الْمِرْفَقين جائز، وليس بمستحَبٍّ" [15] .
"وفي حديث عمّار دلالة على أنّ المشروع هو ضرب التّراب، وقال بعض الفقهاء بعدم إجزاء غيره؛ لحديث عمّار هذا، وحديث ابن عمر، وقال الشّافعيُّ: يُجزئ وضع يده في التُّراب؛ لأنّ في إحدى روايتَيْ تيمُّمه صلى الله عليه وسلم من الجدار، أنّه وضع يده. وفي رواية أيٍّ من حديث عمّار للبخاريِّ: «وضرب بكفَّيه الأرض ونفخ فيهما، ثمّ مسح بهما وجهه وكفَّيه»؛ أي: ظاهرهما كما سلف، وهو كاللّفظ الأوّل، إلّا أنّه خالفه بالتّرتيب وزيادة النّفخ، فأمّا نفخ التّراب فهو مندوب. وقيل: لا يُندَب، وهذا التّيمُّم وارد في كفاية التّراب للجُنُب الفاقد للماء، وقد قاسُوا عليه الحائض والنُّفَساء، وخالف فيه ابن عمر وابن مسعود" [16] .
"وقولُه: (ونَفَض يَدَيْهِ). وَفِي لفظ: «يَكْفِيكَ أَن تضرب بيديك الأَرْض ثمَّ تَنفُخ»: يَحْتَجُّ به مَن يرى جَوَاز الضَّرْب على حَجَر لَا غُبَار له، وهو مَذْهَب أبي حنيفةَ ومالك. وعند أحمد والشافعيِّ: لا بدَّ من غُبَار يَعلَق باليد؛ لقَوْله تَعَالَى: {فَامْسَحُواْ بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُم مِّنْهُ} [المائدة: ٦]، و"من" للتَّبْعِيض. وَأما نفضُ اليد ونفخُها، فالمراد به تخفيف ما تعلَّق باليد؛ فإنه قد تعلَّق بها الكثير، والنفخ لا يَدفَع الْخَفِيف، وبه تقع الكفاية" [17] .
"وفيه من الفقه أَنَّ المتأوِّل المجتهد لا إعادةَ عليه؛ لأن النبيَّ صلى الله عليه وسلم لم يأمر عمَّارًا بالإعادة، وإن كان خطَّأ اجتهادَه؛ لأنه إنما ترك هيئة الطهارة، وقد جاء بها على غير هَيئتها، وأكمل مما يلزمه. وقوله: (فنفض يدَيه فنفخ فيهما): حُجَّة لمن أجاز نفض اليدين من التراب، وهو قول مالك والشافعيِّ، دون استقصاء لما فيهما من التراب؛ لكن لخشية ما يضرُّ به من ذلك من كثرته بتلويث وجهه، أو مُصادفة رُقاق حجرٍ فيه يُؤذيه ونحوه، وكان ابن عمر لا ينفُض" [18] .
إن التيمُّم يرفَعُ الحدَث رَفْعًا مؤقَّتًا إلى حينِ وُجودِ الماء، ويُبيح فعل الصَّلاةِ والطَّواف وغيرِها من العِبادات، وهو رُخصةٌ شَرَعها اللهُ تعالى لعِبادِه عندَ فَقْدِ الماءِ، أو العجزِ عن استِعمالِه؛ تيسيرًا عليهم، وإن الله تعالى يحبُّ أن تؤتى رُخَصُه؛ عن ابن عُمَرَ، قال: قال رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ أَنْ تُؤْتَى رُخَصُهُ كَمَا يَكْرَهُ أَنْ تُؤْتَى مَعْصِيَتُهُ» [3] ، "واختُلف هل التّيمُّم عزيمةٌ أو رخصة؟ وفصَّل بعضهم فقال: هو لعَدَم الماء عزيمةٌ، وللعُذر رخصة" [4] .
و"التّيمُّمُ في اللّغة وفي كلام العرب: القَصْدُ، يُقال: تَيَمَّمْتُ فُلَانًا وَتَأَمَّمْتُهُ وَيَمَّمْتُهُ وَأَمَمْتُهُ؛ أَيْ: قَصَدْتُهُ. وفي الشّرع: القَصْدُ إلى الصَّعيد لمسح الوجهِ واليدَيْنِ بنيَّة استباحة الصَّلاة ونحوِها" [5] .
"واعلم أنَّ التّيمُّم ثابت بالكتاب والسُّنَّة والإجماع، وهو خَصِيصةٌ خصَّ اللّه تعالى بها هذه الأمَّة" [6] ؛ فعن جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «أُعْطِيتُ خَمْسًا لَمْ يُعْطَهُنَّ أَحَدٌ قَبْلِي: نُصِرْتُ بِالرُّعْبِ مَسِيرَةَ شَهْرٍ، وَجُعِلَتْ لِي الأَرْضُ مَسْجِدًا وَطَهُورًا، فَأَيُّمَا رَجُلٍ مِنْ أُمَّتِي أَدْرَكَتْهُ الصَّلاَةُ فَلْيُصَلِّ، وَأُحِلَّتْ لِي الْمَغَانِمُ وَلَمْ تَحِلَّ لِأَحَدٍ قَبْلِي، وَأُعْطِيتُ الشَّفَاعَةَ، وَكَانَ النَّبِيُّ يُبْعَثُ إِلَى قَوْمِهِ خَاصَّةً، وَبُعِثْتُ إِلَى النَّاسِ عَامَّةً» [7] .
وقد روت السيدة عَائِشَةُ – رضي الله عنها – عن سبب نزول آية التيمُّم، قَالَتْ: خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي بَعْضِ أَسْفَارِهِ، حَتَّى إِذَا كُنَّا بِالْبَيْدَاءِ أَوْ بِذَاتِ الجَيْش، انْقَطَعَ عِقْدٌ لِي، فَأَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى الْتِمَاسِهِ، وَأَقَامَ النَّاسُ مَعَهُ وَلَيْسُوا عَلَى مَاءٍ، فَأَتَى النَّاسُ إِلَى أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ، فَقَالُوا: أَلاَ تَرَى مَا صَنَعَتْ عَائِشَةُ؟ أَقَامَتْ بِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَالنَّاسِ وَلَيْسُوا عَلَى مَاءٍ، وَلَيْسَ مَعَهُمْ مَاءٌ، فَجَاءَ أَبُو بَكْرٍ وَرَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَاضِعٌ رَأْسَهُ عَلَى فَخِذِي قَدْ نَامَ، فَقَالَ: حَبَسْتِ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَالنَّاسَ، وَلَيْسُوا عَلَى مَاءٍ، وَلَيْسَ مَعَهُمْ مَاءٌ، فَقَالَتْ عَائِشَةُ: فَعَاتَبَنِي أَبُو بَكْرٍ، وَقَالَ: مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَقُولَ، وَجَعَلَ يَطْعُنُنِي بِيَدِهِ فِي خَاصِرَتِي، فَلاَ يَمْنَعُنِي مِنَ التَّحَرُّكِ إِلَّا مَكَانُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى فَخِذِي، فَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حِينَ أَصْبَحَ عَلَى غَيْرِ مَاءٍ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ آيَةَ التَّيَمُّمِ، فَتَيَمَّمُوا، فَقَالَ أُسَيْدُ بْنُ الحُضَيْرِ: مَا هِيَ بِأَوَّلِ بَرَكَتِكُمْ يَا آلَ أَبِي بَكْرٍ، قَالَتْ: فَبَعَثْنَا البَعِيرَ الَّذِي كُنْتُ عَلَيْهِ، فَأَصَبْنَا العِقْدَ تَحْتَهُ [8] .
وفي هذا الحديث يروي عمَّارِ بنِ ياسرٍ رضي الله عنهما قال: (بَعَثَنِي رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فِي حَاجَةٍ فَأَجْنَبْتُ)؛ أي: صرتُ جُنُبًا، يُقال: أَجنَب الرَّجُل صارَ جُنبًا، (فَلَمْ أَجِدِ الْمَاءَ، فَتَمَرَّغْتُ فِي الصَّعِيدِ كَمَا تَمَرَّغُ الدَّابَّةُ)؛ أي: فتقلَّبتُ في التراب على الأرض كما تتقلَّب الدابَّة، "وَإِنَّمَا فعل هذا لأنه رأى التُّرَاب بَدَلًا عن الماء، فاسْتَعْمله في جَمِيع الْبَدَن، فأما الصَّعِيدُ، فهو التُّرَاب؛ قاله عَليٌّ وَابْنُ مَسْعُود واللغويون، منهم الْفرَّاء وأبو عُبيد والزجَّاج وابن قُتَيْبَة. وقال الشَّافِعِيُّ: لا يقع اسم (الصَّعِيد) إِلَّا على تُرَاب ذي غُبَار؛ فعلى هذا لا يجوز التَّيَمُّم إِلَّا بِالتُّرَابِ، وهو قَول أَحْمدَ وَالشَّافِعِيِّ ودَاوُدَ. وقال أَبُو حنيفة ومالك: يجوز بجميع أجزاء الأرض كالنورة والجصِّ والزَّرنيخ وَغَيرِه. وزاد مالكٌ فقال: ويجوز بالحَشِيش والشَّجر؛ فعلى هذا يكون الصَّعِيد عندهما ما تَصاعَد على وَجه الأرض، سَوَاءٌ كان تُرَابًا أَو غَيرَه، ولا خلاف أنه إِذا ضَرَب بيَده على الطِّين أنه لا يُجْزِيه... فَأَمَّا الرَّمْلُ فلأبي حنيفةَ وأحمدَ فيه رِوَايتانِ" [9] .
"وفي الحديث جوازُ الاجتهاد في زمان النبيِّ صلى الله عليه وسلم عند الضرورة والبُعد منه؛ كما قال معاذٌ - رضي الله عنه - له: (أجتهد رأيي)، واستعمال القياس؛ لأنه لَمَّا رأى آية التيمُّم في الوضوء في بعض الأعضاء - إذ كان الوضوء مختصًّا ببعض الأعضاء - وكان طُهر الجنابة لعموم الجسد، استعمل التيمُّم بالتراب في جميع الجسد" [10] .
قوله: (ثُمَّ أَتَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لَهُ)؛ أي: حتى يعلِّمني أصَوَابٌ ما فعلتُ أم خطأ؟
فَقَالَ صلى الله عليه وسلم: «إِنَّمَا كَانَ يَكْفِيكَ أَنْ تَقُولَ بِيَدَيْكَ هَكَذَا»؛ أي: تَفعَل، والقولُ يُطلَق على الفعل؛ كقولهم: قال بيدِه هكذا. ثم بيَّنه بقوله: (ثُمَّ ضَرَبَ بِيَدَيْهِ الْأَرْضَ ضَرْبَةً وَاحِدَةً، ثُمَّ مَسَحَ الشِّمَالَ عَلَى الْيَمِينِ، وَظَاهِرَ كَفَّيْهِ، وَوَجْهَهُ)؛ أي: كان يَكفِيكَ أن تَضرِب الأرضَ ضَرْبةً واحدة، ثم تمسح الكفَّيْنِ، ثم تمسح بهما وجهك وكفَّيك.
"استعمل عمّارٌ القياس، فرأى أنّه لَمَّا كان التّراب نائبًا عن الغُسل، فلا بدَّ من عمومه للبَدَن، فأبان له صلى الله عليه وسلم الكيفيّة الّتي تُجزئه، وأراه الصّفة المشروعة، وأَعلَمه أنّها فُرضت عليه، ودلَّ أنّه يكفي ضربةٌ واحدة، ويكفي في اليدَين مسحُ الكفَّين، وأنّ الآية مُجمَلة بيَّنها صلى الله عليه وسلم بالاقتصار على الكفَّين، وأفاد أنّ التّرتيب بين الوجه والكفَّين غير واجب، وإن كانت الواو لا تُفيد التّرتيب، إلّا أنّه قد ورد العطف في رواية للبخاريِّ للوجهِ على الكفَّين بـ(ثُمَّ)، وفي لفظ لأبي داود: «ثمّ ضرب بشِماله على يمينه، وبيمينه على شماله على الكفَّين، ثمّ مسح وجهه» وفي لفظ للإسماعيليِّ ما هو أوضحُ من هذا: «إنّما يكفيك أن تضرب بيدَيْكَ على الأرض، ثمّ تَنْفُضَهما، ثمّ تمسح بيمينك على شمالك، وبشمالك على يمينك، ثمّ تمسح على وجهك». ودلَّ أنّ التَّيمُّم فرض من أَجنَب ولم يَجِدِ الماء" [11] .
"والحديث يدلُّ على مشروعيَّة التّيمُّم للصّلاة عند عَدَم الماء من غير فرق بين الجُنُب وغيره، وقد أجمع على ذلك العلماء، ولم يُخالف فيه أحدٌ من الخَلَف ولا من السَّلَف إلَّا ما جاء عن عمرَ بنِ الخطَّاب وعبدِ اللّه بن مسعود، وحُكِيَ مثلُه عن إبراهيمَ النَّخَعِيِّ من عدم جوازه للجُنُب، وقيل: إنَّ عمرَ وعبدَ اللّه رَجَعا عن ذلك. وقد جاءت بجوازه للجُنُب الأحاديث الصّحيحة. وإذا صلَّى الجُنُب بالتّيمُّم ثمَّ وجد الماء، وَجَب عليه الاغتسال بإجماع العلماء، إلَّا ما يُحكى عن أبي سلمةَ بنِ عبد الرّحمن الإمامِ التّابعيِّ أنّه قال: لا يَلزَمُه، وهو مَذهَب متروك بإجماع مَن بَعدَه ومن قَبلَه، وبالأحاديث الصّحيحة المشهورة في أمره صلى الله عليه وسلم للجُنُب بغَسل بَدَنه إذا وَجَد الماء" [12] .
و"التيمُّم الصحيح مثلما قال الله عزَّ وجلَّ: {وَإِن كُنتُم مَّرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاء أَحَدٌ مَّنكُم مِّنَ الْغَائِطِ أَوْ لاَمَسْتُمُ النِّسَاء فَلَمْ تَجِدُواْ مَاء فَتَيَمَّمُواْ صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُواْ بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُم مِّنْهُ} [المائدة: ٦] المشروع ضربةٌ واحدة للوجه والكفَّين، وصفةُ ذلك أنه يَضرِب التراب بيدَيه ضربةً واحدة، ثم يَمسَح بهما وجهه وكفَّيه؛ كما في الصحيحين أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال لعمَّارِ بنِ ياسرٍ رضي الله عنه: «إنما يَكفِيكَ أن تقول بيدَيك هكذا، ثم ضَرَب بيدَيه الأرضَ، ومسح بهما وجهَه وكفَّيه».
ويُشترَط أن يكون التراب طاهرًا، ولا يُشرع مسح الذراعين؛ بل يكفي مسح الوجه والكفَّين للحديث المذكور. ويقوم التيمُّم مقام الماء في رفع الحدث على الصحيح، فإذا تيمَّم صلَّى بهذا التيمُّم النافلةَ والفريضة الحاضرة والمستقبَلة، ما دام على طهارة، حتى يُحدِث أو يَجِد الماء إن كان عادمًا له، أو حتى يستطيع استعماله إذا كان عاجزًا عن استعماله، فالتيمُّم طُهور يقوم مقام الماء كما سمَّاه النبيُّ صلى الله عليه وسلم طهورًا" [13] .
"وقد اختُلف في كمِّيَّة الضّربات، وقدر التّيمُّم في اليدين، فذهب جماعة من السَّلف ومَن بعدهم إلى أنّها تكفي الضَّربة الواحدة، وذهب إلى أنّها لا تكفي الضّربة الواحدة جماعةٌ من الصّحابة ومَن بعدهم، وقالوا: لا بدَّ من ضربتينِ، والذّاهبون إلى كفاية الضَّربة جمهورُ العلماء وأهلُ الحديث؛ عملًا بحديث عمَّارٍ؛ فإنّه أصحُّ حديث في الباب، وحديث الضَّربتين لا يَقْوى على معارضته. قالوا: وكلُّ ما عدا حديثَ عمّارٍ فهو ضعيف أو موقوف.
وأمّا قَدْرُ ذلك في اليدين، فقال جماعة من العلماء وأهل الحديث: إنّه يكفي في اليدينِ الرّاحتان، وظاهرُ الكفَّين؛ لحديث عمّار هذا، وقد رُوِيَت عن عمّارٍ روايات بخلاف هذا؛ لكنّ الأصحَّ ما في الصّحيحين، وقد كان يُفتي به بعد موت النّبيِّ صلى الله عليه وسلم. وقال آخرون: إنّها تجب ضربتانِ، ومسح اليدين مع الْمِرفَقين؛ لحديث ابن عمر، والأصحُّ فيه أنّه موقوف، فلا يقاوم حديث عمّار المرفوع الوارد للتّعليم، ومن ذلك اختلافُهم في التّرتيب بين الوجه واليدين، وحديث عمّار كما عرفتَ قاضٍ بأنّه لا يَجِب، وإليه ذهب من قال بالضَّربتين، إلا أنّه قال: لا بدَّ من التّرتيب بتقديم الوجه على اليدين، واليُمنى على اليسرى" [14] .
"وقد دلَّ حديث عمَّار هذا على أنه يجوز الاقتصارُ في التَّيَمُّم على الوجه والكَفَّيْنِ بضَربة واحدة، وهو قولُ مالك وداود، وقال أبو حنيفةَ والشافعيُّ في الجديد: لا يُجْزِيه إِلَّا أن يمسح إلى الْمِرْفَقين. ولا يختلف أصحابُنا في جواز الأمرين؛ إنما اختلفوا في المسنون: فقال القاضي أبو يعلى: المسنون أن يَضْرب ضربتين، يَمسَح بواحدة وَجهَه وبالأخرى يَدَيْهِ إلى الْمِرْفَقين، فإن ضَرَب ضَرْبَة فمسح بها وجهَه وكفَّيه جاز. وقال أبو الخطَّاب الكلواذانيُّ: بل الْمَسنون عندَ أحمدَ ضَرْبَةٌ واحدة للوَجْه والكَفَّيْن. وقال أبو الوفاء بنُ عقيل: ظاهرُ كلام أحمدَ يدلُّ على أن المسح إلى الْمِرْفَقين جائز، وليس بمستحَبٍّ" [15] .
"وفي حديث عمّار دلالة على أنّ المشروع هو ضرب التّراب، وقال بعض الفقهاء بعدم إجزاء غيره؛ لحديث عمّار هذا، وحديث ابن عمر، وقال الشّافعيُّ: يُجزئ وضع يده في التُّراب؛ لأنّ في إحدى روايتَيْ تيمُّمه صلى الله عليه وسلم من الجدار، أنّه وضع يده. وفي رواية أيٍّ من حديث عمّار للبخاريِّ: «وضرب بكفَّيه الأرض ونفخ فيهما، ثمّ مسح بهما وجهه وكفَّيه»؛ أي: ظاهرهما كما سلف، وهو كاللّفظ الأوّل، إلّا أنّه خالفه بالتّرتيب وزيادة النّفخ، فأمّا نفخ التّراب فهو مندوب. وقيل: لا يُندَب، وهذا التّيمُّم وارد في كفاية التّراب للجُنُب الفاقد للماء، وقد قاسُوا عليه الحائض والنُّفَساء، وخالف فيه ابن عمر وابن مسعود" [16] .
"وقولُه: (ونَفَض يَدَيْهِ). وَفِي لفظ: «يَكْفِيكَ أَن تضرب بيديك الأَرْض ثمَّ تَنفُخ»: يَحْتَجُّ به مَن يرى جَوَاز الضَّرْب على حَجَر لَا غُبَار له، وهو مَذْهَب أبي حنيفةَ ومالك. وعند أحمد والشافعيِّ: لا بدَّ من غُبَار يَعلَق باليد؛ لقَوْله تَعَالَى: {فَامْسَحُواْ بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُم مِّنْهُ} [المائدة: ٦]، و"من" للتَّبْعِيض. وَأما نفضُ اليد ونفخُها، فالمراد به تخفيف ما تعلَّق باليد؛ فإنه قد تعلَّق بها الكثير، والنفخ لا يَدفَع الْخَفِيف، وبه تقع الكفاية" [17] .
"وفيه من الفقه أَنَّ المتأوِّل المجتهد لا إعادةَ عليه؛ لأن النبيَّ صلى الله عليه وسلم لم يأمر عمَّارًا بالإعادة، وإن كان خطَّأ اجتهادَه؛ لأنه إنما ترك هيئة الطهارة، وقد جاء بها على غير هَيئتها، وأكمل مما يلزمه. وقوله: (فنفض يدَيه فنفخ فيهما): حُجَّة لمن أجاز نفض اليدين من التراب، وهو قول مالك والشافعيِّ، دون استقصاء لما فيهما من التراب؛ لكن لخشية ما يضرُّ به من ذلك من كثرته بتلويث وجهه، أو مُصادفة رُقاق حجرٍ فيه يُؤذيه ونحوه، وكان ابن عمر لا ينفُض" [18] .
الفوائد العلمية:
1. التيمُّم في الشرع: هو القَصْدُ إلى الصَّعيد لمسح الوجهِ واليدَيْنِ بنيَّة استباحة الصَّلاة ونحوِها [19] .
2. التّيمُّم ثابت بالكتاب والسُّنَّة والإجماع [20] .
3. التيمُّم خَصِيصةٌ خصَّ اللّه تعالى بها هذه الأمَّة؛ فعن جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «أُعْطِيتُ خَمْسًا لَمْ يُعْطَهُنَّ أَحَدٌ قَبْلِي: نُصِرْتُ بِالرُّعْبِ مَسِيرَةَ شَهْرٍ، وَجُعِلَتْ لِي الأَرْضُ مَسْجِدًا وَطَهُورًا، فَأَيُّمَا رَجُلٍ مِنْ أُمَّتِي أَدْرَكَتْهُ الصَّلاَةُ فَلْيُصَلِّ، وَأُحِلَّتْ لِي الْمَغَانِمُ وَلَمْ تَحِلَّ لِأَحَدٍ قَبْلِي، وَأُعْطِيتُ الشَّفَاعَةَ، وَكَانَ النَّبِيُّ يُبْعَثُ إِلَى قَوْمِهِ خَاصَّةً، وَبُعِثْتُ إِلَى النَّاسِ عَامَّةً» [21] .
4. روت السيدة عَائِشَةُ – رضي الله عنها – عن سبب نزول آية التيمُّم، قَالَتْ: خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي بَعْضِ أَسْفَارِهِ، حَتَّى إِذَا كُنَّا بِالْبَيْدَاءِ أَوْ بِذَاتِ الجَيْش، انْقَطَعَ عِقْدٌ لِي، فَأَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى الْتِمَاسِهِ، وَأَقَامَ النَّاسُ مَعَهُ وَلَيْسُوا عَلَى مَاءٍ، فَأَتَى النَّاسُ إِلَى أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ، فَقَالُوا: أَلاَ تَرَى مَا صَنَعَتْ عَائِشَةُ؟ أَقَامَتْ بِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَالنَّاسِ وَلَيْسُوا عَلَى مَاءٍ، وَلَيْسَ مَعَهُمْ مَاءٌ، فَجَاءَ أَبُو بَكْرٍ وَرَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَاضِعٌ رَأْسَهُ عَلَى فَخِذِي قَدْ نَامَ، فَقَالَ: حَبَسْتِ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَالنَّاسَ، وَلَيْسُوا عَلَى مَاءٍ، وَلَيْسَ مَعَهُمْ مَاءٌ، فَقَالَتْ عَائِشَةُ: فَعَاتَبَنِي أَبُو بَكْرٍ، وَقَالَ: مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَقُولَ، وَجَعَلَ يَطْعُنُنِي بِيَدِهِ فِي خَاصِرَتِي، فَلاَ يَمْنَعُنِي مِنَ التَّحَرُّكِ إِلَّا مَكَانُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى فَخِذِي، فَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حِينَ أَصْبَحَ عَلَى غَيْرِ مَاءٍ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ آيَةَ التَّيَمُّمِ، فَتَيَمَّمُوا، فَقَالَ أُسَيْدُ بْنُ الحُضَيْرِ: مَا هِيَ بِأَوَّلِ بَرَكَتِكُمْ يَا آلَ أَبِي بَكْرٍ، قَالَتْ: فَبَعَثْنَا البَعِيرَ الَّذِي كُنْتُ عَلَيْهِ، فَأَصَبْنَا العِقْدَ تَحْتَهُ [22] .
1. التيمُّم في الشرع: هو القَصْدُ إلى الصَّعيد لمسح الوجهِ واليدَيْنِ بنيَّة استباحة الصَّلاة ونحوِها [19] .
2. التّيمُّم ثابت بالكتاب والسُّنَّة والإجماع [20] .
3. التيمُّم خَصِيصةٌ خصَّ اللّه تعالى بها هذه الأمَّة؛ فعن جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «أُعْطِيتُ خَمْسًا لَمْ يُعْطَهُنَّ أَحَدٌ قَبْلِي: نُصِرْتُ بِالرُّعْبِ مَسِيرَةَ شَهْرٍ، وَجُعِلَتْ لِي الأَرْضُ مَسْجِدًا وَطَهُورًا، فَأَيُّمَا رَجُلٍ مِنْ أُمَّتِي أَدْرَكَتْهُ الصَّلاَةُ فَلْيُصَلِّ، وَأُحِلَّتْ لِي الْمَغَانِمُ وَلَمْ تَحِلَّ لِأَحَدٍ قَبْلِي، وَأُعْطِيتُ الشَّفَاعَةَ، وَكَانَ النَّبِيُّ يُبْعَثُ إِلَى قَوْمِهِ خَاصَّةً، وَبُعِثْتُ إِلَى النَّاسِ عَامَّةً» [21] .
4. روت السيدة عَائِشَةُ – رضي الله عنها – عن سبب نزول آية التيمُّم، قَالَتْ: خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي بَعْضِ أَسْفَارِهِ، حَتَّى إِذَا كُنَّا بِالْبَيْدَاءِ أَوْ بِذَاتِ الجَيْش، انْقَطَعَ عِقْدٌ لِي، فَأَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى الْتِمَاسِهِ، وَأَقَامَ النَّاسُ مَعَهُ وَلَيْسُوا عَلَى مَاءٍ، فَأَتَى النَّاسُ إِلَى أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ، فَقَالُوا: أَلاَ تَرَى مَا صَنَعَتْ عَائِشَةُ؟ أَقَامَتْ بِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَالنَّاسِ وَلَيْسُوا عَلَى مَاءٍ، وَلَيْسَ مَعَهُمْ مَاءٌ، فَجَاءَ أَبُو بَكْرٍ وَرَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَاضِعٌ رَأْسَهُ عَلَى فَخِذِي قَدْ نَامَ، فَقَالَ: حَبَسْتِ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَالنَّاسَ، وَلَيْسُوا عَلَى مَاءٍ، وَلَيْسَ مَعَهُمْ مَاءٌ، فَقَالَتْ عَائِشَةُ: فَعَاتَبَنِي أَبُو بَكْرٍ، وَقَالَ: مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَقُولَ، وَجَعَلَ يَطْعُنُنِي بِيَدِهِ فِي خَاصِرَتِي، فَلاَ يَمْنَعُنِي مِنَ التَّحَرُّكِ إِلَّا مَكَانُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى فَخِذِي، فَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حِينَ أَصْبَحَ عَلَى غَيْرِ مَاءٍ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ آيَةَ التَّيَمُّمِ، فَتَيَمَّمُوا، فَقَالَ أُسَيْدُ بْنُ الحُضَيْرِ: مَا هِيَ بِأَوَّلِ بَرَكَتِكُمْ يَا آلَ أَبِي بَكْرٍ، قَالَتْ: فَبَعَثْنَا البَعِيرَ الَّذِي كُنْتُ عَلَيْهِ، فَأَصَبْنَا العِقْدَ تَحْتَهُ [22] .
الفوائد الفقهية:
1. الحديث دليلٌ على أنّ التَّيمُّم فرض من أَجنَب ولم يَجِدِ الماء، وعلى أنه تكفي الضربةُ الواحدة للوجه والكفَّينِ جميعًا، وعلى أن محلَّ المسح في التيمُّم هو الوجه والكفَّانِ.
2. التيمُّم يرفَعُ الحدَث رَفْعًا مؤقَّتًا إلى حينِ وُجودِ الماء، ويُبيح فعل الصَّلاةِ والطَّواف وغيرِها مِن العِبادات.
3. التيمُّم رُخصةٌ شَرَعها اللهُ تعالى لعِبادِه عندَ فَقْدِ الماءِ، أو العجزِ عن استِعمالِه؛ تيسيرًا عليهم، وإن الله تعالى يحبُّ أن تؤتى رُخَصُه؛ عن ابن عُمَرَ، قال: قال رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ أَنْ تُؤْتَى رُخَصُهُ كَمَا يَكْرَهُ أَنْ تُؤْتَى مَعْصِيَتُهُ» [23] . "واختُلف هل التّيمّم عزيمةٌ أو رخصة؟ وفصَّل بعضهم فقال: هو لعَدَم الماء عزيمةٌ، وللعُذر رخصة" [24] .
4. اختُلف في (الصَّعِيد)، فقيل: هو التُّرَاب. وقيل: لا يقع اسم (الصَّعِيد) إِلَّا على تُرَاب ذي غُبَار؛ فعلى هذا لا يجوز التَّيَمُّم إِلَّا بِالتُّرَابِ. وقيل: الصَّعِيد ما تَصاعَد على وَجه الأرض، سَوَاءٌ كان تُرَابًا أَو غَيرَه، فيجوز بجميع أجزاء الأرض كالنُّورة والجصِّ والزَّرنيخ والحَشِيش والشَّجر وغيره. ولا خلاف أنه إِذا ضَرَب بيَده على الطِّين أنه لا يُجْزِيه [25] .
5. في الحديث جوازُ الاجتهاد في زمان النبيِّ صلى الله عليه وسلم عند الضرورة والبُعد منه؛ كما قال معاذٌ - رضي الله عنه - له: (أجتهد رأيي)، واستعمل عمَّارٌ القياس، فرأى أنّه لَمَّا كان التّراب نائبًا عن الغُسل، فلا بدَّ من عمومه للبَدَن، فأبان له صلى الله عليه وسلم الكيفيّة الّتي تُجزئه، وأراه الصّفة المشروعة.
6. اختلفوا في التّرتيب بين الوجه واليدين، وحديث عمّار قاضٍ بأنّه لا يَجِب، ومن قال بالضَّربتين قال: لا بدَّ من التّرتيب بتقديم الوجه على اليدين، واليُمنى على اليسرى [26] .
7. أجمع العلماء على ما دلَّ عليه الحديث من مشروعيَّة التّيمُّم للصّلاة عند عَدَم الماء من غير فرق بين الجُنُب وغيره، ولم يُخالف فيه أحدٌ من الخَلَف ولا من السَّلَف إلَّا ما جاء عن عمرَ بنِ الخطَّاب وعبدِ اللّه بن مسعود، وحُكِيَ مثلُه عن إبراهيمَ النَّخَعِيِّ من عدم جوازه للجُنُب، وقيل: إنَّ عمرَ وعبدَ اللّه رَجَعا عن ذلك [27] .
8. إذا صلَّى الجُنُب بالتّيمُّم ثمَّ وجد الماء، وَجَب عليه الاغتسال بإجماع العلماء، إلَّا ما يُحكى عن أبي سلمةَ بنِ عبد الرّحمن الإمامِ التّابعيِّ أنّه قال: لا يَلزَمُه، وهو مَذهَب متروك بإجماع مَن بَعدَه ومن قَبلَه، وبالأحاديث الصّحيحة المشهورة في أمره صلى الله عليه وسلم للجُنُب بغَسل بَدَنه إذا وَجَد الماء [28] .
9. التيمُّم الصحيح مثلما قال الله عزَّ وجلَّ: {وَإِن كُنتُم مَّرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاء أَحَدٌ مَّنكُم مِّنَ الْغَائِطِ أَوْ لاَمَسْتُمُ النِّسَاء فَلَمْ تَجِدُواْ مَاء فَتَيَمَّمُواْ صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُواْ بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُم مِّنْهُ} [المائدة: ٦]؛ فالمشروع ضربةٌ واحدة للوجه والكفَّين، وصفةُ ذلك أنه يَضرِب التراب بيدَيه ضربةً واحدة، ثم يَمسَح بهما وجهه وكفَّيه [29] .
10. في الحديث يُشترَط أن يكون التراب طاهرًا، ولا يُشرع مسح الذراعين؛ بل يكفي مسح الوجه والكفَّين [30] .
11. يقوم التيمُّم مقام الماء في رفع الحدث على الصحيح، فإذا تيمَّم صلَّى بهذا التيمُّم النافلةَ والفريضة الحاضرة والمستقبَلة، ما دام على طهارة، حتى يُحدِث أو يَجِد الماء إن كان عادمًا له، أو حتى يستطيع استعماله إذا كان عاجزًا عن استعماله، فالتيمُّم طُهور يقوم مقام الماء كما سمَّاه النبيُّ صلى الله عليه وسلم طهورًا [31] .
12. اختُلف في عدد الضّربات في التّيمُّم، فذهب جماعةٌ من الصّحابة ومَن بعدهم إلى أنّه لا تكفي الضّربة الواحدة وقالوا: لا بدَّ من ضربتينِ، وذهب جمهورُ العلماء وأهلُ الحديث إلى أنّه تكفي الضَّربة الواحدة؛ عملًا بحديث عمَّارٍ؛ فإنّه أصحُّ حديث في الباب، وحديث الضَّربتين لا يَقْوى على معارضته [32] .
13. اختُلف في قدر التيمُّم؛ فقال جماعة من العلماء وأهل الحديث: إنّه يكفي في اليدينِ الرّاحتان، وظاهرُ الكفَّين؛ لحديث عمّار هذا، وقد رُوِيَت عن عمّارٍ روايات بخلاف هذا؛ لكنّ الأصحَّ ما في الصّحيحين، وقد كان يُفتي به بعد موت النّبيِّ صلى الله عليه وسلم. وقال آخرون: إنّها تجب ضربتانِ، ومسح اليدين مع الْمِرفَقين؛ لحديث ابن عمر، والأصحُّ فيه أنّه موقوف، فلا يقاوم حديث عمّار المرفوع الوارد للتّعليم [33] .
14. اختُلف في نفخ التّراب، فقيل: هو مندوب. وقيل: لا يُندَب [34] .
15. في الحديث من الفقه أَنَّ المتأوِّل المجتهد لا إعادةَ عليه؛ لأن النبيَّ صلى الله عليه وسلم لم يأمر عمَّارًا بالإعادة، وإن كان خطَّأ اجتهادَه؛ لأنه إنما ترك هيئة الطهارة، وقد جاء بها على غير هَيئتها، وأكمل مما يلزمه [35] .
1. الحديث دليلٌ على أنّ التَّيمُّم فرض من أَجنَب ولم يَجِدِ الماء، وعلى أنه تكفي الضربةُ الواحدة للوجه والكفَّينِ جميعًا، وعلى أن محلَّ المسح في التيمُّم هو الوجه والكفَّانِ.
2. التيمُّم يرفَعُ الحدَث رَفْعًا مؤقَّتًا إلى حينِ وُجودِ الماء، ويُبيح فعل الصَّلاةِ والطَّواف وغيرِها مِن العِبادات.
3. التيمُّم رُخصةٌ شَرَعها اللهُ تعالى لعِبادِه عندَ فَقْدِ الماءِ، أو العجزِ عن استِعمالِه؛ تيسيرًا عليهم، وإن الله تعالى يحبُّ أن تؤتى رُخَصُه؛ عن ابن عُمَرَ، قال: قال رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ أَنْ تُؤْتَى رُخَصُهُ كَمَا يَكْرَهُ أَنْ تُؤْتَى مَعْصِيَتُهُ» [23] . "واختُلف هل التّيمّم عزيمةٌ أو رخصة؟ وفصَّل بعضهم فقال: هو لعَدَم الماء عزيمةٌ، وللعُذر رخصة" [24] .
4. اختُلف في (الصَّعِيد)، فقيل: هو التُّرَاب. وقيل: لا يقع اسم (الصَّعِيد) إِلَّا على تُرَاب ذي غُبَار؛ فعلى هذا لا يجوز التَّيَمُّم إِلَّا بِالتُّرَابِ. وقيل: الصَّعِيد ما تَصاعَد على وَجه الأرض، سَوَاءٌ كان تُرَابًا أَو غَيرَه، فيجوز بجميع أجزاء الأرض كالنُّورة والجصِّ والزَّرنيخ والحَشِيش والشَّجر وغيره. ولا خلاف أنه إِذا ضَرَب بيَده على الطِّين أنه لا يُجْزِيه [25] .
5. في الحديث جوازُ الاجتهاد في زمان النبيِّ صلى الله عليه وسلم عند الضرورة والبُعد منه؛ كما قال معاذٌ - رضي الله عنه - له: (أجتهد رأيي)، واستعمل عمَّارٌ القياس، فرأى أنّه لَمَّا كان التّراب نائبًا عن الغُسل، فلا بدَّ من عمومه للبَدَن، فأبان له صلى الله عليه وسلم الكيفيّة الّتي تُجزئه، وأراه الصّفة المشروعة.
6. اختلفوا في التّرتيب بين الوجه واليدين، وحديث عمّار قاضٍ بأنّه لا يَجِب، ومن قال بالضَّربتين قال: لا بدَّ من التّرتيب بتقديم الوجه على اليدين، واليُمنى على اليسرى [26] .
7. أجمع العلماء على ما دلَّ عليه الحديث من مشروعيَّة التّيمُّم للصّلاة عند عَدَم الماء من غير فرق بين الجُنُب وغيره، ولم يُخالف فيه أحدٌ من الخَلَف ولا من السَّلَف إلَّا ما جاء عن عمرَ بنِ الخطَّاب وعبدِ اللّه بن مسعود، وحُكِيَ مثلُه عن إبراهيمَ النَّخَعِيِّ من عدم جوازه للجُنُب، وقيل: إنَّ عمرَ وعبدَ اللّه رَجَعا عن ذلك [27] .
8. إذا صلَّى الجُنُب بالتّيمُّم ثمَّ وجد الماء، وَجَب عليه الاغتسال بإجماع العلماء، إلَّا ما يُحكى عن أبي سلمةَ بنِ عبد الرّحمن الإمامِ التّابعيِّ أنّه قال: لا يَلزَمُه، وهو مَذهَب متروك بإجماع مَن بَعدَه ومن قَبلَه، وبالأحاديث الصّحيحة المشهورة في أمره صلى الله عليه وسلم للجُنُب بغَسل بَدَنه إذا وَجَد الماء [28] .
9. التيمُّم الصحيح مثلما قال الله عزَّ وجلَّ: {وَإِن كُنتُم مَّرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاء أَحَدٌ مَّنكُم مِّنَ الْغَائِطِ أَوْ لاَمَسْتُمُ النِّسَاء فَلَمْ تَجِدُواْ مَاء فَتَيَمَّمُواْ صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُواْ بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُم مِّنْهُ} [المائدة: ٦]؛ فالمشروع ضربةٌ واحدة للوجه والكفَّين، وصفةُ ذلك أنه يَضرِب التراب بيدَيه ضربةً واحدة، ثم يَمسَح بهما وجهه وكفَّيه [29] .
10. في الحديث يُشترَط أن يكون التراب طاهرًا، ولا يُشرع مسح الذراعين؛ بل يكفي مسح الوجه والكفَّين [30] .
11. يقوم التيمُّم مقام الماء في رفع الحدث على الصحيح، فإذا تيمَّم صلَّى بهذا التيمُّم النافلةَ والفريضة الحاضرة والمستقبَلة، ما دام على طهارة، حتى يُحدِث أو يَجِد الماء إن كان عادمًا له، أو حتى يستطيع استعماله إذا كان عاجزًا عن استعماله، فالتيمُّم طُهور يقوم مقام الماء كما سمَّاه النبيُّ صلى الله عليه وسلم طهورًا [31] .
12. اختُلف في عدد الضّربات في التّيمُّم، فذهب جماعةٌ من الصّحابة ومَن بعدهم إلى أنّه لا تكفي الضّربة الواحدة وقالوا: لا بدَّ من ضربتينِ، وذهب جمهورُ العلماء وأهلُ الحديث إلى أنّه تكفي الضَّربة الواحدة؛ عملًا بحديث عمَّارٍ؛ فإنّه أصحُّ حديث في الباب، وحديث الضَّربتين لا يَقْوى على معارضته [32] .
13. اختُلف في قدر التيمُّم؛ فقال جماعة من العلماء وأهل الحديث: إنّه يكفي في اليدينِ الرّاحتان، وظاهرُ الكفَّين؛ لحديث عمّار هذا، وقد رُوِيَت عن عمّارٍ روايات بخلاف هذا؛ لكنّ الأصحَّ ما في الصّحيحين، وقد كان يُفتي به بعد موت النّبيِّ صلى الله عليه وسلم. وقال آخرون: إنّها تجب ضربتانِ، ومسح اليدين مع الْمِرفَقين؛ لحديث ابن عمر، والأصحُّ فيه أنّه موقوف، فلا يقاوم حديث عمّار المرفوع الوارد للتّعليم [33] .
14. اختُلف في نفخ التّراب، فقيل: هو مندوب. وقيل: لا يُندَب [34] .
15. في الحديث من الفقه أَنَّ المتأوِّل المجتهد لا إعادةَ عليه؛ لأن النبيَّ صلى الله عليه وسلم لم يأمر عمَّارًا بالإعادة، وإن كان خطَّأ اجتهادَه؛ لأنه إنما ترك هيئة الطهارة، وقد جاء بها على غير هَيئتها، وأكمل مما يلزمه [35] .
الفوائد الحديثية:
1. قال العلماء: كلُّ ما عدا حديثَ عمّارٍ في التيمُّم فهو ضعيف أو موقوف [36] .
2. لعمار بن ياسر – رضي الله عنه - في "مُسْنَدِ بَقِيٍّ" اثْنَانِ وَسِتُّونَ حَدِيثًا، منها في "الصحيحين" خَمْسَةٌ.
1. قال العلماء: كلُّ ما عدا حديثَ عمّارٍ في التيمُّم فهو ضعيف أو موقوف [36] .
2. لعمار بن ياسر – رضي الله عنه - في "مُسْنَدِ بَقِيٍّ" اثْنَانِ وَسِتُّونَ حَدِيثًا، منها في "الصحيحين" خَمْسَةٌ.
النقول:
قال الشوكانيُّ رحمه الله: "التّيمُّمُ في اللّغة: القَصْدُ. قال الأزهريُّ: التّيمُّم في كلام العرب القَصْدُ، يُقال: تَيَمَّمْتُ فُلَانًا وَتَأَمَّمْتُهُ وَيَمَّمْتُهُ وَأَمَمْتُهُ؛ أَيْ: قَصَدْتُهُ. وفي الشّرع: القَصْدُ إلى الصَّعيد لمسح الوجهِ واليدَيْنِ بنيَّة استباحة الصَّلاة ونحوِها؛ قاله في الفتح. واعلم أنَّ التّيمُّم ثابت بالكتاب والسُّنَّة والإجماع. وهي خَصِيصة خصَّص اللّه تعالى بها هذه الأمَّة. قال في الفتح: واختُلف هل التّيمّم عزيمةٌ أو رخصة؟ وفصَّل بعضهم فقال: هو لعَدَم الماء عزيمةٌ، وللعُذر رخصة" [38] .
قال الصنعانيُّ رحمه الله: "قال: (بَعَثني رسول اللّه صلى الله عليه وسلم في حاجة فأجنبتُ)؛ أي: صرتُ جُنُبًا، وقدَّمنا أنّه يُقال: أَجنَب الرّجل صارَ جُنبًا، ولا يُقال: اجتَنَب، وإن كَثُر في لسان الفقهاء. (فلم أجد الماء فتَمَرَّغت)، وفي لفظ: (فتمَعَّكتُ)، ومعناه: تقلّبتُ (في الصّعيد كما تتمرَّغ الدّابَّة ثمّ أتيت النّبيّ صلى الله عليه وسلم فذكرت له ذلك فقال: «إنّما كان يكفيك أن تقول»؛ أي: تَفعَل، والقولُ يُطلَق على الفعل؛ كقولهم: قال بيدِه هكذا. «بيدَيْك هكذا»: بيَّنه بقوله: «ثمّ ضرب بيدَيه الأرض ضربةً واحدةً، ثمّ مسح الشّمال على اليمين، وظاهر كفَّيه، ووجهه» متّفق عليه بين الشّيخين، واللّفظ لمسلم" [39] .
قال الشوكانيُّ رحمه الله: "والحديث يدلُّ على مشروعيَّة التّيمُّم للصّلاة عند عَدَم الماء من غير فرق بين الجُنُب وغيره، وقد أجمع على ذلك العلماء، ولم يُخالف فيه أحدٌ من الخَلَف ولا من السَّلَف إلَّا ما جاء عن عمرَ بنِ الخطَّاب وعبدِ اللّه بن مسعود، وحُكِيَ مثلُه عن إبراهيمَ النَّخَعِيِّ من عدم جوازه للجُنُب، وقيل: إنَّ عمرَ وعبدَ اللّه رَجَعا عن ذلك. وقد جاءت بجوازه للجُنُب الأحاديث الصّحيحة. وإذا صلَّى الجُنُب بالتّيمُّم ثمَّ وجد الماء، وَجَب عليه الاغتسال بإجماع العلماء، إلَّا ما يُحكى عن أبي سلمةَ بنِ عبد الرّحمن الإمامِ التّابعيِّ أنّه قال: لا يَلزَمُه، وهو مَذهَب متروك بإجماع مَن بَعدَه ومن قَبلَه، وبالأحاديث الصّحيحة المشهورة في أمره صلى الله عليه وسلم للجُنُب بغَسل بَدَنه إذا وَجَد الماء" [40] .
قال ابن باز رحمه الله: "التيمُّم الصحيح مثل ما قال الله عزَّ وجلَّ: {وَإِن كُنتُم مَّرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاء أَحَدٌ مَّنكُم مِّنَ الْغَائِطِ أَوْ لاَمَسْتُمُ النِّسَاء فَلَمْ تَجِدُواْ مَاء فَتَيَمَّمُواْ صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُواْ بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُم مِّنْهُ} [المائدة: ٦] المشروع ضربةٌ واحدة للوجه والكفَّين، وصفةُ ذلك أنه يَضرِب التراب بيدَيه ضربةً واحدة، ثم يَمسَح بهما وجهه وكفَّيه، كما في الصحيحين أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال لعمَّارِ بنِ ياسرٍ رضي الله عنه: «إنما يَكفِيكَ أن تقول بيدَيك هكذا، ثم ضَرَب بيدَيه الأرضَ، ومسح بهما وجهَه وكفَّيه».
ويُشترَط أن يكون التراب طاهرًا، ولا يُشرع مسح الذراعين؛ بل يكفي مسح الوجه والكفَّين للحديث المذكور. ويقوم التيمُّم مقام الماء في رفع الحدث على الصحيح، فإذا تيمَّم صلَّى بهذا التيمُّم النافلةَ والفريضة الحاضرة والمستقبَلة، ما دام على طهارة، حتى يُحدِث أو يَجِد الماء إن كان عادمًا له، أو حتى يستطيع استعماله إذا كان عاجزًا عن استعماله، فالتيمُّم طهور يقوم مقام الماء كما سمَّاه النبيُّ صلى الله عليه وسلم طهورًا" [41] .
قال الصنعانيُّ رحمه الله: "استعمل عمّارٌ القياس، فرأى أنّه لَمَّا كان التّراب نائبًا عن الغُسل، فلا بدَّ من عمومه للبَدَن، فأبان له صلى الله عليه وسلم الكيفيّة الّتي تُجزئه، وأراه الصّفة المشروعة، وأَعلَمه أنّها فُرضت عليه، ودلَّ أنّه يكفي ضربةٌ واحدة، ويكفي في اليدَين مسحُ الكفَّين، وأنّ الآية مُجمَلة بيَّنها صلى الله عليه وسلم بالاقتصار على الكفَّين، وأفاد أنّ التّرتيب بين الوجه والكفَّين غير واجب، وإن كانت الواو لا تُفيد التّرتيب، إلّا أنّه قد ورد العطف في رواية للبخاريِّ للوجهِ على الكفَّين بـ(ثُمَّ)، وفي لفظ لأبي داود: «ثمّ ضرب بشِماله على يمينه، وبيمينه على شماله على الكفَّين، ثمّ مسح وجهه» وفي لفظ للإسماعيليِّ ما هو أوضحُ من هذا: «إنّما يكفيك أن تضرب بيدَيْكَ على الأرض، ثمّ تَنْفُضَهما، ثمّ تمسح بيمينك على شمالك، وبشمالك على يمينك، ثمّ تمسح على وجهك». ودلَّ أنّ التَّيمُّم فرض من أَجنَب ولم يَجِدِ الماء" [42] .
قال ابن الجوزيِّ رحمه الله: "وَقد دلَّ حديث عمَّار هذا على أنه يجوز الِاقْتِصَارُ فِي التَّيَمُّم على الْوَجْه وَالْكَفَّيْنِ بضَربة واحدة، وهو قولُ مالك وَدَاوُد، وقال أَبُو حنيفةَ وَالشَّافِعِيُّ فِي الْجَدِيد: لَا يُجْزِيه إِلَّا أَن يمسح إِلَى الْمِرْفَقين. وَلَا يخْتَلف أَصْحَابُنا في جَوَاز الْأَمريْنِ؛ إِنَّمَا اخْتلفُوا فِي الْمَسْنُون: فَقَالَ القَاضِي أَبُو يعلى: الْمسنون أَن يَضْرب ضربتين، يَمسَح بِوَاحِدَة وَجهَه وبالأخرى يَدَيْهِ إلى الْمِرْفَقين، فإن ضَرَب ضَرْبَة فمسح بها وجهَه وكفَّيه جَازَ. وقال أبو الخطَّاب الكلواذانيُّ: بل الْمَسنون عندَ أَحْمدَ ضَرْبَةٌ واحدة للْوَجْه والكَفَّيْنِ. وقال أبو الْوَفَاء بنُ عقيل: ظَاهرُ كلام أَحْمدَ يدلُّ على أَن الْمَسْح إلى الْمِرْفَقين جائز، وليس بمستحَبٍّ" [43] .
قال الصنعانيُّ رحمه الله: "وقد اختُلف في كمِّيَّة الضّربات، وقدر التّيمُّم في اليدين، فذهب جماعة من السَّلف ومَن بعدهم إلى أنّها تكفي الضَّربة الواحدة، وذهب إلى أنّها لا تكفي الضّربة الواحدة جماعةٌ من الصّحابة ومَن بعدهم، وقالوا: لا بدَّ من ضربتينِ، والذّاهبون إلى كفاية الضَّربة جمهورُ العلماء وأهلُ الحديث؛ عملًا بحديث عمَّارٍ؛ فإنّه أصحُّ حديث في الباب، وحديث الضَّربتين لا يَقْوى على معارضته. قالوا: وكلُّ ما عدا حديثَ عمّارٍ فهو ضعيف أو موقوف.
وأمّا قَدْرُ ذلك في اليدين، فقال جماعة من العلماء وأهل الحديث: إنّه يكفي في اليدينِ الرّاحتان، وظاهرُ الكفَّين؛ لحديث عمّار هذا، وقد رُوِيَت عن عمّارٍ روايات بخلاف هذا؛ لكنّ الأصحَّ ما في الصّحيحين، وقد كان يُفتي به بعد موت النّبيِّ صلى الله عليه وسلم. وقال آخرون: إنّها تجب ضربتانِ، ومسح اليدين مع الْمِرفَقين؛ لحديث ابن عمر، والأصحُّ فيه أنّه موقوف، فلا يقاوم حديث عمّار المرفوع الوارد للتّعليم، ومن ذلك اختلافُهم في التّرتيب بين الوجه واليدين، وحديث عمّار كما عرفتَ قاضٍ بأنّه لا يَجِب، وإليه ذهب من قال بالضَّربتين، إلا أنّه قال: لا بدَّ من التّرتيب بتقديم الوجه على اليدين، واليُمنى على اليسرى" [44] .
قال القاضي عياض رحمه الله: "وقوله صلى الله عليه وسلم: «إنما كان يكفيك هكذا، وضرب بكفَّيه الأرض ونَفَخ فيهما»، يُحتجُّ به في نفض اليدين، وقد أجاز مالك النَّفْضَ الخفيف في ذلك، وهو قول الكوفيين. وقوله: (فمسح بها وجَهه وكفَّيه): في ظاهره حُجَّةٌ لمن يرى الفرض ضربةً واحدةً، وهو قول بعض أصحابنا، ودليلُ قول مالكٍ، وأنه لا إعادة على مَن فَعَله، أو يُعيد في الوقت، وأن الضَّربة الثانية عنده سنَّةٌ، وجمهور العلماء على أنه لا يُجزيه إِلا ضربتان، وهو قول بعض أصحابنا، وَجَعله بعضهم قول مالك، ويَحتجُّ بها أيضًا من يقول: التيمُّم إلى الكُوعينِ، وهو قول جماعة من العلماء وفقهاء أصحاب الحديث، وبعض أصحابنا، وتأوَّلوها على رواية ابن القاسم عن مالك فيمن صلَّى بذلك أنه يُعيد في الوقت، والمعروف من مذهب مالك أن فَرْضه إلى الْمِرفَقين، وهو قول أكثرِ أئمَّة الفتوى والسلف. وقوله في الرواية الأخرى: «يمسح الشمال على اليمين وظاهِر كفّه»: تفسيرٌ لصفة المسح وعمومه" [45] .
قال ابن الجوزيِّ رحمه الله: "قَوله: (فتمرَّغت فِي الصَّعِيد كَمَا تتمرَّغ الدَّابَّة)، وَإِنَّمَا فعل هَذَا لِأَنَّهُ رأى التُّرَاب بَدَلًا عَن الْمَاء، فَاسْتَعْملهُ فِي جَمِيع الْبَدَن، فَأَما الصَّعِيد، فهو التُّرَاب؛ قَالَه عَليٌّ وَابْنُ مَسْعُود واللغويون، منهم الْفرَّاء وأبو عُبيد والزجَّاج وابن قُتَيْبَة.
وقال الشَّافِعِيُّ: لا يقع اسم (الصَّعِيد) إِلَّا على تُرَاب ذي غُبَار؛ فعلى هذا لا يجوز التَّيَمُّم إِلَّا بِالتُّرَابِ، وهو قَول أَحْمدَ وَالشَّافِعِيِّ ودَاوُدَ. وقال أَبُو حنيفة ومالك: يجوز بجميع أجزاء الأرض كالنورة والجصِّ والزَّرنيخ وَغَيرِه. وزاد مالكٌ فقال: ويجوز بالحَشِيش والشَّجر؛ فعلى هذا يكون الصَّعِيد عندهما ما تَصاعَد على وَجه الأرض، سَوَاءٌ كان تُرَابًا أَو غَيرَه، ولا خلاف أنه إِذا ضَرَب بيَده على الطِّين أنه لا يُجْزِيه، وَقد سلَّم خَصْمُنا بُرادة الذَّهَب وَالْفِضَّة، والصفر والنُّحاس، والدَّقيق وسحيق الزّجاج، والجوَّهر والصَّندل، ونحاتة الْخشب، وَنَحْو ذَلِك، فَأَمَّا الرَّمْلُ فلأبي حنيفَةَ وَأحمدَ فِيهِ رِوَايتانِ" [46] .
قال الصنعانيُّ رحمه الله: "وفي حديث عمّار دلالة على أنّ المشروع هو ضرب التّراب، وقال بعدم إجزاء غيره الهادويّة وغيرهم؛ لحديث عمّار هذا، وحديث ابن عمر، وقال الشّافعيُّ: يُجزئ وضع يده في التُّراب؛ لأنّ في إحدى روايتي تيمُّمه صلى الله عليه وسلم من الجدار، أنّه وضع يده. وفي رواية أيٍّ من حديث عمّار للبخاريِّ: «وضرب بكفَّيه الأرض ونفخ فيهما، ثمّ مسح بهما وجهه وكفَّيه»؛ أي: ظاهرهما كما سلف، وهو كاللّفظ الأوّل، إلّا أنّه خالفه بالتّرتيب وزيادة النّفخ، فأمّا نفخ التّراب فهو مندوب. وقيل: لا يُندَب، وهذا التّيمُّم وارد في كفاية التّراب للجُنُب الفاقد للماء، وقد قاسُوا عليه الحائض والنُّفساء، وخالف فيه ابن عمر وابن مسعود" [47] .
قال القاضي عياض رحمه الله: "وفيه جواز الاجتهاد في زمان النبيِّ صلى الله عليه وسلم عند الضرورة والبُعد منه؛ كما قال معاذٌ - رضي الله عنه - له: (أجتهد رأيي)، واستعمال القياس؛ لأنه لَمَّا رأى آية التيمُّم في الوضوء في بعض الأعضاء - إذ كان الوضوء مختصًّا ببعض الأعضاء - وكان طُهر الجنابة لعموم الجسد، استعمل التيمُّم بالتراب في جميع الجسد" [48] .
قال ابن الجوزيِّ رحمه الله: "وقولُه: (ونَفَض يَدَيْهِ). وَفِي لفظ: «يَكْفِيكَ أَن تضرب بيديك الأَرْض ثمَّ تَنفُخ»: يَحْتَجُّ به مَن يرى جَوَاز الضَّرْب على حَجَر لَا غُبَار لَهُ، وهو مَذْهَب أبي حنيفةَ ومالك. وعند أَحْمد وَالشَّافِعِيِّ: لا بدَّ من غُبَار يَعلَق بِالْيَدِ؛ لقَوْله تَعَالَى: ﱡ ﱭ ﱮ ﱯ ﱰ ﱠ [المائدة: ٦]، و"من" للتَّبْعِيض. وَأما نفضُ الْيَد ونفخُها، فَالْمُرَاد بِهِ تَخْفيُف مَا تعلَّق بِالْيَدِ؛ فإنَّه قد تعلَّق بها الكثير، والنفخ لا يَدفَع الْخَفِيف، وبه تقع الكفاية" [49] .
قال القاضي عياض رحمه الله: "وفيه من الفقه أَنَّ المتأوِّل المجتهد لا إعادةَ عليه؛ لأن النبيَّ صلى الله عليه وسلم لم يأمر عمَّارًا بالإعادة، وإن كان خطَّأ اجتهادَه؛ لأنه إنما ترك هيئة الطهارة، وقد جاء بها على غير هَيئتها، وأكمل مما يلزمه. وقوله: (فنفض يدَيه فنفخ فيهما): حُجَّة لمن أجاز نفض اليدين من التراب، وهو قول مالك والشافعيِّ، دون استقصاء لما فيهما من التراب؛ لكن لخشية ما يضرُّ به من ذلك من كثرته بتلويث وجهه، أو مُصادفة رُقاق حجرٍ فيه يُؤذيه ونحوه، وكان ابن عمر لا ينفُض" [50] .
قال الشوكانيُّ رحمه الله: "التّيمُّمُ في اللّغة: القَصْدُ. قال الأزهريُّ: التّيمُّم في كلام العرب القَصْدُ، يُقال: تَيَمَّمْتُ فُلَانًا وَتَأَمَّمْتُهُ وَيَمَّمْتُهُ وَأَمَمْتُهُ؛ أَيْ: قَصَدْتُهُ. وفي الشّرع: القَصْدُ إلى الصَّعيد لمسح الوجهِ واليدَيْنِ بنيَّة استباحة الصَّلاة ونحوِها؛ قاله في الفتح. واعلم أنَّ التّيمُّم ثابت بالكتاب والسُّنَّة والإجماع. وهي خَصِيصة خصَّص اللّه تعالى بها هذه الأمَّة. قال في الفتح: واختُلف هل التّيمّم عزيمةٌ أو رخصة؟ وفصَّل بعضهم فقال: هو لعَدَم الماء عزيمةٌ، وللعُذر رخصة" [38] .
قال الصنعانيُّ رحمه الله: "قال: (بَعَثني رسول اللّه صلى الله عليه وسلم في حاجة فأجنبتُ)؛ أي: صرتُ جُنُبًا، وقدَّمنا أنّه يُقال: أَجنَب الرّجل صارَ جُنبًا، ولا يُقال: اجتَنَب، وإن كَثُر في لسان الفقهاء. (فلم أجد الماء فتَمَرَّغت)، وفي لفظ: (فتمَعَّكتُ)، ومعناه: تقلّبتُ (في الصّعيد كما تتمرَّغ الدّابَّة ثمّ أتيت النّبيّ صلى الله عليه وسلم فذكرت له ذلك فقال: «إنّما كان يكفيك أن تقول»؛ أي: تَفعَل، والقولُ يُطلَق على الفعل؛ كقولهم: قال بيدِه هكذا. «بيدَيْك هكذا»: بيَّنه بقوله: «ثمّ ضرب بيدَيه الأرض ضربةً واحدةً، ثمّ مسح الشّمال على اليمين، وظاهر كفَّيه، ووجهه» متّفق عليه بين الشّيخين، واللّفظ لمسلم" [39] .
قال الشوكانيُّ رحمه الله: "والحديث يدلُّ على مشروعيَّة التّيمُّم للصّلاة عند عَدَم الماء من غير فرق بين الجُنُب وغيره، وقد أجمع على ذلك العلماء، ولم يُخالف فيه أحدٌ من الخَلَف ولا من السَّلَف إلَّا ما جاء عن عمرَ بنِ الخطَّاب وعبدِ اللّه بن مسعود، وحُكِيَ مثلُه عن إبراهيمَ النَّخَعِيِّ من عدم جوازه للجُنُب، وقيل: إنَّ عمرَ وعبدَ اللّه رَجَعا عن ذلك. وقد جاءت بجوازه للجُنُب الأحاديث الصّحيحة. وإذا صلَّى الجُنُب بالتّيمُّم ثمَّ وجد الماء، وَجَب عليه الاغتسال بإجماع العلماء، إلَّا ما يُحكى عن أبي سلمةَ بنِ عبد الرّحمن الإمامِ التّابعيِّ أنّه قال: لا يَلزَمُه، وهو مَذهَب متروك بإجماع مَن بَعدَه ومن قَبلَه، وبالأحاديث الصّحيحة المشهورة في أمره صلى الله عليه وسلم للجُنُب بغَسل بَدَنه إذا وَجَد الماء" [40] .
قال ابن باز رحمه الله: "التيمُّم الصحيح مثل ما قال الله عزَّ وجلَّ: {وَإِن كُنتُم مَّرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاء أَحَدٌ مَّنكُم مِّنَ الْغَائِطِ أَوْ لاَمَسْتُمُ النِّسَاء فَلَمْ تَجِدُواْ مَاء فَتَيَمَّمُواْ صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُواْ بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُم مِّنْهُ} [المائدة: ٦] المشروع ضربةٌ واحدة للوجه والكفَّين، وصفةُ ذلك أنه يَضرِب التراب بيدَيه ضربةً واحدة، ثم يَمسَح بهما وجهه وكفَّيه، كما في الصحيحين أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال لعمَّارِ بنِ ياسرٍ رضي الله عنه: «إنما يَكفِيكَ أن تقول بيدَيك هكذا، ثم ضَرَب بيدَيه الأرضَ، ومسح بهما وجهَه وكفَّيه».
ويُشترَط أن يكون التراب طاهرًا، ولا يُشرع مسح الذراعين؛ بل يكفي مسح الوجه والكفَّين للحديث المذكور. ويقوم التيمُّم مقام الماء في رفع الحدث على الصحيح، فإذا تيمَّم صلَّى بهذا التيمُّم النافلةَ والفريضة الحاضرة والمستقبَلة، ما دام على طهارة، حتى يُحدِث أو يَجِد الماء إن كان عادمًا له، أو حتى يستطيع استعماله إذا كان عاجزًا عن استعماله، فالتيمُّم طهور يقوم مقام الماء كما سمَّاه النبيُّ صلى الله عليه وسلم طهورًا" [41] .
قال الصنعانيُّ رحمه الله: "استعمل عمّارٌ القياس، فرأى أنّه لَمَّا كان التّراب نائبًا عن الغُسل، فلا بدَّ من عمومه للبَدَن، فأبان له صلى الله عليه وسلم الكيفيّة الّتي تُجزئه، وأراه الصّفة المشروعة، وأَعلَمه أنّها فُرضت عليه، ودلَّ أنّه يكفي ضربةٌ واحدة، ويكفي في اليدَين مسحُ الكفَّين، وأنّ الآية مُجمَلة بيَّنها صلى الله عليه وسلم بالاقتصار على الكفَّين، وأفاد أنّ التّرتيب بين الوجه والكفَّين غير واجب، وإن كانت الواو لا تُفيد التّرتيب، إلّا أنّه قد ورد العطف في رواية للبخاريِّ للوجهِ على الكفَّين بـ(ثُمَّ)، وفي لفظ لأبي داود: «ثمّ ضرب بشِماله على يمينه، وبيمينه على شماله على الكفَّين، ثمّ مسح وجهه» وفي لفظ للإسماعيليِّ ما هو أوضحُ من هذا: «إنّما يكفيك أن تضرب بيدَيْكَ على الأرض، ثمّ تَنْفُضَهما، ثمّ تمسح بيمينك على شمالك، وبشمالك على يمينك، ثمّ تمسح على وجهك». ودلَّ أنّ التَّيمُّم فرض من أَجنَب ولم يَجِدِ الماء" [42] .
قال ابن الجوزيِّ رحمه الله: "وَقد دلَّ حديث عمَّار هذا على أنه يجوز الِاقْتِصَارُ فِي التَّيَمُّم على الْوَجْه وَالْكَفَّيْنِ بضَربة واحدة، وهو قولُ مالك وَدَاوُد، وقال أَبُو حنيفةَ وَالشَّافِعِيُّ فِي الْجَدِيد: لَا يُجْزِيه إِلَّا أَن يمسح إِلَى الْمِرْفَقين. وَلَا يخْتَلف أَصْحَابُنا في جَوَاز الْأَمريْنِ؛ إِنَّمَا اخْتلفُوا فِي الْمَسْنُون: فَقَالَ القَاضِي أَبُو يعلى: الْمسنون أَن يَضْرب ضربتين، يَمسَح بِوَاحِدَة وَجهَه وبالأخرى يَدَيْهِ إلى الْمِرْفَقين، فإن ضَرَب ضَرْبَة فمسح بها وجهَه وكفَّيه جَازَ. وقال أبو الخطَّاب الكلواذانيُّ: بل الْمَسنون عندَ أَحْمدَ ضَرْبَةٌ واحدة للْوَجْه والكَفَّيْنِ. وقال أبو الْوَفَاء بنُ عقيل: ظَاهرُ كلام أَحْمدَ يدلُّ على أَن الْمَسْح إلى الْمِرْفَقين جائز، وليس بمستحَبٍّ" [43] .
قال الصنعانيُّ رحمه الله: "وقد اختُلف في كمِّيَّة الضّربات، وقدر التّيمُّم في اليدين، فذهب جماعة من السَّلف ومَن بعدهم إلى أنّها تكفي الضَّربة الواحدة، وذهب إلى أنّها لا تكفي الضّربة الواحدة جماعةٌ من الصّحابة ومَن بعدهم، وقالوا: لا بدَّ من ضربتينِ، والذّاهبون إلى كفاية الضَّربة جمهورُ العلماء وأهلُ الحديث؛ عملًا بحديث عمَّارٍ؛ فإنّه أصحُّ حديث في الباب، وحديث الضَّربتين لا يَقْوى على معارضته. قالوا: وكلُّ ما عدا حديثَ عمّارٍ فهو ضعيف أو موقوف.
وأمّا قَدْرُ ذلك في اليدين، فقال جماعة من العلماء وأهل الحديث: إنّه يكفي في اليدينِ الرّاحتان، وظاهرُ الكفَّين؛ لحديث عمّار هذا، وقد رُوِيَت عن عمّارٍ روايات بخلاف هذا؛ لكنّ الأصحَّ ما في الصّحيحين، وقد كان يُفتي به بعد موت النّبيِّ صلى الله عليه وسلم. وقال آخرون: إنّها تجب ضربتانِ، ومسح اليدين مع الْمِرفَقين؛ لحديث ابن عمر، والأصحُّ فيه أنّه موقوف، فلا يقاوم حديث عمّار المرفوع الوارد للتّعليم، ومن ذلك اختلافُهم في التّرتيب بين الوجه واليدين، وحديث عمّار كما عرفتَ قاضٍ بأنّه لا يَجِب، وإليه ذهب من قال بالضَّربتين، إلا أنّه قال: لا بدَّ من التّرتيب بتقديم الوجه على اليدين، واليُمنى على اليسرى" [44] .
قال القاضي عياض رحمه الله: "وقوله صلى الله عليه وسلم: «إنما كان يكفيك هكذا، وضرب بكفَّيه الأرض ونَفَخ فيهما»، يُحتجُّ به في نفض اليدين، وقد أجاز مالك النَّفْضَ الخفيف في ذلك، وهو قول الكوفيين. وقوله: (فمسح بها وجَهه وكفَّيه): في ظاهره حُجَّةٌ لمن يرى الفرض ضربةً واحدةً، وهو قول بعض أصحابنا، ودليلُ قول مالكٍ، وأنه لا إعادة على مَن فَعَله، أو يُعيد في الوقت، وأن الضَّربة الثانية عنده سنَّةٌ، وجمهور العلماء على أنه لا يُجزيه إِلا ضربتان، وهو قول بعض أصحابنا، وَجَعله بعضهم قول مالك، ويَحتجُّ بها أيضًا من يقول: التيمُّم إلى الكُوعينِ، وهو قول جماعة من العلماء وفقهاء أصحاب الحديث، وبعض أصحابنا، وتأوَّلوها على رواية ابن القاسم عن مالك فيمن صلَّى بذلك أنه يُعيد في الوقت، والمعروف من مذهب مالك أن فَرْضه إلى الْمِرفَقين، وهو قول أكثرِ أئمَّة الفتوى والسلف. وقوله في الرواية الأخرى: «يمسح الشمال على اليمين وظاهِر كفّه»: تفسيرٌ لصفة المسح وعمومه" [45] .
قال ابن الجوزيِّ رحمه الله: "قَوله: (فتمرَّغت فِي الصَّعِيد كَمَا تتمرَّغ الدَّابَّة)، وَإِنَّمَا فعل هَذَا لِأَنَّهُ رأى التُّرَاب بَدَلًا عَن الْمَاء، فَاسْتَعْملهُ فِي جَمِيع الْبَدَن، فَأَما الصَّعِيد، فهو التُّرَاب؛ قَالَه عَليٌّ وَابْنُ مَسْعُود واللغويون، منهم الْفرَّاء وأبو عُبيد والزجَّاج وابن قُتَيْبَة.
وقال الشَّافِعِيُّ: لا يقع اسم (الصَّعِيد) إِلَّا على تُرَاب ذي غُبَار؛ فعلى هذا لا يجوز التَّيَمُّم إِلَّا بِالتُّرَابِ، وهو قَول أَحْمدَ وَالشَّافِعِيِّ ودَاوُدَ. وقال أَبُو حنيفة ومالك: يجوز بجميع أجزاء الأرض كالنورة والجصِّ والزَّرنيخ وَغَيرِه. وزاد مالكٌ فقال: ويجوز بالحَشِيش والشَّجر؛ فعلى هذا يكون الصَّعِيد عندهما ما تَصاعَد على وَجه الأرض، سَوَاءٌ كان تُرَابًا أَو غَيرَه، ولا خلاف أنه إِذا ضَرَب بيَده على الطِّين أنه لا يُجْزِيه، وَقد سلَّم خَصْمُنا بُرادة الذَّهَب وَالْفِضَّة، والصفر والنُّحاس، والدَّقيق وسحيق الزّجاج، والجوَّهر والصَّندل، ونحاتة الْخشب، وَنَحْو ذَلِك، فَأَمَّا الرَّمْلُ فلأبي حنيفَةَ وَأحمدَ فِيهِ رِوَايتانِ" [46] .
قال الصنعانيُّ رحمه الله: "وفي حديث عمّار دلالة على أنّ المشروع هو ضرب التّراب، وقال بعدم إجزاء غيره الهادويّة وغيرهم؛ لحديث عمّار هذا، وحديث ابن عمر، وقال الشّافعيُّ: يُجزئ وضع يده في التُّراب؛ لأنّ في إحدى روايتي تيمُّمه صلى الله عليه وسلم من الجدار، أنّه وضع يده. وفي رواية أيٍّ من حديث عمّار للبخاريِّ: «وضرب بكفَّيه الأرض ونفخ فيهما، ثمّ مسح بهما وجهه وكفَّيه»؛ أي: ظاهرهما كما سلف، وهو كاللّفظ الأوّل، إلّا أنّه خالفه بالتّرتيب وزيادة النّفخ، فأمّا نفخ التّراب فهو مندوب. وقيل: لا يُندَب، وهذا التّيمُّم وارد في كفاية التّراب للجُنُب الفاقد للماء، وقد قاسُوا عليه الحائض والنُّفساء، وخالف فيه ابن عمر وابن مسعود" [47] .
قال القاضي عياض رحمه الله: "وفيه جواز الاجتهاد في زمان النبيِّ صلى الله عليه وسلم عند الضرورة والبُعد منه؛ كما قال معاذٌ - رضي الله عنه - له: (أجتهد رأيي)، واستعمال القياس؛ لأنه لَمَّا رأى آية التيمُّم في الوضوء في بعض الأعضاء - إذ كان الوضوء مختصًّا ببعض الأعضاء - وكان طُهر الجنابة لعموم الجسد، استعمل التيمُّم بالتراب في جميع الجسد" [48] .
قال ابن الجوزيِّ رحمه الله: "وقولُه: (ونَفَض يَدَيْهِ). وَفِي لفظ: «يَكْفِيكَ أَن تضرب بيديك الأَرْض ثمَّ تَنفُخ»: يَحْتَجُّ به مَن يرى جَوَاز الضَّرْب على حَجَر لَا غُبَار لَهُ، وهو مَذْهَب أبي حنيفةَ ومالك. وعند أَحْمد وَالشَّافِعِيِّ: لا بدَّ من غُبَار يَعلَق بِالْيَدِ؛ لقَوْله تَعَالَى: ﱡ ﱭ ﱮ ﱯ ﱰ ﱠ [المائدة: ٦]، و"من" للتَّبْعِيض. وَأما نفضُ الْيَد ونفخُها، فَالْمُرَاد بِهِ تَخْفيُف مَا تعلَّق بِالْيَدِ؛ فإنَّه قد تعلَّق بها الكثير، والنفخ لا يَدفَع الْخَفِيف، وبه تقع الكفاية" [49] .
قال القاضي عياض رحمه الله: "وفيه من الفقه أَنَّ المتأوِّل المجتهد لا إعادةَ عليه؛ لأن النبيَّ صلى الله عليه وسلم لم يأمر عمَّارًا بالإعادة، وإن كان خطَّأ اجتهادَه؛ لأنه إنما ترك هيئة الطهارة، وقد جاء بها على غير هَيئتها، وأكمل مما يلزمه. وقوله: (فنفض يدَيه فنفخ فيهما): حُجَّة لمن أجاز نفض اليدين من التراب، وهو قول مالك والشافعيِّ، دون استقصاء لما فيهما من التراب؛ لكن لخشية ما يضرُّ به من ذلك من كثرته بتلويث وجهه، أو مُصادفة رُقاق حجرٍ فيه يُؤذيه ونحوه، وكان ابن عمر لا ينفُض" [50] .