123 - عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُعَلِّمُنَا الِاسْتِخَارَةَ فِي الأُمُورِ كُلِّهَا، كَمَا يُعَلِّمُنَا السُّورَةَ مِنَ القُرْآنِ، يَقُولُ: «إِذَا هَمَّ أَحَدُكُمْ بِالأَمْرِ، فَلْيَرْكَعْ رَكْعَتَيْنِ مِنْ غَيْرِ الفَرِيضَةِ، ثُمَّ لِيَقُلْ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْتَخِيرُكَ بِعِلْمِكَ وَأَسْتَقْدِرُكَ بِقُدْرَتِكَ، وَأَسْأَلُكَ مِنْ فَضْلِكَ العَظِيمِ؛ فَإِنَّكَ تَقْدِرُ وَلاَ أَقْدِرُ، وَتَعْلَمُ وَلاَ أَعْلَمُ، وَأَنْتَ عَلَّامُ الغُيُوبِ، اللَّهُمَّ إِنْ كُنْتَ تَعْلَمُ أَنَّ هَذَا الأَمْرَ خَيْرٌ لِي فِي دِينِي وَمَعَاشِي وَعَاقِبَةِ أَمْرِي - أَوْ قَالَ: عَاجِلِ أَمْرِي وَآجِلِهِ - فَاقْدُرْهُ لِي، وَيَسِّرْهُ لِي، ثُمَّ بَارِكْ لِي فِيهِ، وَإِنْ كُنْتَ تَعْلَمُ أَنَّ هَذَا الأَمْرَ شَرٌّ لِي فِي دِينِي وَمَعَاشِي وَعَاقِبَةِ أَمْرِي - أَوْ قَالَ: فِي عَاجِلِ أَمْرِي وَآجِلِهِ - فَاصْرِفْهُ عَنِّي، وَاصْرِفْنِي عَنْهُ، وَاقْدُرْ لِي الخَيْرَ حَيْثُ كَانَ، ثُمَّ أَرْضِنِي. قَالَ: وَيُسَمِّي حَاجَتَهُ» [1] .
الراوي المعنى الإجمالي الشرح المفصل الفوائد العلمية الفوائد العقدية الفوائد الفقهية من هدايات الحديث النقول ترجمة راوي الحديث:
هو: جابرُ بنُ عبدِ اللهِ بنِ عمرِو بنِ حرامٍ الأنصاريُّ، ثم السَّلِميُّ، أبو عبد الله، شهِد العقبة الثانية وهو صبيٌّ مع أبيه، وكان والده من النُّقباء البدريين، وكان آخِرَ مَن شهِد ليلة العقبة الثانية مَوتًا، وقيل: شهِد بَدرًا وأُحدًا، وشهد صِفِّين مع عليِّ بنِ أبي طالب رضي الله عنه، وهو مُفتي المدينة في زمانه، روى عنه سعيدُ بنُ المسيِّب، وأبو سلمة، وعطاء، رحل جابرُ بنُ عبدِ الله في آخر عمره إلى مكةَ في أحاديثَ سمعها، ثم انصرف إلى المدينة. ومسندُ جابرِ بنِ عبد الله بلغ ألفًا وخَمسمِائة وأربعين حديثًا، اتَّفَق له الشيخان على ثمانية وخمسين حديثًا، وانفرد له البخاريُّ بستَّة وعشرين حديثًا، ومسلمٌ بمائة وستَّة وعشرين حديثًا
[2]
. تُوفِّي سنةَ (78هـ)
[3]
. المعنى الإجماليُّ للحديث:
قال جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُعَلِّمُنَا الِاسْتِخَارَةَ فِي الأُمُورِ كُلِّهَا، كَمَا يُعَلِّمُنَا السُّورَةَ مِنَ القُرْآنِ)؛ أي: كان صلى الله عليه وسلم يعلِّمهم صلاة الاستخارة ويحفِّظهم دعاءها، كما كان يحفِّظهم القرآن، والاستخارةُ هي طَلَب الخَير.
يَقُولُ صلى الله عليه وسلم: «إِذَا هَمَّ أَحَدُكُمْ بِالأَمْرِ، فَلْيَرْكَعْ رَكْعَتَيْنِ مِنْ غَيْرِ الفَرِيضَةِ»؛ أي: إِذا قصد الْإِتْيَان بِفعل أَو ترك، وهو في حَيرة، فليُصلِّ ركعتين نافلة. «ثُمَّ لِيَقُلْ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْتَخِيرُكَ بِعِلْمِكَ»؛ أي: ليدعُ بعد انتهائه من الصلاة بطَلَب الخير من الله العليم بما هو خير له. «وَأَسْتَقْدِرُكَ بِقُدْرَتِكَ»؛ أي: أطلب منك بقدرتك أن تجعل لي قُدرة عليه. «وَأَسْأَلُكَ مِنْ فَضْلِكَ العَظِيمِ»؛ أي: وأطلب أن تَمُنَّ عليَّ من فضلك العظيم. «فَإِنَّكَ تَقْدِرُ وَلاَ أَقْدِرُ، وَتَعْلَمُ وَلاَ أَعْلَمُ، وَأَنْتَ عَلَّامُ الغُيُوبِ» فإنك تقدر على كلِّ شيء، ولا أقدر إلا على ما تُقدِرني عليه، وأنت علَّام الغُيوب، ولا أعلم إلا ما تُعلِمني إيَّاه. «اللَّهُمَّ إِنْ كُنْتَ تَعْلَمُ أَنَّ هَذَا الأَمْرَ خَيْرٌ لِي فِي دِينِي وَمَعَاشِي وَعَاقِبَةِ أَمْرِي»؛ أي: إن كنت تعلم أن هذا الأمر خيرٌ لي في ديني وحياتي ومستقبلي وآخرتي. «أَوْ قَالَ: عَاجِلِ أَمْرِي وَآجِلِهِ» شكٌّ من الراوي؛ أي: دنياي وآخرتي، أو ما يكون من أمري في الحال والاستقبال. «فَاقْدُرْهُ لِي، وَيَسِّرْهُ لِي، ثُمَّ بَارِكْ لِي فِيهِ»؛ أي: فاقدُرْ هذا الأمر أن يكون لي ميسَّرًا، ثم بارك لي فيه. «وَإِنْ كُنْتَ تَعْلَمُ أَنَّ هَذَا الأَمْرَ شَرٌّ لِي فِي دِينِي وَمَعَاشِي وَعَاقِبَةِ أَمْرِي - أَوْ قَالَ: فِي عَاجِلِ أَمْرِي وَآجِلِهِ - فَاصْرِفْهُ عَنِّي، وَاصْرِفْنِي عَنْهُ»؛ أي: إن كنت تعلم أنه شرٌّ لي في ديني وحياتي ومستقبلي وآخرتي، فأَبعِدْه عني، وأبعدني عنه، وجنِّبني إيَّاه. «وَاقْدُرْ لِي الخَيْرَ حَيْثُ كَانَ، ثُمَّ أَرْضِنِي»؛ أي: قدِّر لي الخيرَ دائمًا، حيث كان، ثم اجعلني راضيًا بما تقدِّر. «قَالَ: وَيُسَمِّي حَاجَتَهُ»؛ أي: يسمِّي الأمر الذي يَستخير من أجله في أثناء دعائه. الشرح المفصَّل للحديث:
إذا كان المؤمنُ يؤمن أنه لا يَعلَمُ الغَيبَ إلَّا اللهُ تعالى، ولا يُقدِّرُ الخيرَ والشَّرَّ للعَبْدِ سواه، فإنَّ عليه أن يرُدَّ الأمور كلَّها إلى الله، وأن يتبرَّأ من حَوله وقوَّته وقُدرته وعِلمه إلى حَول الله وقوَّته وقُدرته وعِلمه، وينبغي له أن لا يَقصِد شيئًا من دقيق الأمور وجَلِيلها، حتى يستخيرَ اللهَ فيه، ويَسألَه أن يَحمِلَه فيه على الخير، ويَصرِف عنه الشرَّ؛ إذعانًا بالافتقار إليه في كلِّ أمر، والتزامًا بذِلَّة العبودية له، واتِّباعًا لسُنَّة نبيِّه صلى الله عليه وسلم في الاستخارة.
إن الاستخارة هي توحيد خالص لله تعالى، وإيمان به، فيها إقرارُ العبد بضَعفه وعُبوديَّته وعَجزه علمًا وقُدرة، وتوكُّلُه على خالقه ومدبِّر أمرِه، واستعانتُه به، واللجوءُ إليه، وتفويضُه الأمرَ إليه، واستقسامُه بقُدرته وعلمه وحُسن اختياره له، وفيها الرضا بالله ربًّا، والرضا باختياره مهما كان.
لذا؛ كانت الاستخارةُ من أجلِّ أسباب سعادة العبد في دينه ودنياه؛ فعن سعدِ بنِ أبي وقَّاصٍ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مِنْ سَعَادَةِ ابْنِ آدَمَ اسْتِخَارَتُهُ اللَّهَ، وَمِنْ سَعَادَةِ ابْنِ آدَمَ رِضَاهُ بِمَا قَضَى اللَّهُ، وَمِنْ شِقْوَةِ ابْنِ آدَمَ تَرْكُهُ اسْتِخَارَةَ اللهِ، وَمِنْ شِقْوَةِ ابْنِ آدَمَ سَخَطُهُ بِمَا قَضَى اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ»
[4]
.
و"المقدور يكتنفه أمران: الاستخارة قبل وقوعه، والرضا بعد وقوعه؛ فمن سعادة العبد أن يجمع بينهما"
[5]
.
لذا؛ كان النبيُّ صلى الله عليه وسلم يعلِّم الصحابة دعاءَ الاستخارة كما يعلِّمهم السورة من القرآن؛ لشدَّة حاجتهم إلى الاستخارة في الحالات كلِّها؛ كشِدَّة حاجتهم إلى القراءة في كلِّ الصَّلَوات؛ فهذا أبو أيُّوبَ الأنصاريُّ رضي الله عنه أراد الخِطبة، فيروي أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ لَهُ: «اكْتُمِ الْخِطْبَةَ، ثُمَّ تَوَضَّأْ فَأَحْسِنْ وُضُوءَكَ، وَصَلِّ مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكَ، ثُمَّ احْمَدْ رَبَّكَ وَمَجِّدْهُ، ثُمَّ قُلِ: اللَّهُمَّ إِنَّكَ تَقْدِرُ وَلاَ أَقْدِرُ، وَتَعْلَمُ وَلاَ أَعْلَمُ، أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ، فَإِنْ رَأَيْتَ لِي فِي فُلاَنَةَ، تُسَمِّيهَا بِاسْمِهَا، خَيْرًا فِي دِينِي وَدُنْيَايَ وَآخِرَتِي، وَإِنْ كَانَ غَيْرُهَا خَيْرًا لِي مِنْهَا فِي دِينِي وَدُنْيَايَ وَآخِرَتِي، فَاقْضِ لِي بِهَا، أَوْ قَالَ: فَاقْدُرْهَا لِي»
[6]
.
ويروي أنسٌ - رضي الله عنه - في قصة زواج النبيِّ صلى الله عليه وسلم من زينبَ بنتِ جحشٍ، وفيه قالت: «ما أنا بصانعة شيئًا حتى أُوَامِرَ ربِّي، فقامت إلى مسجدها»
[7]
.
وفي هذا الحَديثِ بَيانٌ لهدي النبيِّ صلى الله عليه وسلم في صَلاةِ الاستِخارةِ في كُلِّ الأُمور، وأهميتِها، وعنايتِه بها، وتعليمها للصحابة الكرام، وتحفيظهم دعاءها كما يعلِّمهم القرآن؛ حيثُ يَرْوي جابرُ بنُ عبدِ اللهِ رَضيَ اللهُ عنهما يقول: (كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُعَلِّمُنَا الِاسْتِخَارَةَ فِي الأُمُورِ كُلِّهَا، كَمَا يُعَلِّمُنَا السُّورَةَ مِنَ القُرْآنِ)؛ أي: كان صلى الله عليه وسلم يعلِّمهم صلاة الاستخارة ويحفِّظهم دعاءها، كما كان يحفِّظهم القرآن، والاستخارة هي طلب الخير.
فـ"إذا عنَّ للإنسان جهةٌ، فليَسْتَخِرِ الله تعالى فيها الاستخارةَ المتلقَّاة عن معلِّم الخيرِ صلى الله عليه وسلم، فإن فيها من البَرَكة ما لا يُحاط به، ثم ما تيسَّر له، فلا يتكلَّف غيره إلَّا أن يكون منه كراهةٌ شرعية"
[8]
.
قوله: «في الأمور كلّها» دليلٌ على العموم؛ يَعْنِي: فِي دَقِيق الْأُمُور وجَلِيلها؛ لِأَنَّهُ يجب على الْمُؤمن ردُّ الأمور كلِّها إلى الله عزَّ وجل، والتبرُّؤ من الْحَول وَالْقُوَّة إليه، وأن لا يَحتقِر أمرًا لصِغَره، وعدمِ الاهتمام به، فيَترُك الاستخارة فيه، فرُبَّ أمرٍ يستخفُّ بأمره، فيكون في الإقدام عليه ضررٌ عظيم، أو في تركه. لذا؛ رُوِيَ عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم أنه قال: «ليسأل أحدكم ربَّه حتّى في شِسْعِ نَعْله»
[9]
.
وفي قوله: «كما يعلِّمنا السُّورة من القرآن» دليلٌ على الاهتمام بأمر الاستخارة، وأنّه متأكَّد، مرغَّب فيه.
يَقُولُ صلى الله عليه وسلم: «إِذَا هَمَّ أَحَدُكُمْ بِالأَمْرِ، فَلْيَرْكَعْ رَكْعَتَيْنِ مِنْ غَيْرِ الفَرِيضَةِ»؛ أي: إِذا قَصَد الْإِتْيَان بِفعل أَو ترك، وهو في حَيرة، فليُصلِّ ركعتين نافلةً.
والاستخارة عبارةٌ عن صلاة ودعاء؛ فالصلاة هي ركعتانِ من غير الصلوات المفروضة، ويصحُّ أن تكون سنَّةً راتبة، أو تحيَّةَ مسجد، أو صلاة ضُحًى على الراجح من قولَيِ العلماء، أما استخارةُ الحائض والنُّفَساء، فتكون بالدعاء دون الصلاة.
"قوله: «فليركع ركعتين»: فيه أنَّ السُّنَّة في الاستخارة كونُها ركعتين، فلا تُجزئ الرّكعةُ الواحدة، وهل يجزئ في ذلك أن يصلِّيَ أربعًا أو أكثرَ بتسليمة، يُحتمَل أن يُقال: يُجزئ ذلك؛ لقوله في حديث أبي أيُّوب «ثمَّ صلِّ ما كَتَب اللَّه لك» فهو دالٌّ على أنّها لا تضرُّ الزّيادة على الرَّكعتين، ومفهومُ العدد في قوله: «فليركع ركعتين» ليس بحُجَّة على قول الجمهور.
قوله: «من غير الفريضة» فيه أنَّه لا يحصل التّسنُّن بوقوع الدُّعاء بعد صلاة الفريضة، والسُّننِ الرّاتبة، وتحيَّةِ المسجد، وغير ذلك من النَّوافل. وقال النّوويُّ في "الأذكار": إنّه يحصل التَّسنُّن بذلك، وتُعُقِّب بأنّه صلى الله عليه وسلم إنّما أَمَره بذلك بعدَ حصول الهمِّ بالأمرِ، فإذا صلَّى راتبةً أو فريضةً، ثمَّ همَّ بأمرٍ بعد الصّلاة، أو في أثناء الصّلاة، لم يَحصُل بذلك الإتيان بالصّلاة المسنونة عند الاستخارة. قال العراقيُّ: إن كان همُّه بالأمر قبل الشّروع في الرَّاتبة ونحوها ثمَّ صلَّى من غير نيَّة الاستخارة، وبدا له بعد الصَّلاة الإتيان بدعاء الاستخارة، فالظّاهر حصول ذلك"
[10]
.
ولا تُصلَّى الاستخارة وقتَ نهيٍ؛ إلَّا في أمر يَفُوت ولا يمكِن استدراكه، فتكون من ذوات الأسباب التي يجوز فعلها في أوقات النهيِ.
"أما الاستخارة فهي مع الله - عزَّ وجلَّ - يستخير الإنسان ربَّه إذا همَّ بأمر وهو لا يدري عاقبتَه، ولا يدري مستقبَلَه، فعليه بالاستخارة، والاستخارةُ معناها طلب خَيْرِ الأمرينِ، وقد أرشد النبيُّ صلى الله عليه وسلم إلى ذلك بأن يصلِّيَ الإنسان ركعتين من غير الفريضة في غير وقت النهيِ، إلَّا في أمر يَخشى فَواتَه قبل خروج وقت النهيِ، فلا بأس أن يستخيرَ ولو في وقت النهيِ، أما ما كان فيه الأمر واسعًا، فلا يجوز أن يَستخير وقتَ النهيِ، فلا يستخير بعد صلاة العصر، وكذلك بعد الفجر حتى ترتفع الشمس مِقدارَ رُمح، وكذلك عند زوالها حتى تَزُول، لا يستخير إلا في أمر قد يفوت عليه، يصلِّي ركعتين من غير الفريضة ثم يسلِّم، وإذا سلَّم، قال: «اللهم إني أستخيرك بعلمك وأستقدرك بقدرتك...» الدعاء
[11]
.
«ثُمَّ لِيَقُلْ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْتَخِيرُكَ بِعِلْمِكَ»؛ أي: أطلب منك الْخِيرَة ملتبِّسًا بعلمك بخَيرِي وشرِّي.
"قوله: «ثمّ ليَقُلْ» فيه أنّه لا يضرُّ تأخُّر دعاء الاستخارة عن الصَّلاة ما لم يَطُلِ الفصل، وأنّه لا يضرُّ الفصل بكلام آخَرَ يسير، خصوصًا إن كان من آداب الدُّعاء؛ لأنّه أتى بـ(ثمّ) المقتضية للتّراخي.
قوله: «أستخيرك»؛ أي: أطلب منك الخَير أو الخِيَرة. استخار اللّه: طلب منه الخَير. وخار اللّه لك؛ أي: أعطاك اللّه ما هو خيرٌ لك. وقوله: «بعلمك»: الباء للتّعليل؛ أي: بأنَّك أعلمُ، وكذا قولُه: «بقدرتك»"
[12]
.
قوله: «وَأَسْتَقْدِرُكَ بِقُدْرَتِكَ، وَأَسْأَلُكَ مِنْ فَضْلِكَ العَظِيمِ»؛ أي: أطلب الْقُدْرَة منك أَن تجعلني قَادِرًا عليه، وأن تَمُنَّ عليَّ من فضلك العظيم. «فَإِنَّكَ تَقْدِرُ وَلاَ أَقْدِرُ، وَتَعْلَمُ وَلاَ أَعْلَمُ، وَأَنْتَ عَلَّامُ الغُيُوبِ» إِشارة إلى أن الْقُدْرَة لله وحده، وكذلك الْعلمُ له وحدَه. «اللَّهُمَّ إِنْ كُنْتَ تَعْلَمُ أَنَّ هَذَا الأَمْرَ خَيْرٌ لِي فِي دِينِي وَمَعَاشِي وَعَاقِبَةِ أَمْرِي»؛ أي: إن كنتَ تَعلَم أن هذا الأمر خيرٌ لي في ديني وحياتي ومستقبَلي وآخرتي. «أَوْ قَالَ: عَاجِلِ أَمْرِي وَآجِلِهِ» وهذا شكٌّ من الراوي؛ أي: دنياي وآخرتي، أو ما يكون من أمري في الحال والاستقبال. «فَاقْدُرْهُ لِي، وَيَسِّرْهُ لِي، ثُمَّ بَارِكْ لِي فِيهِ»؛ أي: اجعله مقدورًا لي، أو قدِّرْه لي، ويسِّرْه لي، ثم بارك لي فيه. «وَإِنْ كُنْتَ تَعْلَمُ أَنَّ هَذَا الأَمْرَ شَرٌّ لِي فِي دِينِي وَمَعَاشِي وَعَاقِبَةِ أَمْرِي - أَوْ قَالَ: فِي عَاجِلِ أَمْرِي وَآجِلِهِ - فَاصْرِفْهُ عَنِّي، وَاصْرِفْنِي عَنْهُ»؛ أي: إن كنت تعلم أنه شرٌّ لي في ديني وحياتي ومستقبلي وآخرتي، فأبعده عني، وأبعدني عنه، وجنِّبني إياه.
"قولُه: «فاصرفه عنّي واصرفني عنه» هو طَلَبُ الأكملِ من وجوهِ انصراف ما ليس فيه خِيَرةٌ عنه، ولم يكتفِ بسؤال صرف أحد الأمرين؛ لأنّه قد يَصرِف اللَّهُ المستخير عن ذلك الأمر بأن يَنقطِع طلبُه له، وذلك الأمرُ الذي ليس فيه خِيَرة بطلبه؛ فربّما أدركه، وقد يَصرِف اللّه عن المستخير ذلك الأمر، ولا يَصرِف قلب العبد عنه؛ بل يبقى متطلِّعًا متشوِّقًا إلى حصوله، فلا يَطِيب له خاطر إلّا بحصوله، فلا يطمئنُّ خاطره، فإذا صُرِف كلٌّ منهما عن الآخَر، كان ذلك أكملَ"
[13]
.
ولذلك قال: «وَاقْدُرْ لِي الخَيْرَ حَيْثُ كَانَ، ثُمَّ أَرْضِنِي»؛ أي: قدرِّ لي الخير دائمًا، حيث كان، ثم اجعلني راضيًا بما تقدِّر؛ "لأنّه إذا قدَّر له الخير ولم يرضَ به، كان منكَّدَ العيش، آثمًا بعدم رضاه بما قدَّره اللّه له، مع كونه خيرًا له"
[14]
.
«قَالَ: وَيُسَمِّي حَاجَتَهُ»؛ أي: يعيِّن حاجته؛ مثل أن يقول: إن كنت تَعلَم أن هذا الأمر من السّفر أو التّزوُّج أو نحو ذلك.
"فتضمَّن هذا الدعاءُ الإقرارَ بوجوده سبحانه، والإقرارَ بصفات كماله، من كمال العِلم والقُدرة والإرادة، والإقرارَ بربوبيَّته، وتفويضَ الأمر إليه، والاستعانةَ به، والتوكُّلَ عليه، والخروجَ من عُهدة نفسه، والتبرِّي من الحَول والقوَّة إلَّا به، واعتراف العبد بعجزه عن علمه بمصلحة نفسه، وقُدرته عليها، وإرادته لها، وأن ذلك كلَّه بيد وليِّه وفاطره وإلهه الحقِّ"
[15]
.
وما نَدِم مَن استخار الخالق، وشاوَرَ المخلوقين، وتثبَّت في أمره؛ فـ"الاستخارة مع الله، والمشاورة مع أهل الرأيِ والصلاح، وذلك أن الإنسان عنده قصور أو تقصير، والإنسان خُلِق ضعيفًا، فقد تُشكِل عليه الأمور، وقد يتردَّد فيها، فماذا يصنع؟ لنفرض أنه همَّ بسفَر وتردَّد هل هو خير أم شرٌّ؟ أو همَّ أن يشتريَ سيَّارةً أو بيتًا، أو أن يُصاهر رجلاً يتزوَّج ابنته، أو ما أشبه ذلك؛ ولكنه متردِّد، فماذا يصنع؟ نقول: له طريقتان؛ الطريق الأول: استخارة ربِّ العالمين عزَّ وجلَّ الذي يعلم ما كان وما يكون، وما لم يكن لو كان كيف يكون. الطريق الثاني: استشارة أهل الرأي والصلاح والأمانة"
[16]
.
"والحديث يدلُّ على مشروعيّة صلاة الاستخارة، والدُّعاء عَقِيبها، ولا خلاف في ذلك، وهل يُستحبُّ تَكرار الصّلاة والدُّعاء؟ قال العراقيُّ: الظّاهر الاستحبابُ. وقد يُستدلُّ للتَّكرار بأنّ النّبيَّ صلى الله عليه وسلم «كان إذا دعا، دعا ثلاثًا»، وهذا وإن كان المرادُ به تَكرارَ الدّعاء في الوقت الواحد، فالدُّعاءُ الَّذي تُسنُّ الصّلاة له، تُكرَّر الصّلاة له؛ كالاستسقاء.
وينبغي أن يفعل المرء بعد الاستخارة ما يَنشرِح له صدرُه، ولا ينبغي أن يعتمد على انشراحٍ كان له فيه هوًى قبل الاستخارة؛ بل ينبغي للمستخير تركُ اختياره رأسًا، وإلَّا فلا يكون مستخيرًا للّه؛ بل يكون مستخيرًا لهواه، وقد يكون غيرَ صادق في طلب الخِيَرة وفي التّبرِّي من العِلم والقُدرة، وإثباتهما للّه تعالى، فإذا صَدَق في ذلك، تَبرَّأ من الحَول والقوَّة، ومن اختياره لنفسه"
[17]
.
فعلامة الخيرة بعد الاستخارة انشراح الصدر، وتَيسُّر الأمر، وعلامةُ انتفاء الخِيَرة عَدَمُ انشراح الصدر، وتعسُّر الأمر، فإن لم يظهر شيءٌ من تلك العلامات، فعلى العبد أن يستفتح ربَّه بتَكرار الاستخارة والاستشارة، فإن لم يظهر له شيء بعد هذا التَّكرار، فليفعل ما يراه، بعد استشارة أهل الصلاح؛ فتلك هي الخِيَرة.
"ثم بعد الصلاة ودعاء الاستخارة إن انشرح صدره بأحد الأمرين، بالإقدام أو الإحجام، فهذا المطلوبُ، يَأخُذ بما يَنشرِح به صدره، فإن لم ينشرح صدره لشيء، وبَقِي متردِّدًا، أعاد الاستخارة مرَّةً ثانية وثالثة، ثم بعد ذلك المشورة، إذا لم يتبيَّن له شيء بعد الاستخارة، فإنه يُشاور أهل الرأي والصلاح، ثم ما أُشير عليه به فهو الخيرُ إن شاء الله؛ لأن الله تعالى قد لا يجعل في قلبه بالاستخارة مَيْلاً إلى شيء معيَّن؛ حتى يستشير، فيجعل اللهُ تعالى مَيْلَ قلبِه بعد المشورة، وقد اختلف العلماء: هل المقدَّم المشورة أو الاستخارة؟ والصحيحُ أن المقدَّم الاستخارة، فقدِّم أوَّلاً الاستخارة؛ لقول النبيِّ صلى الله عليه وسلم: «إذا همَّ أحدكم بالأمر، فليُصلِّ ركعتين...» إلى آخره، ثمَّ إذا كرَّرتَها ثلاثَ مرَّات، ولم يتبيَّن لك الأمر، فاستشِرْ، ثمَّ ما أُشير عليك به، فخُذْ به، وإنما قلنا: إنه يَستخير ثلاثَ مرَّات؛ لأن من عادة النبيِّ صلى الله عليه وسلم أنه إذا دعا، دعا ثلاثًا، والاستخارة دعاءٌ، وقد لا يتبيَّن للإنسان خيرُ الأمرين من أوَّل مرَّةٍ؛ بل قد يتبيَّن في أوَّل مرَّة، أو في الثانية، أو في الثالثة، وإذا لم يتبيَّن، فليَستشِرْ"
[18]
.
قال عبد اللّه بن عمر: "إنّ الرجل ليَسْتَخيرُ اللّه، فيختار له، فيَسخَط على ربِّه، فلا يَلبَثُ أن يَنظُر في العاقبة، فإذا هو قد خار له"
[19]
. الفوائد العلمية:
1. في هذا الحديث بَيانٌ لهَدْيِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم في صلاة الاستخارة في كُلِّ الأُمور، وأهميتِها، وعنايتِه بها، وتعليمها للصحابة الكرام، وتحفيظهم دعاءها كما يعلِّمهم القرآن.
2. في الحديث بيان أنه ينبغي للعبد أن لا يَقصِد شيئًا من دقيق الأمور وجَلِيلها، حتى يستخيرَ اللهَ فيه، ويَسألَه أن يَحمِلَه فيه على الخير، ويَصرِف عنه الشرَّ؛ إذعانًا بالافتقار إليه في كلِّ أمر، والتزامًا بذِلَّة العبودية له، واتِّباعًا لسُنَّة نبيِّه صلى الله عليه وسلم في الاستخارة.
3. الاستخارة هي مع الله تعالى، يستخير الإنسان ربَّه إذا همَّ بأمر وهو لا يدري عاقبتَه، ولا يدري مستقبَلَه، فعليه بالاستخارة، والاستخارةُ معناها طلب خَيْرِ الأمرينِ.
4. المقدور يكتنفه أمران: الاستخارة قبل وقوعه، والرضا بعد وقوعه؛ فمن سعادة العبد أن يجمع بينهما
[20]
؛ "لأنّه إذا قدَّر له الخير ولم يرضَ به، كان منكَّدَ العيش، آثمًا بعدم رضاه بما قدَّره اللّه له، مع كونه خيرًا له"
[21]
.
5. كان النبيُّ صلى الله عليه وسلم يعلِّم الصحابة دعاءَ الاستخارة كما يعلِّمهم السورة من القرآن؛ لشدَّة حاجتهم إلى الاستخارة في الحالات كلِّها؛ كشِدَّة حاجتهم إلى القراءة في كلِّ الصَّلَوات.
6. الاستخارة تكون مع الله، والمشاورة مع أهل الرأيِ والصلاح، وذلك أن الإنسان عنده قصور أو تقصير، والإنسان خُلِق ضعيفًا، فقد تُشكِل عليه الأمور، وقد يتردَّد فيها؛ فأمامه طريقان؛ الطريق الأول: استخارة ربِّه الذي يعلم ما كان وما يكون، وما لم يكن لو كان كيف يكون. والطريق الثاني: استشارة أهل الرأي والصلاح والأمانة
[22]
.
7. ينبغي أن يفعل المرء بعد الاستخارة ما يَنشرِح له صدرُه، ولا ينبغي أن يعتمد على انشراحٍ كان له فيه هوًى قبل الاستخارة؛ بل ينبغي للمستخير تركُ اختياره رأسًا، وإلَّا فلا يكون مستخيرًا للّه؛ بل يكون مستخيرًا لهواه، وقد يكون غيرَ صادق في طلب الخِيَرة وفي التّبرِّي من العِلم والقُدرة، وإثباتهما للّه تعالى، فإذا صَدَق في ذلك، تَبرَّأ من الحَول والقوَّة، ومن اختياره لنفسه
[23]
.
8. علامة الخِيَرة بعد الاستخارة انشراحُ الصدر، وتَيسُّرُ الأمر، وعلامةُ انتفاء الخِيَرة عَدَمُ انشراح الصدر، وتعسُّرُ الأمر، فإن لم يظهر شيءٌ من تلك العلامات، فعلى العبد أن يستفتح ربَّه بتَكرار الاستخارة والاستشارة، فإن لم يظهر له شيء بعد هذا التَّكرار، فليفعل ما يراه، بعد استشارة أهل الصلاح؛ فتلك هي الخِيَرة. الفوائد العقدية:
1. في هذا الحديث حُجَّةٌ على القَدَرية الذين يزعمون أن الله تعالى لا يَخلُق الشرَّ، تعالى الله عَّما يَفتَرُون، وقد أبان النبيُّ صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث أن الله تعالى هو المالك للشرِّ، والخالقُ له؛ إذ هو الْمَدْعوُّ لصَرْفِه عن العبد، ومُحَال أن يسأله العبد أن يَصرِف عنه ما يَملِكه العبد من نفسه، وما يَقدِر على اختراعه دون تقدير الله عليه
[30]
.
2. الاستخارة هي توحيد خالص لله تعالى، وإيمان به، فيها إقرارُ العبد بضَعفه وعُبوديَّته وعَجزه علمًا وقُدرة، وتوكُّلُه على خالقه ومدبِّر أمرِه، واستعانتُه به، واللجوءُ إليه، وتفويضُه الأمرَ إليه، واستقسامُه بقُدرته وعلمه وحُسن اختياره له، وفيها الرضا بالله ربًّا، والرضا باختياره مهما كان.
3. تضمَّن هذا الدعاءُ الإقرارَ بوجوده سبحانه، والإقرارَ بصفات كماله، من كمال العِلم والقُدرة والإرادة، والإقرارَ بربوبيَّته، وتفويضَ الأمر إليه، والاستعانةَ به، والتوكُّلَ عليه، والخروجَ من عُهدة نفسه، والتبرِّي من الحَول والقوَّة إلَّا به، واعتراف العبد بعجزه عن علمه بمصلحة نفسه، وقُدرته عليها، وإرادته لها، وأن ذلك كلَّه بيد وليِّه وفاطره وإلهه الحقِّ
[31]
.
4. إذا كان المؤمنُ يؤمن أنه لا يَعلَمُ الغَيبَ إلَّا اللهُ تعالى، ولا يُقدِّرُ الخيرَ والشَّرَّ للعبد سواه، فإنَّ عليه أن يرُدَّ الأمور كلَّها إلى الله، وأن يتبرَّأ من حَوله وقوَّته وقُدرته وعِلمه إلى حَول الله وقوَّته وقُدرته وعِلمه. الفوائد الفقهية:
1. الاستخارة عبارةٌ عن صلاة ودعاء؛ فالصلاة هي ركعتانِ من غير الصلوات المفروضة، ويصحُّ أن تكون سنَّةً راتبة، أو تحيَّةَ مسجد، أو صلاة ضُحًى على الراجح من قولَيِ العلماء، أما استخارةُ الحائض والنُّفَساء، فتكون بالدعاء دون الصلاة.
2. قوله: «فليركع ركعتين»: فيه أنَّ السُّنَّة في الاستخارة كونُها ركعتين، فلا تُجزئ الرّكعةُ الواحدة، وهل يجزئ في ذلك أن يصلِّيَ أربعًا أو أكثرَ بتسليمة، يُحتمَل أن يُقال: يُجزئ ذلك؛ لقوله في حديث أبي أيُّوب «ثمَّ صلِّ ما كَتَب اللَّه لك» فهو دالٌّ على أنّها لا تضرُّ الزّيادة على الرَّكعتين، ومفهومُ العدد في قوله: «فليركع ركعتين» ليس بحُجَّة على قول الجمهور
[24]
.
3. قوله: «في الأمور كلّها» دليلٌ على العموم؛ يَعْنِي: فِي دَقِيق الْأُمُور وجَلِيلها؛ لِأَنَّهُ يجب على الْمُؤمن ردُّ الأمور كلِّها إلى الله عزَّ وجل، والتبرُّؤ من الْحَول وَالْقُوَّة إليه، وأن لا يَحتقِر أمرًا لصِغَره، وعدمِ الاهتمام به، فيَترُك الاستخارة فيه؛ فرُبَّ أمرٍ يستخفُّ بأمره، فيكون في الإقدام عليه ضررٌ عظيم، أو في تركه. لذا؛ رُوِيَ عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم أنه قال: «ليسأل أحدُكم ربَّه حتّى في شِسْعِ نَعْله»
[25]
.
4. لا تُصلَّى الاستخارة وقتَ نهيٍ؛ إلَّا في أمر يَخشى فَواتَه قبل خروج وقت النهيِ، فلا بأس أن يستخيرَ ولو في وقت النهيِ، أما ما كان فيه الأمر واسعًا، فلا يجوز أن يَستخير وقتَ النهيِ، فلا يستخير بعد صلاة العصر، وكذلك بعد الفجر حتى ترتفع الشمس مِقدارَ رُمح، وكذلك عند زوالها حتى تَزُول، لا يستخير إلا في أمر قد يفوت عليه
[26]
.
5. اختلف العلماء في قوله: «من غير الفريضة»، فقيل: لا يحصل التّسنُّنُ بوقوع الدُّعاء بعد صلاة الفريضة، والسُّننِ الرّاتبة، وتحيَّةِ المسجد، وغير ذلك من النَّوافل. وقيل: إنّه يحصل التَّسنُّن بذلك. وقيل: إن كان همُّه بالأمر قبل الشّروع في الرَّاتبة ونحوها ثمَّ صلَّى من غير نيَّة الاستخارة، وبدا له بعد الصَّلاة الإتيان بدعاء الاستخارة، فالظّاهر حصول ذلك
[27]
.
6. قوله: «ثمّ ليَقُلْ» فيه أنّه لا يضرُّ تأخُّر دعاء الاستخارة عن الصَّلاة ما لم يَطُلِ الفصل، وأنّه لا يضرُّ الفصل بكلام آخَرَ يسير، خصوصًا إن كان من آداب الدُّعاء؛ لأنّه أتى بـ(ثمّ) المقتضية للتّراخي.
7. الظاهر استحبابُ تَكرار الصّلاة والدُّعاء، وقد يُستدلُّ للتَّكرار بأنّ النّبيَّ صلى الله عليه وسلم كان إذا دعا، دعا ثلاثًا، وهذا وإن كان المرادُ به تَكرارَ الدّعاء في الوقت الواحد، فالدُّعاءُ الَّذي تُسنُّ الصّلاة له، تُكرَّر الصّلاة له؛ كالاستسقاء
[28]
.
8. بعد الصلاة ودعاء الاستخارة إن انشرح صدره بأحد الأمرين، بالإقدام أو الإحجام، فهذا المطلوبُ، يَأخُذ بما يَنشرِح به صدره، فإن لم ينشرح صدره لشيء، وبَقِي متردِّدًا، أعاد الاستخارة مرَّةً ثانية وثالثة، ثم بعد ذلك المشورة، إذا لم يتبيَّن له شيء بعد الاستخارة، فإنه يُشاور أهل الرأي والصلاح، ثم ما أُشير عليه به فهو الخيرُ إن شاء الله؛ لأن الله تعالى قد لا يجعل في قلبه بالاستخارة مَيْلاً إلى شيء معيَّن؛ حتى يستشير، فيجعل اللهُ تعالى مَيْلَ قلبِه بعد المشورة.
9. اختلف العلماء: هل المقدَّم المشورة أو الاستخارة؟ والصحيحُ أن المقدَّم الاستخارة، فقدِّم أوَّلاً الاستخارة؛ لقول النبيِّ صلى الله عليه وسلم: «إذا همَّ أحدكم بالأمر، فليُصلِّ ركعتين...» إلى آخره، ثمَّ إذا كرَّرتَها ثلاثَ مرَّات، ولم يتبيَّن لك الأمر، فاستشِرْ، ثمَّ ما أُشير عليك به، فخُذْ به، وإنما قلنا: إنه يَستخير ثلاثَ مرَّات؛ لأن من عادة النبيِّ صلى الله عليه وسلم أنه إذا دعا، دعا ثلاثًا، والاستخارة دعاءٌ، وقد لا يتبيَّن للإنسان خيرُ الأمرين من أوَّل مرَّةٍ؛ بل قد يتبيَّن في أوَّل مرَّة، أو في الثانية، أو في الثالثة، وإذا لم يتبيَّن، فليَستشِرْ
[29]
. من هدايات الحديث:
1. الاستخارةُ من أجلِّ أسباب سعادة العبد في دينه ودنياه؛ فعن سعدِ بنِ أبي وقَّاصٍ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مِنْ سَعَادَةِ ابْنِ آدَمَ اسْتِخَارَتُهُ اللَّهَ، وَمِنْ سَعَادَةِ ابْنِ آدَمَ رِضَاهُ بِمَا قَضَى اللَّهُ، وَمِنْ شِقْوَةِ ابْنِ آدَمَ تَرْكُهُ اسْتِخَارَةَ اللهِ، وَمِنْ شِقْوَةِ ابْنِ آدَمَ سَخَطُهُ بِمَا قَضَى اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ»
[35]
.
2. ما نَدِم مَن استخار الخالق، وشاوَرَ المخلوقين، وتثبَّت في أمره.
3. قال عبد اللّه بنُ عمرَ - رضي الله عنهما -: "إنّ الرجل ليَسْتَخيرُ اللّه، فيختار له، فيَسخَط على ربِّه، فلا يَلبَثُ أن يَنظُر في العاقبة، فإذا هو قد خار له"
[36]
.
4. الاستخارة عبوديةٌ وانكسار، ودليلٌ على تعلُّق قلب المؤمن بربِّه في سائر أحواله.
5. الاستخارة تَرْفع الروح المعنوية للمستخير، فتجعله واثقًا مِن توفيق الله له.
6. الاستخارة تعظيم لله وثناء، وهي مَخرجٌ من الحَيرة والشكِّ، ومَدْعاة للطمأنينة وراحة البال، وهي سبيلُ التوكُّلِ وتفويضِ الأمر إلى الله تعالى.
7. إذا كنتَ تؤمن أنه لا يَعلَمُ الغَيبَ إلَّا اللهُ تعالى، ولا يُقدِّرُ الخيرَ والشَّرَّ للعَبْدِ سواه، فعليك أن ترُدَّ الأمور كلَّها إلى الله، وأن تتبرَّأ من حَولك وقوَّتك وقُدرتك وعِلمك إلى حَول الله وقوَّته وقُدرته وعِلمه.
8. ينبغي للعبد أن لا يَقصِد شيئًا من دقيق الأمور وجَلِيلها، حتى يستخيرَ اللهَ فيه، ويَسألَه أن يَحمِلَه فيه على الخير، ويَصرِف عنه الشرَّ؛ إذعانًا بالافتقار إليه في كلِّ أمر، والتزامًا بذِلَّة العبودية له، واتِّباعًا لسُنَّة نبيِّه صلى الله عليه وسلم في الاستخارة.
9. رُبَّ أَمْرٍ تَتَّقِيهِ = جَرَّ أَمْرًا تَرْتَضِيهِ
خَفِيَ الْمَحْبُوبُ مِنْهُ = وَبَدَا الْمَكْرُوهُ فِيهِ النقول:
قال ابن حجر رحمه الله: "قوله: (باب الدعاء عند الاستخارة) هي (اسْتِفْعَالٌ) من الخَير، أو من الخِيَرة، بكسر أوَّله وفتح ثانيه، بوزن العِنَبة، اسمٌ من قولك: خار اللهُ له. واستخار اللهَ: طلبَ منه الخِيَرة، وخار اللهُ له: أعطاه ما هو خيرٌ له، والمرادُ طَلَبُ خير الأمرين لمن احتاج إلى أحدهما"
[37]
.
قال ابن تيمية رحمه الله: "إذا عنَّ للإنسان جهةٌ، فليَسْتَخِرِ الله تعالى فيها الاستخارةَ المتلقَّاة عن معلِّم الخيرِ صلى الله عليه وسلم، فإن فيها من البَرَكة ما لا يُحاط به، ثم ما تيسَّر له، فلا يتكلَّف غيره إلَّا أن يكون منه كراهةٌ شرعية"
[38]
.
قال ابن بطَّال رحمه الله: "فِقْهُ هذا الحديث أنه يَجِبُ على المؤمن رَدُّ الأمور كلِّها إلى الله، وصَرْفُ أَزِمَّتها، والتبرُّؤ من الحَوْل والقوَّة إليه، وينبغي له أن لا يَرُوم شيئًا من دقيق الأمور وجَلِيلها، حتى يستخيرَ اللهَ فيه، ويَسألُه أن يَحمِلَه فيه على الخير، ويَصرِف عنه الشرَّ؛ إذعانًا بالافتقار إليه في كلِّ أمر، والتزامًا لذِلَّة العبودية له، وتبرُّكًا باتِّباع سُنَّة نبيِّه صلى الله عليه وسلم في الاستخارة؛ ولذلك كان النبيُّ صلى الله عليه وسلم يعلِّمهم هذا الدعاءَ كما يعلِّمهم السورة من القرآن؛ لشدَّة حاجتهم إلى الاستخارة في الحالات كلِّها؛ كشِدَّة حاجتهم إلى القراءة في كلِّ الصَّلَوات، وفى هذا الحديث حُجَّةٌ على القَدَرية الذين يزعمون أن الله تعالى لا يَخلُق الشرَّ، تعالى الله عَّما يَفتَرُون، وقد أبان النبيُّ صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث أن الله تعالى هو المالك للشرِّ، والخالقُ له؛ إذ هو الْمَدْعوُّ لصَرْفِه عن العبد، ومُحَال أن يسأله العبد أن يَصرِف عنه ما يَملِكه العبد من نفسه، وما يَقدِر على اختراعه دون تقدير الله عليه"
[39]
.
قال ابن عثيمين رحمه الله: "والاستخارة مع الله، والمشاورة مع أهل الرأي والصلاح، وذلك أن الإنسان عنده قصور أو تقصير، والإنسان خُلِق ضعيفًا، فقد تُشكِل عليه الأمور، وقد يتردَّد فيها، فماذا يصنع؟ لنفرض أنه همَّ بسفَر وتردَّد هل هو خير أم شر؟ أو همَّ أن يشتريَ سيَّارةً أو بيتًا، أو أن يُصاهر رجلاً يتزوَّج ابنته، أو ما أشبه ذلك؛ ولكنه متردِّد، فماذا يصنع؟ نقول: له طريقتان؛ الطريق الأول: استخارة ربِّ العالمين عزَّ وجلَّ الذي يعلم ما كان وما يكون وما لم يكن لو كان كيف يكون. الطريق الثاني: استشارة أهل الرأي والصلاح والأمانة"
[40]
.
قال الشوكانيُّ رحمه الله: "قوله: «في الأمور كلّها» دليلٌ على العموم، وأنّ المرء لا يَحتقِر أمرًا لصِغَره، وعدمِ الاهتمام به، فيَترُك الاستخارة فيه، فرُبَّ أمرٍ يستخفُّ بأمره، فيكون في الإقدام عليه ضررٌ عظيم، أو في تركه؛ ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: «ليسأل أحدكم ربَّه حتّى في شِسْعِ نَعله»
[41]
. قوله: «كما يعلِّمنا السُّورة من القرآن» فيه دليلٌ على الاهتمام بأمر الاستخارة، وأنّه متأكَّد مرغَّب فيه. قال العراقيُّ: ولم أَجِدْ مَن قال بوجوب الاستخارة مستدِلًّا بتشبيه ذلك بتعليم السُّورة من القرآن، كما استدلَّ بعضُهم على وجوب التّشهُّد في الصّلاة بقول ابن مسعود: "كان يعلِّمنا التّشهُّد كما يعلِّمنا السّورة من القرآن". فإن قال قائل: إنّما دلَّ على وجوب التّشهُّد الأمرُ في قوله: «فليقل: التّحيّات للّه» الحديث، قلنا: وهذا أيضًا فيه الأمر بقوله: «فليركع ركعتين ثمّ ليقل»، فإن قال: الأمرُ في هذا تعلَّق بالشَّرط، وهو قوله: «إذا همّ أحدكم بالأمر»، قلنا: إنّما يؤمَر به عند إرادة ذلك، لا مُطلَقًا؛ كما قال في التّشهُّد: «إذا صلَّى أحدكم فليقل: التّحيَّات»، قال: وممّا يدلُّ على عدم وجوب الاستخارة الأحاديثُ الصّحيحة الدّالَّة على انحصار فرض الصَّلاة في الخمس من قوله: هل عليَّ غيرُها؟ قال: «لا؛ إلّا أن تطوَّع»، وغير ذلك. انتهى. وفيه ما قدَّمنا لك في باب تحيَّة المسجد"
[42]
.
قال بدر الدين العينيُّ رحمه الله: "قَوْله: «فِي الْأُمُور كلهَا» يَعْنِي: فِي دَقِيق الْأُمُور وجَلِيلها؛ لِأَنَّهُ يجب على الْمُؤمن ردُّ الأمور كلِّها إلى الله عزَّ وجل، والتبرُّؤ من الْحَول وَالْقُوَّة إليه. قوله: كان النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، يعلِّمنا الاستخارة ويقول: «إِذا همَّ أحدُكم بِالْأَمر»؛ أي: إِذا قصد الْإِتْيَان بِفعل أَو ترك. قَوْله: «فَلْيقل» جَوَاب (إِذا)، المتضمِّن معنى الشَّرْط؛ فلذلك دخلت فيه الفاء. قَوْله: «أستخيرك»؛ أي: أطلب منك الْخِيرَة ملتبِّسًا بعلمك بخَيري وشرِّي، ويُحتمَل أَن يكون الباء للاستعانة أو للقَسَم. قوله: «وأستقدرُكَ»؛ أي: أطلب الْقُدْرَة منك أَن تجعلني قَادِرًا عليه، ويُقال: استَقدَرَ اللهَ خيرًا؛ أَي: سأله أن يَقدِر له به، وفيه لَفٌّ ونَشر غير مُرَتَّب. قَوْله: «فَإنَّك تقدر وَلَا أقدر» إِشارة إلى أن الْقُدْرَة لله وحده، وكذلك الْعلمُ له وحده. قوله: «إن كنت تعلم» إلى آخره، قيل: كلمة (إن) للشَّكِّ، ولا يجوز الشَّكُّ في كون اللهِ عالِمًا. وأُجيب بأن الشّكَّ في أن علمه متعلِّق بالخير أو الشّرِّ، لا في أصل العِلم. قوله: «في معاشي» زاد أبو داود في روايته (ومعادي)، والمراد بمعاشه حياته، وبمعاده آخرته. قوله: «أو قال» شكٌّ من الرّاوي، أو ترديد منه، والمراد بينهما يُحتمَل أن يكون العاجل والآجل مذكورينِ بدلَ الألفاظ الثّلاثة، وأن يكون بَدَلَ الأخيرين. قيل: كيف يخرج الدّاعي به عن عهدة التقصِّي حتّى يكون جازمًا بأنّه قال كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأجيب بأنّه يدعونه ثلاثَ مرَّات، يقول تارة: في ديني ومعاشي وعاقبة أمري، وأُخرى: في عاجلي وآجلي، وثالثة: في ديني وعاجلي وآجلي. قوله: «فاقدره لي» بضمِّ الدّال وكسرها؛ أي: اجعله مقدورًا لي، أو قدِّرْه لي، وقيل: معناه: يسِّرْه لي. قوله: «رضِّني»؛ أي: اجعلني راضيًا بذلك. قوله: «ويسمِّي»؛ أي: يعيِّن حاجته؛ مثل أن يقول: إن كنت تَعلَم أن هذا الأمر من السّفر أو التّزوُّج أو نحو ذلك"
[43]
.
قال الشوكانيُّ رحمه الله: "قوله: «فليركع ركعتين»: فيه أنَّ السُّنَّة في الاستخارة كونُها ركعتين، فلا تُجزئ الرّكعةُ الواحدة، وهل يجزئ في ذلك أن يصلِّيَ أربعًا أو أكثرَ بتسليمة، يُحتمَل أن يُقال: يُجزئ ذلك؛ لقوله في حديث أبي أيُّوب «ثمَّ صلِّ ما كَتَب اللَّه لك» فهو دالٌّ على أنّها لا تضرُّ الزّيادة على الرَّكعتين، ومفهومُ العدد في قوله: «فليركع ركعتين» ليس بحُجَّة على قول الجمهور. قوله: «من غير الفريضة» فيه أنَّه لا يحصل التّسنُّن بوقوع الدُّعاء بعد صلاة الفريضة، والسُّننِ الرّاتبة، وتحيَّةِ المسجد، وغير ذلك من النَّوافل. وقال النّوويُّ في "الأذكار": إنّه يحصل التَّسنُّن بذلك، وتُعُقِّب بأنّه صلى الله عليه وسلم إنّما أَمَره بذلك بعدَ حصول الهمِّ بالأمرِ، فإذا صلَّى راتبةً أو فريضةً، ثمَّ همَّ بأمرٍ بعد الصّلاة، أو في أثناء الصّلاة، لم يَحصُل بذلك الإتيان بالصّلاة المسنونة عند الاستخارة. قال العراقيُّ: إن كان همُّه بالأمر قبل الشّروع في الرَّاتبة ونحوها ثمَّ صلَّى من غير نيَّة الاستخارة، وبدا له بعد الصَّلاة الإتيان بدعاء الاستخارة، فالظّاهر حصول ذلك"
[44]
.
قال الشوكانيُّ رحمه الله: "قوله: «ثمّ ليَقُلْ» فيه أنّه لا يضرُّ تأخُّر دعاء الاستخارة عن الصَّلاة ما لم يَطُلِ الفصل، وأنّه لا يضرُّ الفصل بكلام آخَرَ يسير، خصوصًا إن كان من آداب الدُّعاء؛ لأنّه أتى بـ(ثمّ) المقتضية للتّراخي. قوله: «أستخيرك»؛ أي: أطلب منك الخَير أو الخِيَرة. قال صاحب المحكم: استخار اللّه: طلب منه الخير. وقال صاحب "النّهاية": خار اللّه لك؛ أي: أعطاك اللّه ما هو خيرٌ لك. قال: والخِيَرة بسكون الياء: الاسم منه. قال: فأمَّا بالفتح، فهي الاسم من قوله: اختاره اللَّه. قوله: «بعلمك»: الباء للتّعليل؛ أي: بأنَّك أعلمُ، وكذا قولُه: «بقدرتك». قولُه: «ومعاشي»: الْمَعاش والعِيشة واحدٌ، يُستعمَلان مصدرًا واسمًا، قال صاحب "الْمُحكَم": العَيش: الحياة، قال: والْمَعِيش والْمَعَاش والْمَعِيشة: ما يُؤنَس به. انتهى. قولُه: «أو قال: عاجل أمري» هو شكٌّ من الرّاوي. قولُه: «فاصرفه عنّي واصرفني عنه» هو طَلَبُ الأكملِ من وجوهِ انصراف ما ليس فيه خِيَرةٌ عنه، ولم يكتفِ بسؤال صرف أحد الأمرين؛ لأنّه قد يَصرِف اللَّهُ المستخير عن ذلك الأمر بأن يَنقطِع طلبُه له، وذلك الأمرُ الذي ليس فيه خِيَرة بطلبه؛ فربّما أدركه، وقد يَصرِف اللّه عن المستخير ذلك الأمر، ولا يَصرِف قلب العبد عنه؛ بل يبقى متطلِّعًا متشوِّقًا إلى حصوله، فلا يَطِيب له خاطر إلّا بحصوله، فلا يطمئنُّ خاطره، فإذا صُرِف كلٌّ منهما عن الآخَر، كان ذلك أكملَ؛ ولذلك قال: «واقدر لي الخير حيث كان ثمّ أرضني به»؛ لأنّه إذا قدَّر له الخير ولم يرضَ به، كان منكَّدَ العيش، آثمًا بعدم رضاه بما قدَّره اللّه له، مع كونه خيرًا له. قولُه: «ويسمِّي حاجته»؛ أي: في أثناء الدّعاء عند ذكرها بالكناية عنها في قوله: «إن كان هذا الأمر»"
[45]
.
قال ابن القيم رحمه الله: "فتضمَّن هذا الدعاءُ الإقرار بوجوده سبحانه، والإقرارَ بصفات كماله، من كمال العِلم والقُدرة والإرادة، والإقرارَ بربوبيَّته، وتفويضَ الأمر إليه، والاستعانةَ به، والتوكُّلَ عليه، والخروجَ من عُهدة نفسه، والتبرِّي من الحَول والقوَّة إلَّا به، واعتراف العبد بعجزه عن علمه بمصلحة نفسه، وقُدرته عليها، وإرادته لها، وأن ذلك كلَّه بيد وليِّه وفاطره وإلهه الحقِّ"
[46]
.
قال ابن عثيمين رحمه الله: "أما الاستخارة فهي مع الله - عزَّ وجلَّ - يستخير الإنسان ربَّه إذا همَّ بأمر وهو لا يدري عاقبتَه، ولا يدري مستقبَلَه، فعليه بالاستخارة، والاستخارةُ معناها طلب خَيْرِ الأمرينِ، وقد أرشد النبيُّ صلى الله عليه وسلم إلى ذلك بأن يصلِّيَ الإنسان ركعتين من غير الفريضة في غير وقت النهيِ، إلَّا في أمر يَخشى فَواتَه قبل خروج وقت النهيِ، فلا بأس أن يستخيرَ ولو في وقت النهيِ، أما ما كان فيه الأمر واسعًا، فلا يجوز أن يَستخير وقتَ النهيِ، فلا يستخير بعد صلاة العصر، وكذلك بعد الفجر حتى ترتفع الشمس مِقدارَ رُمح، وكذلك عند زوالها حتى تَزُول، لا يستخير إلا في أمر قد يفوت عليه، يصلِّي ركعتين من غير الفريضة ثم يسلِّم، وإذا سلَّم، قال: «اللهم إني أستخيرك بعلمك وأستقدرك بقدرتك...» الدعاء، وينتهي، ثم بعد ذلك إن انشرح صدره بأحد الأمرين، بالإقدام أو الإحجام، فهذا المطلوبُ، يَأخُذ بما يَنشرِح به صدره، فإن لم ينشرح صدره لشيء، وبَقِي متردِّدًا، أعاد الاستخارة مرَّةً ثانية وثالثة، ثم بعد ذلك المشورة، إذا لم يتبيَّن له شيء بعد الاستخارة، فإنه يُشاور أهل الرأي والصلاح، ثم ما أُشير عليه به فهو الخيرُ إن شاء الله؛ لأن الله تعالى قد لا يجعل في قلبه بالاستخارة ميلاً إلى شيء معيَّن؛ حتى يستشير، فيجعل اللهُ تعالى مَيْلَ قلبِه بعد المشورة، وقد اختلف العلماء: هل المقدَّم المشورة أو الاستخارة؟ والصحيحُ أن المقدَّم الاستخارة، فقدِّم أوَّلاً الاستخارة؛ لقول النبيِّ صلى الله عليه وسلم: «إذا همَّ أحدكم بالأمر، فليُصلِّ ركعتين...» إلى آخره، ثمَّ إذا كرَّرتَها ثلاثَ مرَّات، ولم يتبيَّن لك الأمر، فاستشِرْ، ثمَّ ما أُشير عليك به، فخُذْ به، وإنما قلنا: إنه يَستخير ثلاثَ مرَّات؛ لأن من عادة النبيِّ صلى الله عليه وسلم أنه إذا دعا، دعا ثلاثًا، والاستخارة دعاءٌ، وقد لا يتبيَّن للإنسان خيرُ الأمرين من أوَّل مرَّةٍ؛ بل قد يتبيَّن في أوَّل مرَّة، أو في الثانية، أو في الثالثة، وإذا لم يتبيَّن، فليَستشِرْ"
[47]
.
قال الشوكانيُّ رحمه الله: "والحديث يدلُّ على مشروعيّة صلاة الاستخارة، والدُّعاء عَقِيبها، ولا أعلم في ذلك خلافًا، وهل يُستحبُّ تَكرار الصّلاة والدُّعاء، قال العراقيُّ: الظّاهر الاستحبابُ. وقد ورد في حديث تَكرار الاستخارة سبعًا، رواه ابن السُّنِّيِّ من حديث أنس مرفوعًا بلفظ «إذا هممتَ بأمر، فاستخر ربَّك فيه سبع مرَّات، ثمّ انظر إلى الَّذي يسبق إلى قلبك فإنَّ الخير فيه. قال النّوويُّ في الأذكار: إسنادُه غريبٌ، فيه من لا أعرفهم. قال العراقيُّ: كلُّهم معروفون؛ ولكنَّ بعضهم معروفٌ بالضَّعف الشَّديد... فالحديث على هذا ساقط لا حجّة فيه. نعم، قد يُستدلُّ للتَّكرار بأنّ النّبيَّ صلى الله عليه وسلم «كان إذا دعا، دعا ثلاثًا» للحديث الصّحيح، وهذا وإن كان المرادُ به تَكرارَ الدّعاء في الوقت الواحد، فالدُّعاءُ الَّذي تُسنُّ الصّلاة له، تُكرَّر الصّلاة له؛ كالاستسقاء. قال النّوويُّ: ينبغي أن يفعل بعد الاستخارة ما يَنشرِح له. فلا ينبغي أن يعتمد على انشراح كان له فيه هوًى قبل الاستخارة؛ بل ينبغي للمستخير تركُ اختياره رأسًا، وإلَّا فلا يكون مستخيرًا للّه؛ بل يكون مستخيرًا لهواه، وقد يكون غيرَ صادق في طلب الخِيَرة وفي التّبرِّي من العِلم والقُدرة، وإثباتهما للّه تعالى، فإذا صَدَق في ذلك، تَبرَّأ من الحَول والقوَّة، ومن اختياره لنفسه"
[48]
.
الراوي المعنى الإجمالي الشرح المفصل الفوائد العلمية الفوائد العقدية الفوائد الفقهية من هدايات الحديث النقول
ترجمة راوي الحديث:
هو: جابرُ بنُ عبدِ اللهِ بنِ عمرِو بنِ حرامٍ الأنصاريُّ، ثم السَّلِميُّ، أبو عبد الله، شهِد العقبة الثانية وهو صبيٌّ مع أبيه، وكان والده من النُّقباء البدريين، وكان آخِرَ مَن شهِد ليلة العقبة الثانية مَوتًا، وقيل: شهِد بَدرًا وأُحدًا، وشهد صِفِّين مع عليِّ بنِ أبي طالب رضي الله عنه، وهو مُفتي المدينة في زمانه، روى عنه سعيدُ بنُ المسيِّب، وأبو سلمة، وعطاء، رحل جابرُ بنُ عبدِ الله في آخر عمره إلى مكةَ في أحاديثَ سمعها، ثم انصرف إلى المدينة. ومسندُ جابرِ بنِ عبد الله بلغ ألفًا وخَمسمِائة وأربعين حديثًا، اتَّفَق له الشيخان على ثمانية وخمسين حديثًا، وانفرد له البخاريُّ بستَّة وعشرين حديثًا، ومسلمٌ بمائة وستَّة وعشرين حديثًا [2] . تُوفِّي سنةَ (78هـ) [3] .
هو: جابرُ بنُ عبدِ اللهِ بنِ عمرِو بنِ حرامٍ الأنصاريُّ، ثم السَّلِميُّ، أبو عبد الله، شهِد العقبة الثانية وهو صبيٌّ مع أبيه، وكان والده من النُّقباء البدريين، وكان آخِرَ مَن شهِد ليلة العقبة الثانية مَوتًا، وقيل: شهِد بَدرًا وأُحدًا، وشهد صِفِّين مع عليِّ بنِ أبي طالب رضي الله عنه، وهو مُفتي المدينة في زمانه، روى عنه سعيدُ بنُ المسيِّب، وأبو سلمة، وعطاء، رحل جابرُ بنُ عبدِ الله في آخر عمره إلى مكةَ في أحاديثَ سمعها، ثم انصرف إلى المدينة. ومسندُ جابرِ بنِ عبد الله بلغ ألفًا وخَمسمِائة وأربعين حديثًا، اتَّفَق له الشيخان على ثمانية وخمسين حديثًا، وانفرد له البخاريُّ بستَّة وعشرين حديثًا، ومسلمٌ بمائة وستَّة وعشرين حديثًا [2] . تُوفِّي سنةَ (78هـ) [3] .
المعنى الإجماليُّ للحديث:
قال جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُعَلِّمُنَا الِاسْتِخَارَةَ فِي الأُمُورِ كُلِّهَا، كَمَا يُعَلِّمُنَا السُّورَةَ مِنَ القُرْآنِ)؛ أي: كان صلى الله عليه وسلم يعلِّمهم صلاة الاستخارة ويحفِّظهم دعاءها، كما كان يحفِّظهم القرآن، والاستخارةُ هي طَلَب الخَير.
يَقُولُ صلى الله عليه وسلم: «إِذَا هَمَّ أَحَدُكُمْ بِالأَمْرِ، فَلْيَرْكَعْ رَكْعَتَيْنِ مِنْ غَيْرِ الفَرِيضَةِ»؛ أي: إِذا قصد الْإِتْيَان بِفعل أَو ترك، وهو في حَيرة، فليُصلِّ ركعتين نافلة. «ثُمَّ لِيَقُلْ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْتَخِيرُكَ بِعِلْمِكَ»؛ أي: ليدعُ بعد انتهائه من الصلاة بطَلَب الخير من الله العليم بما هو خير له. «وَأَسْتَقْدِرُكَ بِقُدْرَتِكَ»؛ أي: أطلب منك بقدرتك أن تجعل لي قُدرة عليه. «وَأَسْأَلُكَ مِنْ فَضْلِكَ العَظِيمِ»؛ أي: وأطلب أن تَمُنَّ عليَّ من فضلك العظيم. «فَإِنَّكَ تَقْدِرُ وَلاَ أَقْدِرُ، وَتَعْلَمُ وَلاَ أَعْلَمُ، وَأَنْتَ عَلَّامُ الغُيُوبِ» فإنك تقدر على كلِّ شيء، ولا أقدر إلا على ما تُقدِرني عليه، وأنت علَّام الغُيوب، ولا أعلم إلا ما تُعلِمني إيَّاه. «اللَّهُمَّ إِنْ كُنْتَ تَعْلَمُ أَنَّ هَذَا الأَمْرَ خَيْرٌ لِي فِي دِينِي وَمَعَاشِي وَعَاقِبَةِ أَمْرِي»؛ أي: إن كنت تعلم أن هذا الأمر خيرٌ لي في ديني وحياتي ومستقبلي وآخرتي. «أَوْ قَالَ: عَاجِلِ أَمْرِي وَآجِلِهِ» شكٌّ من الراوي؛ أي: دنياي وآخرتي، أو ما يكون من أمري في الحال والاستقبال. «فَاقْدُرْهُ لِي، وَيَسِّرْهُ لِي، ثُمَّ بَارِكْ لِي فِيهِ»؛ أي: فاقدُرْ هذا الأمر أن يكون لي ميسَّرًا، ثم بارك لي فيه. «وَإِنْ كُنْتَ تَعْلَمُ أَنَّ هَذَا الأَمْرَ شَرٌّ لِي فِي دِينِي وَمَعَاشِي وَعَاقِبَةِ أَمْرِي - أَوْ قَالَ: فِي عَاجِلِ أَمْرِي وَآجِلِهِ - فَاصْرِفْهُ عَنِّي، وَاصْرِفْنِي عَنْهُ»؛ أي: إن كنت تعلم أنه شرٌّ لي في ديني وحياتي ومستقبلي وآخرتي، فأَبعِدْه عني، وأبعدني عنه، وجنِّبني إيَّاه. «وَاقْدُرْ لِي الخَيْرَ حَيْثُ كَانَ، ثُمَّ أَرْضِنِي»؛ أي: قدِّر لي الخيرَ دائمًا، حيث كان، ثم اجعلني راضيًا بما تقدِّر. «قَالَ: وَيُسَمِّي حَاجَتَهُ»؛ أي: يسمِّي الأمر الذي يَستخير من أجله في أثناء دعائه.
قال جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُعَلِّمُنَا الِاسْتِخَارَةَ فِي الأُمُورِ كُلِّهَا، كَمَا يُعَلِّمُنَا السُّورَةَ مِنَ القُرْآنِ)؛ أي: كان صلى الله عليه وسلم يعلِّمهم صلاة الاستخارة ويحفِّظهم دعاءها، كما كان يحفِّظهم القرآن، والاستخارةُ هي طَلَب الخَير.
يَقُولُ صلى الله عليه وسلم: «إِذَا هَمَّ أَحَدُكُمْ بِالأَمْرِ، فَلْيَرْكَعْ رَكْعَتَيْنِ مِنْ غَيْرِ الفَرِيضَةِ»؛ أي: إِذا قصد الْإِتْيَان بِفعل أَو ترك، وهو في حَيرة، فليُصلِّ ركعتين نافلة. «ثُمَّ لِيَقُلْ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْتَخِيرُكَ بِعِلْمِكَ»؛ أي: ليدعُ بعد انتهائه من الصلاة بطَلَب الخير من الله العليم بما هو خير له. «وَأَسْتَقْدِرُكَ بِقُدْرَتِكَ»؛ أي: أطلب منك بقدرتك أن تجعل لي قُدرة عليه. «وَأَسْأَلُكَ مِنْ فَضْلِكَ العَظِيمِ»؛ أي: وأطلب أن تَمُنَّ عليَّ من فضلك العظيم. «فَإِنَّكَ تَقْدِرُ وَلاَ أَقْدِرُ، وَتَعْلَمُ وَلاَ أَعْلَمُ، وَأَنْتَ عَلَّامُ الغُيُوبِ» فإنك تقدر على كلِّ شيء، ولا أقدر إلا على ما تُقدِرني عليه، وأنت علَّام الغُيوب، ولا أعلم إلا ما تُعلِمني إيَّاه. «اللَّهُمَّ إِنْ كُنْتَ تَعْلَمُ أَنَّ هَذَا الأَمْرَ خَيْرٌ لِي فِي دِينِي وَمَعَاشِي وَعَاقِبَةِ أَمْرِي»؛ أي: إن كنت تعلم أن هذا الأمر خيرٌ لي في ديني وحياتي ومستقبلي وآخرتي. «أَوْ قَالَ: عَاجِلِ أَمْرِي وَآجِلِهِ» شكٌّ من الراوي؛ أي: دنياي وآخرتي، أو ما يكون من أمري في الحال والاستقبال. «فَاقْدُرْهُ لِي، وَيَسِّرْهُ لِي، ثُمَّ بَارِكْ لِي فِيهِ»؛ أي: فاقدُرْ هذا الأمر أن يكون لي ميسَّرًا، ثم بارك لي فيه. «وَإِنْ كُنْتَ تَعْلَمُ أَنَّ هَذَا الأَمْرَ شَرٌّ لِي فِي دِينِي وَمَعَاشِي وَعَاقِبَةِ أَمْرِي - أَوْ قَالَ: فِي عَاجِلِ أَمْرِي وَآجِلِهِ - فَاصْرِفْهُ عَنِّي، وَاصْرِفْنِي عَنْهُ»؛ أي: إن كنت تعلم أنه شرٌّ لي في ديني وحياتي ومستقبلي وآخرتي، فأَبعِدْه عني، وأبعدني عنه، وجنِّبني إيَّاه. «وَاقْدُرْ لِي الخَيْرَ حَيْثُ كَانَ، ثُمَّ أَرْضِنِي»؛ أي: قدِّر لي الخيرَ دائمًا، حيث كان، ثم اجعلني راضيًا بما تقدِّر. «قَالَ: وَيُسَمِّي حَاجَتَهُ»؛ أي: يسمِّي الأمر الذي يَستخير من أجله في أثناء دعائه.
الشرح المفصَّل للحديث:
إذا كان المؤمنُ يؤمن أنه لا يَعلَمُ الغَيبَ إلَّا اللهُ تعالى، ولا يُقدِّرُ الخيرَ والشَّرَّ للعَبْدِ سواه، فإنَّ عليه أن يرُدَّ الأمور كلَّها إلى الله، وأن يتبرَّأ من حَوله وقوَّته وقُدرته وعِلمه إلى حَول الله وقوَّته وقُدرته وعِلمه، وينبغي له أن لا يَقصِد شيئًا من دقيق الأمور وجَلِيلها، حتى يستخيرَ اللهَ فيه، ويَسألَه أن يَحمِلَه فيه على الخير، ويَصرِف عنه الشرَّ؛ إذعانًا بالافتقار إليه في كلِّ أمر، والتزامًا بذِلَّة العبودية له، واتِّباعًا لسُنَّة نبيِّه صلى الله عليه وسلم في الاستخارة.
إن الاستخارة هي توحيد خالص لله تعالى، وإيمان به، فيها إقرارُ العبد بضَعفه وعُبوديَّته وعَجزه علمًا وقُدرة، وتوكُّلُه على خالقه ومدبِّر أمرِه، واستعانتُه به، واللجوءُ إليه، وتفويضُه الأمرَ إليه، واستقسامُه بقُدرته وعلمه وحُسن اختياره له، وفيها الرضا بالله ربًّا، والرضا باختياره مهما كان.
لذا؛ كانت الاستخارةُ من أجلِّ أسباب سعادة العبد في دينه ودنياه؛ فعن سعدِ بنِ أبي وقَّاصٍ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مِنْ سَعَادَةِ ابْنِ آدَمَ اسْتِخَارَتُهُ اللَّهَ، وَمِنْ سَعَادَةِ ابْنِ آدَمَ رِضَاهُ بِمَا قَضَى اللَّهُ، وَمِنْ شِقْوَةِ ابْنِ آدَمَ تَرْكُهُ اسْتِخَارَةَ اللهِ، وَمِنْ شِقْوَةِ ابْنِ آدَمَ سَخَطُهُ بِمَا قَضَى اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ» [4] .
و"المقدور يكتنفه أمران: الاستخارة قبل وقوعه، والرضا بعد وقوعه؛ فمن سعادة العبد أن يجمع بينهما" [5] .
لذا؛ كان النبيُّ صلى الله عليه وسلم يعلِّم الصحابة دعاءَ الاستخارة كما يعلِّمهم السورة من القرآن؛ لشدَّة حاجتهم إلى الاستخارة في الحالات كلِّها؛ كشِدَّة حاجتهم إلى القراءة في كلِّ الصَّلَوات؛ فهذا أبو أيُّوبَ الأنصاريُّ رضي الله عنه أراد الخِطبة، فيروي أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ لَهُ: «اكْتُمِ الْخِطْبَةَ، ثُمَّ تَوَضَّأْ فَأَحْسِنْ وُضُوءَكَ، وَصَلِّ مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكَ، ثُمَّ احْمَدْ رَبَّكَ وَمَجِّدْهُ، ثُمَّ قُلِ: اللَّهُمَّ إِنَّكَ تَقْدِرُ وَلاَ أَقْدِرُ، وَتَعْلَمُ وَلاَ أَعْلَمُ، أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ، فَإِنْ رَأَيْتَ لِي فِي فُلاَنَةَ، تُسَمِّيهَا بِاسْمِهَا، خَيْرًا فِي دِينِي وَدُنْيَايَ وَآخِرَتِي، وَإِنْ كَانَ غَيْرُهَا خَيْرًا لِي مِنْهَا فِي دِينِي وَدُنْيَايَ وَآخِرَتِي، فَاقْضِ لِي بِهَا، أَوْ قَالَ: فَاقْدُرْهَا لِي» [6] .
ويروي أنسٌ - رضي الله عنه - في قصة زواج النبيِّ صلى الله عليه وسلم من زينبَ بنتِ جحشٍ، وفيه قالت: «ما أنا بصانعة شيئًا حتى أُوَامِرَ ربِّي، فقامت إلى مسجدها» [7] .
وفي هذا الحَديثِ بَيانٌ لهدي النبيِّ صلى الله عليه وسلم في صَلاةِ الاستِخارةِ في كُلِّ الأُمور، وأهميتِها، وعنايتِه بها، وتعليمها للصحابة الكرام، وتحفيظهم دعاءها كما يعلِّمهم القرآن؛ حيثُ يَرْوي جابرُ بنُ عبدِ اللهِ رَضيَ اللهُ عنهما يقول: (كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُعَلِّمُنَا الِاسْتِخَارَةَ فِي الأُمُورِ كُلِّهَا، كَمَا يُعَلِّمُنَا السُّورَةَ مِنَ القُرْآنِ)؛ أي: كان صلى الله عليه وسلم يعلِّمهم صلاة الاستخارة ويحفِّظهم دعاءها، كما كان يحفِّظهم القرآن، والاستخارة هي طلب الخير.
فـ"إذا عنَّ للإنسان جهةٌ، فليَسْتَخِرِ الله تعالى فيها الاستخارةَ المتلقَّاة عن معلِّم الخيرِ صلى الله عليه وسلم، فإن فيها من البَرَكة ما لا يُحاط به، ثم ما تيسَّر له، فلا يتكلَّف غيره إلَّا أن يكون منه كراهةٌ شرعية" [8] .
قوله: «في الأمور كلّها» دليلٌ على العموم؛ يَعْنِي: فِي دَقِيق الْأُمُور وجَلِيلها؛ لِأَنَّهُ يجب على الْمُؤمن ردُّ الأمور كلِّها إلى الله عزَّ وجل، والتبرُّؤ من الْحَول وَالْقُوَّة إليه، وأن لا يَحتقِر أمرًا لصِغَره، وعدمِ الاهتمام به، فيَترُك الاستخارة فيه، فرُبَّ أمرٍ يستخفُّ بأمره، فيكون في الإقدام عليه ضررٌ عظيم، أو في تركه. لذا؛ رُوِيَ عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم أنه قال: «ليسأل أحدكم ربَّه حتّى في شِسْعِ نَعْله» [9] .
وفي قوله: «كما يعلِّمنا السُّورة من القرآن» دليلٌ على الاهتمام بأمر الاستخارة، وأنّه متأكَّد، مرغَّب فيه.
يَقُولُ صلى الله عليه وسلم: «إِذَا هَمَّ أَحَدُكُمْ بِالأَمْرِ، فَلْيَرْكَعْ رَكْعَتَيْنِ مِنْ غَيْرِ الفَرِيضَةِ»؛ أي: إِذا قَصَد الْإِتْيَان بِفعل أَو ترك، وهو في حَيرة، فليُصلِّ ركعتين نافلةً.
والاستخارة عبارةٌ عن صلاة ودعاء؛ فالصلاة هي ركعتانِ من غير الصلوات المفروضة، ويصحُّ أن تكون سنَّةً راتبة، أو تحيَّةَ مسجد، أو صلاة ضُحًى على الراجح من قولَيِ العلماء، أما استخارةُ الحائض والنُّفَساء، فتكون بالدعاء دون الصلاة.
"قوله: «فليركع ركعتين»: فيه أنَّ السُّنَّة في الاستخارة كونُها ركعتين، فلا تُجزئ الرّكعةُ الواحدة، وهل يجزئ في ذلك أن يصلِّيَ أربعًا أو أكثرَ بتسليمة، يُحتمَل أن يُقال: يُجزئ ذلك؛ لقوله في حديث أبي أيُّوب «ثمَّ صلِّ ما كَتَب اللَّه لك» فهو دالٌّ على أنّها لا تضرُّ الزّيادة على الرَّكعتين، ومفهومُ العدد في قوله: «فليركع ركعتين» ليس بحُجَّة على قول الجمهور.
قوله: «من غير الفريضة» فيه أنَّه لا يحصل التّسنُّن بوقوع الدُّعاء بعد صلاة الفريضة، والسُّننِ الرّاتبة، وتحيَّةِ المسجد، وغير ذلك من النَّوافل. وقال النّوويُّ في "الأذكار": إنّه يحصل التَّسنُّن بذلك، وتُعُقِّب بأنّه صلى الله عليه وسلم إنّما أَمَره بذلك بعدَ حصول الهمِّ بالأمرِ، فإذا صلَّى راتبةً أو فريضةً، ثمَّ همَّ بأمرٍ بعد الصّلاة، أو في أثناء الصّلاة، لم يَحصُل بذلك الإتيان بالصّلاة المسنونة عند الاستخارة. قال العراقيُّ: إن كان همُّه بالأمر قبل الشّروع في الرَّاتبة ونحوها ثمَّ صلَّى من غير نيَّة الاستخارة، وبدا له بعد الصَّلاة الإتيان بدعاء الاستخارة، فالظّاهر حصول ذلك" [10] .
ولا تُصلَّى الاستخارة وقتَ نهيٍ؛ إلَّا في أمر يَفُوت ولا يمكِن استدراكه، فتكون من ذوات الأسباب التي يجوز فعلها في أوقات النهيِ.
"أما الاستخارة فهي مع الله - عزَّ وجلَّ - يستخير الإنسان ربَّه إذا همَّ بأمر وهو لا يدري عاقبتَه، ولا يدري مستقبَلَه، فعليه بالاستخارة، والاستخارةُ معناها طلب خَيْرِ الأمرينِ، وقد أرشد النبيُّ صلى الله عليه وسلم إلى ذلك بأن يصلِّيَ الإنسان ركعتين من غير الفريضة في غير وقت النهيِ، إلَّا في أمر يَخشى فَواتَه قبل خروج وقت النهيِ، فلا بأس أن يستخيرَ ولو في وقت النهيِ، أما ما كان فيه الأمر واسعًا، فلا يجوز أن يَستخير وقتَ النهيِ، فلا يستخير بعد صلاة العصر، وكذلك بعد الفجر حتى ترتفع الشمس مِقدارَ رُمح، وكذلك عند زوالها حتى تَزُول، لا يستخير إلا في أمر قد يفوت عليه، يصلِّي ركعتين من غير الفريضة ثم يسلِّم، وإذا سلَّم، قال: «اللهم إني أستخيرك بعلمك وأستقدرك بقدرتك...» الدعاء [11] .
«ثُمَّ لِيَقُلْ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْتَخِيرُكَ بِعِلْمِكَ»؛ أي: أطلب منك الْخِيرَة ملتبِّسًا بعلمك بخَيرِي وشرِّي.
"قوله: «ثمّ ليَقُلْ» فيه أنّه لا يضرُّ تأخُّر دعاء الاستخارة عن الصَّلاة ما لم يَطُلِ الفصل، وأنّه لا يضرُّ الفصل بكلام آخَرَ يسير، خصوصًا إن كان من آداب الدُّعاء؛ لأنّه أتى بـ(ثمّ) المقتضية للتّراخي.
قوله: «أستخيرك»؛ أي: أطلب منك الخَير أو الخِيَرة. استخار اللّه: طلب منه الخَير. وخار اللّه لك؛ أي: أعطاك اللّه ما هو خيرٌ لك. وقوله: «بعلمك»: الباء للتّعليل؛ أي: بأنَّك أعلمُ، وكذا قولُه: «بقدرتك»" [12] .
قوله: «وَأَسْتَقْدِرُكَ بِقُدْرَتِكَ، وَأَسْأَلُكَ مِنْ فَضْلِكَ العَظِيمِ»؛ أي: أطلب الْقُدْرَة منك أَن تجعلني قَادِرًا عليه، وأن تَمُنَّ عليَّ من فضلك العظيم. «فَإِنَّكَ تَقْدِرُ وَلاَ أَقْدِرُ، وَتَعْلَمُ وَلاَ أَعْلَمُ، وَأَنْتَ عَلَّامُ الغُيُوبِ» إِشارة إلى أن الْقُدْرَة لله وحده، وكذلك الْعلمُ له وحدَه. «اللَّهُمَّ إِنْ كُنْتَ تَعْلَمُ أَنَّ هَذَا الأَمْرَ خَيْرٌ لِي فِي دِينِي وَمَعَاشِي وَعَاقِبَةِ أَمْرِي»؛ أي: إن كنتَ تَعلَم أن هذا الأمر خيرٌ لي في ديني وحياتي ومستقبَلي وآخرتي. «أَوْ قَالَ: عَاجِلِ أَمْرِي وَآجِلِهِ» وهذا شكٌّ من الراوي؛ أي: دنياي وآخرتي، أو ما يكون من أمري في الحال والاستقبال. «فَاقْدُرْهُ لِي، وَيَسِّرْهُ لِي، ثُمَّ بَارِكْ لِي فِيهِ»؛ أي: اجعله مقدورًا لي، أو قدِّرْه لي، ويسِّرْه لي، ثم بارك لي فيه. «وَإِنْ كُنْتَ تَعْلَمُ أَنَّ هَذَا الأَمْرَ شَرٌّ لِي فِي دِينِي وَمَعَاشِي وَعَاقِبَةِ أَمْرِي - أَوْ قَالَ: فِي عَاجِلِ أَمْرِي وَآجِلِهِ - فَاصْرِفْهُ عَنِّي، وَاصْرِفْنِي عَنْهُ»؛ أي: إن كنت تعلم أنه شرٌّ لي في ديني وحياتي ومستقبلي وآخرتي، فأبعده عني، وأبعدني عنه، وجنِّبني إياه.
"قولُه: «فاصرفه عنّي واصرفني عنه» هو طَلَبُ الأكملِ من وجوهِ انصراف ما ليس فيه خِيَرةٌ عنه، ولم يكتفِ بسؤال صرف أحد الأمرين؛ لأنّه قد يَصرِف اللَّهُ المستخير عن ذلك الأمر بأن يَنقطِع طلبُه له، وذلك الأمرُ الذي ليس فيه خِيَرة بطلبه؛ فربّما أدركه، وقد يَصرِف اللّه عن المستخير ذلك الأمر، ولا يَصرِف قلب العبد عنه؛ بل يبقى متطلِّعًا متشوِّقًا إلى حصوله، فلا يَطِيب له خاطر إلّا بحصوله، فلا يطمئنُّ خاطره، فإذا صُرِف كلٌّ منهما عن الآخَر، كان ذلك أكملَ" [13] .
ولذلك قال: «وَاقْدُرْ لِي الخَيْرَ حَيْثُ كَانَ، ثُمَّ أَرْضِنِي»؛ أي: قدرِّ لي الخير دائمًا، حيث كان، ثم اجعلني راضيًا بما تقدِّر؛ "لأنّه إذا قدَّر له الخير ولم يرضَ به، كان منكَّدَ العيش، آثمًا بعدم رضاه بما قدَّره اللّه له، مع كونه خيرًا له" [14] .
«قَالَ: وَيُسَمِّي حَاجَتَهُ»؛ أي: يعيِّن حاجته؛ مثل أن يقول: إن كنت تَعلَم أن هذا الأمر من السّفر أو التّزوُّج أو نحو ذلك.
"فتضمَّن هذا الدعاءُ الإقرارَ بوجوده سبحانه، والإقرارَ بصفات كماله، من كمال العِلم والقُدرة والإرادة، والإقرارَ بربوبيَّته، وتفويضَ الأمر إليه، والاستعانةَ به، والتوكُّلَ عليه، والخروجَ من عُهدة نفسه، والتبرِّي من الحَول والقوَّة إلَّا به، واعتراف العبد بعجزه عن علمه بمصلحة نفسه، وقُدرته عليها، وإرادته لها، وأن ذلك كلَّه بيد وليِّه وفاطره وإلهه الحقِّ" [15] .
وما نَدِم مَن استخار الخالق، وشاوَرَ المخلوقين، وتثبَّت في أمره؛ فـ"الاستخارة مع الله، والمشاورة مع أهل الرأيِ والصلاح، وذلك أن الإنسان عنده قصور أو تقصير، والإنسان خُلِق ضعيفًا، فقد تُشكِل عليه الأمور، وقد يتردَّد فيها، فماذا يصنع؟ لنفرض أنه همَّ بسفَر وتردَّد هل هو خير أم شرٌّ؟ أو همَّ أن يشتريَ سيَّارةً أو بيتًا، أو أن يُصاهر رجلاً يتزوَّج ابنته، أو ما أشبه ذلك؛ ولكنه متردِّد، فماذا يصنع؟ نقول: له طريقتان؛ الطريق الأول: استخارة ربِّ العالمين عزَّ وجلَّ الذي يعلم ما كان وما يكون، وما لم يكن لو كان كيف يكون. الطريق الثاني: استشارة أهل الرأي والصلاح والأمانة" [16] .
"والحديث يدلُّ على مشروعيّة صلاة الاستخارة، والدُّعاء عَقِيبها، ولا خلاف في ذلك، وهل يُستحبُّ تَكرار الصّلاة والدُّعاء؟ قال العراقيُّ: الظّاهر الاستحبابُ. وقد يُستدلُّ للتَّكرار بأنّ النّبيَّ صلى الله عليه وسلم «كان إذا دعا، دعا ثلاثًا»، وهذا وإن كان المرادُ به تَكرارَ الدّعاء في الوقت الواحد، فالدُّعاءُ الَّذي تُسنُّ الصّلاة له، تُكرَّر الصّلاة له؛ كالاستسقاء.
وينبغي أن يفعل المرء بعد الاستخارة ما يَنشرِح له صدرُه، ولا ينبغي أن يعتمد على انشراحٍ كان له فيه هوًى قبل الاستخارة؛ بل ينبغي للمستخير تركُ اختياره رأسًا، وإلَّا فلا يكون مستخيرًا للّه؛ بل يكون مستخيرًا لهواه، وقد يكون غيرَ صادق في طلب الخِيَرة وفي التّبرِّي من العِلم والقُدرة، وإثباتهما للّه تعالى، فإذا صَدَق في ذلك، تَبرَّأ من الحَول والقوَّة، ومن اختياره لنفسه" [17] .
فعلامة الخيرة بعد الاستخارة انشراح الصدر، وتَيسُّر الأمر، وعلامةُ انتفاء الخِيَرة عَدَمُ انشراح الصدر، وتعسُّر الأمر، فإن لم يظهر شيءٌ من تلك العلامات، فعلى العبد أن يستفتح ربَّه بتَكرار الاستخارة والاستشارة، فإن لم يظهر له شيء بعد هذا التَّكرار، فليفعل ما يراه، بعد استشارة أهل الصلاح؛ فتلك هي الخِيَرة.
"ثم بعد الصلاة ودعاء الاستخارة إن انشرح صدره بأحد الأمرين، بالإقدام أو الإحجام، فهذا المطلوبُ، يَأخُذ بما يَنشرِح به صدره، فإن لم ينشرح صدره لشيء، وبَقِي متردِّدًا، أعاد الاستخارة مرَّةً ثانية وثالثة، ثم بعد ذلك المشورة، إذا لم يتبيَّن له شيء بعد الاستخارة، فإنه يُشاور أهل الرأي والصلاح، ثم ما أُشير عليه به فهو الخيرُ إن شاء الله؛ لأن الله تعالى قد لا يجعل في قلبه بالاستخارة مَيْلاً إلى شيء معيَّن؛ حتى يستشير، فيجعل اللهُ تعالى مَيْلَ قلبِه بعد المشورة، وقد اختلف العلماء: هل المقدَّم المشورة أو الاستخارة؟ والصحيحُ أن المقدَّم الاستخارة، فقدِّم أوَّلاً الاستخارة؛ لقول النبيِّ صلى الله عليه وسلم: «إذا همَّ أحدكم بالأمر، فليُصلِّ ركعتين...» إلى آخره، ثمَّ إذا كرَّرتَها ثلاثَ مرَّات، ولم يتبيَّن لك الأمر، فاستشِرْ، ثمَّ ما أُشير عليك به، فخُذْ به، وإنما قلنا: إنه يَستخير ثلاثَ مرَّات؛ لأن من عادة النبيِّ صلى الله عليه وسلم أنه إذا دعا، دعا ثلاثًا، والاستخارة دعاءٌ، وقد لا يتبيَّن للإنسان خيرُ الأمرين من أوَّل مرَّةٍ؛ بل قد يتبيَّن في أوَّل مرَّة، أو في الثانية، أو في الثالثة، وإذا لم يتبيَّن، فليَستشِرْ" [18] .
قال عبد اللّه بن عمر: "إنّ الرجل ليَسْتَخيرُ اللّه، فيختار له، فيَسخَط على ربِّه، فلا يَلبَثُ أن يَنظُر في العاقبة، فإذا هو قد خار له" [19] .
إذا كان المؤمنُ يؤمن أنه لا يَعلَمُ الغَيبَ إلَّا اللهُ تعالى، ولا يُقدِّرُ الخيرَ والشَّرَّ للعَبْدِ سواه، فإنَّ عليه أن يرُدَّ الأمور كلَّها إلى الله، وأن يتبرَّأ من حَوله وقوَّته وقُدرته وعِلمه إلى حَول الله وقوَّته وقُدرته وعِلمه، وينبغي له أن لا يَقصِد شيئًا من دقيق الأمور وجَلِيلها، حتى يستخيرَ اللهَ فيه، ويَسألَه أن يَحمِلَه فيه على الخير، ويَصرِف عنه الشرَّ؛ إذعانًا بالافتقار إليه في كلِّ أمر، والتزامًا بذِلَّة العبودية له، واتِّباعًا لسُنَّة نبيِّه صلى الله عليه وسلم في الاستخارة.
إن الاستخارة هي توحيد خالص لله تعالى، وإيمان به، فيها إقرارُ العبد بضَعفه وعُبوديَّته وعَجزه علمًا وقُدرة، وتوكُّلُه على خالقه ومدبِّر أمرِه، واستعانتُه به، واللجوءُ إليه، وتفويضُه الأمرَ إليه، واستقسامُه بقُدرته وعلمه وحُسن اختياره له، وفيها الرضا بالله ربًّا، والرضا باختياره مهما كان.
لذا؛ كانت الاستخارةُ من أجلِّ أسباب سعادة العبد في دينه ودنياه؛ فعن سعدِ بنِ أبي وقَّاصٍ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مِنْ سَعَادَةِ ابْنِ آدَمَ اسْتِخَارَتُهُ اللَّهَ، وَمِنْ سَعَادَةِ ابْنِ آدَمَ رِضَاهُ بِمَا قَضَى اللَّهُ، وَمِنْ شِقْوَةِ ابْنِ آدَمَ تَرْكُهُ اسْتِخَارَةَ اللهِ، وَمِنْ شِقْوَةِ ابْنِ آدَمَ سَخَطُهُ بِمَا قَضَى اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ» [4] .
و"المقدور يكتنفه أمران: الاستخارة قبل وقوعه، والرضا بعد وقوعه؛ فمن سعادة العبد أن يجمع بينهما" [5] .
لذا؛ كان النبيُّ صلى الله عليه وسلم يعلِّم الصحابة دعاءَ الاستخارة كما يعلِّمهم السورة من القرآن؛ لشدَّة حاجتهم إلى الاستخارة في الحالات كلِّها؛ كشِدَّة حاجتهم إلى القراءة في كلِّ الصَّلَوات؛ فهذا أبو أيُّوبَ الأنصاريُّ رضي الله عنه أراد الخِطبة، فيروي أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ لَهُ: «اكْتُمِ الْخِطْبَةَ، ثُمَّ تَوَضَّأْ فَأَحْسِنْ وُضُوءَكَ، وَصَلِّ مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكَ، ثُمَّ احْمَدْ رَبَّكَ وَمَجِّدْهُ، ثُمَّ قُلِ: اللَّهُمَّ إِنَّكَ تَقْدِرُ وَلاَ أَقْدِرُ، وَتَعْلَمُ وَلاَ أَعْلَمُ، أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ، فَإِنْ رَأَيْتَ لِي فِي فُلاَنَةَ، تُسَمِّيهَا بِاسْمِهَا، خَيْرًا فِي دِينِي وَدُنْيَايَ وَآخِرَتِي، وَإِنْ كَانَ غَيْرُهَا خَيْرًا لِي مِنْهَا فِي دِينِي وَدُنْيَايَ وَآخِرَتِي، فَاقْضِ لِي بِهَا، أَوْ قَالَ: فَاقْدُرْهَا لِي» [6] .
ويروي أنسٌ - رضي الله عنه - في قصة زواج النبيِّ صلى الله عليه وسلم من زينبَ بنتِ جحشٍ، وفيه قالت: «ما أنا بصانعة شيئًا حتى أُوَامِرَ ربِّي، فقامت إلى مسجدها» [7] .
وفي هذا الحَديثِ بَيانٌ لهدي النبيِّ صلى الله عليه وسلم في صَلاةِ الاستِخارةِ في كُلِّ الأُمور، وأهميتِها، وعنايتِه بها، وتعليمها للصحابة الكرام، وتحفيظهم دعاءها كما يعلِّمهم القرآن؛ حيثُ يَرْوي جابرُ بنُ عبدِ اللهِ رَضيَ اللهُ عنهما يقول: (كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُعَلِّمُنَا الِاسْتِخَارَةَ فِي الأُمُورِ كُلِّهَا، كَمَا يُعَلِّمُنَا السُّورَةَ مِنَ القُرْآنِ)؛ أي: كان صلى الله عليه وسلم يعلِّمهم صلاة الاستخارة ويحفِّظهم دعاءها، كما كان يحفِّظهم القرآن، والاستخارة هي طلب الخير.
فـ"إذا عنَّ للإنسان جهةٌ، فليَسْتَخِرِ الله تعالى فيها الاستخارةَ المتلقَّاة عن معلِّم الخيرِ صلى الله عليه وسلم، فإن فيها من البَرَكة ما لا يُحاط به، ثم ما تيسَّر له، فلا يتكلَّف غيره إلَّا أن يكون منه كراهةٌ شرعية" [8] .
قوله: «في الأمور كلّها» دليلٌ على العموم؛ يَعْنِي: فِي دَقِيق الْأُمُور وجَلِيلها؛ لِأَنَّهُ يجب على الْمُؤمن ردُّ الأمور كلِّها إلى الله عزَّ وجل، والتبرُّؤ من الْحَول وَالْقُوَّة إليه، وأن لا يَحتقِر أمرًا لصِغَره، وعدمِ الاهتمام به، فيَترُك الاستخارة فيه، فرُبَّ أمرٍ يستخفُّ بأمره، فيكون في الإقدام عليه ضررٌ عظيم، أو في تركه. لذا؛ رُوِيَ عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم أنه قال: «ليسأل أحدكم ربَّه حتّى في شِسْعِ نَعْله» [9] .
وفي قوله: «كما يعلِّمنا السُّورة من القرآن» دليلٌ على الاهتمام بأمر الاستخارة، وأنّه متأكَّد، مرغَّب فيه.
يَقُولُ صلى الله عليه وسلم: «إِذَا هَمَّ أَحَدُكُمْ بِالأَمْرِ، فَلْيَرْكَعْ رَكْعَتَيْنِ مِنْ غَيْرِ الفَرِيضَةِ»؛ أي: إِذا قَصَد الْإِتْيَان بِفعل أَو ترك، وهو في حَيرة، فليُصلِّ ركعتين نافلةً.
والاستخارة عبارةٌ عن صلاة ودعاء؛ فالصلاة هي ركعتانِ من غير الصلوات المفروضة، ويصحُّ أن تكون سنَّةً راتبة، أو تحيَّةَ مسجد، أو صلاة ضُحًى على الراجح من قولَيِ العلماء، أما استخارةُ الحائض والنُّفَساء، فتكون بالدعاء دون الصلاة.
"قوله: «فليركع ركعتين»: فيه أنَّ السُّنَّة في الاستخارة كونُها ركعتين، فلا تُجزئ الرّكعةُ الواحدة، وهل يجزئ في ذلك أن يصلِّيَ أربعًا أو أكثرَ بتسليمة، يُحتمَل أن يُقال: يُجزئ ذلك؛ لقوله في حديث أبي أيُّوب «ثمَّ صلِّ ما كَتَب اللَّه لك» فهو دالٌّ على أنّها لا تضرُّ الزّيادة على الرَّكعتين، ومفهومُ العدد في قوله: «فليركع ركعتين» ليس بحُجَّة على قول الجمهور.
قوله: «من غير الفريضة» فيه أنَّه لا يحصل التّسنُّن بوقوع الدُّعاء بعد صلاة الفريضة، والسُّننِ الرّاتبة، وتحيَّةِ المسجد، وغير ذلك من النَّوافل. وقال النّوويُّ في "الأذكار": إنّه يحصل التَّسنُّن بذلك، وتُعُقِّب بأنّه صلى الله عليه وسلم إنّما أَمَره بذلك بعدَ حصول الهمِّ بالأمرِ، فإذا صلَّى راتبةً أو فريضةً، ثمَّ همَّ بأمرٍ بعد الصّلاة، أو في أثناء الصّلاة، لم يَحصُل بذلك الإتيان بالصّلاة المسنونة عند الاستخارة. قال العراقيُّ: إن كان همُّه بالأمر قبل الشّروع في الرَّاتبة ونحوها ثمَّ صلَّى من غير نيَّة الاستخارة، وبدا له بعد الصَّلاة الإتيان بدعاء الاستخارة، فالظّاهر حصول ذلك" [10] .
ولا تُصلَّى الاستخارة وقتَ نهيٍ؛ إلَّا في أمر يَفُوت ولا يمكِن استدراكه، فتكون من ذوات الأسباب التي يجوز فعلها في أوقات النهيِ.
"أما الاستخارة فهي مع الله - عزَّ وجلَّ - يستخير الإنسان ربَّه إذا همَّ بأمر وهو لا يدري عاقبتَه، ولا يدري مستقبَلَه، فعليه بالاستخارة، والاستخارةُ معناها طلب خَيْرِ الأمرينِ، وقد أرشد النبيُّ صلى الله عليه وسلم إلى ذلك بأن يصلِّيَ الإنسان ركعتين من غير الفريضة في غير وقت النهيِ، إلَّا في أمر يَخشى فَواتَه قبل خروج وقت النهيِ، فلا بأس أن يستخيرَ ولو في وقت النهيِ، أما ما كان فيه الأمر واسعًا، فلا يجوز أن يَستخير وقتَ النهيِ، فلا يستخير بعد صلاة العصر، وكذلك بعد الفجر حتى ترتفع الشمس مِقدارَ رُمح، وكذلك عند زوالها حتى تَزُول، لا يستخير إلا في أمر قد يفوت عليه، يصلِّي ركعتين من غير الفريضة ثم يسلِّم، وإذا سلَّم، قال: «اللهم إني أستخيرك بعلمك وأستقدرك بقدرتك...» الدعاء [11] .
«ثُمَّ لِيَقُلْ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْتَخِيرُكَ بِعِلْمِكَ»؛ أي: أطلب منك الْخِيرَة ملتبِّسًا بعلمك بخَيرِي وشرِّي.
"قوله: «ثمّ ليَقُلْ» فيه أنّه لا يضرُّ تأخُّر دعاء الاستخارة عن الصَّلاة ما لم يَطُلِ الفصل، وأنّه لا يضرُّ الفصل بكلام آخَرَ يسير، خصوصًا إن كان من آداب الدُّعاء؛ لأنّه أتى بـ(ثمّ) المقتضية للتّراخي.
قوله: «أستخيرك»؛ أي: أطلب منك الخَير أو الخِيَرة. استخار اللّه: طلب منه الخَير. وخار اللّه لك؛ أي: أعطاك اللّه ما هو خيرٌ لك. وقوله: «بعلمك»: الباء للتّعليل؛ أي: بأنَّك أعلمُ، وكذا قولُه: «بقدرتك»" [12] .
قوله: «وَأَسْتَقْدِرُكَ بِقُدْرَتِكَ، وَأَسْأَلُكَ مِنْ فَضْلِكَ العَظِيمِ»؛ أي: أطلب الْقُدْرَة منك أَن تجعلني قَادِرًا عليه، وأن تَمُنَّ عليَّ من فضلك العظيم. «فَإِنَّكَ تَقْدِرُ وَلاَ أَقْدِرُ، وَتَعْلَمُ وَلاَ أَعْلَمُ، وَأَنْتَ عَلَّامُ الغُيُوبِ» إِشارة إلى أن الْقُدْرَة لله وحده، وكذلك الْعلمُ له وحدَه. «اللَّهُمَّ إِنْ كُنْتَ تَعْلَمُ أَنَّ هَذَا الأَمْرَ خَيْرٌ لِي فِي دِينِي وَمَعَاشِي وَعَاقِبَةِ أَمْرِي»؛ أي: إن كنتَ تَعلَم أن هذا الأمر خيرٌ لي في ديني وحياتي ومستقبَلي وآخرتي. «أَوْ قَالَ: عَاجِلِ أَمْرِي وَآجِلِهِ» وهذا شكٌّ من الراوي؛ أي: دنياي وآخرتي، أو ما يكون من أمري في الحال والاستقبال. «فَاقْدُرْهُ لِي، وَيَسِّرْهُ لِي، ثُمَّ بَارِكْ لِي فِيهِ»؛ أي: اجعله مقدورًا لي، أو قدِّرْه لي، ويسِّرْه لي، ثم بارك لي فيه. «وَإِنْ كُنْتَ تَعْلَمُ أَنَّ هَذَا الأَمْرَ شَرٌّ لِي فِي دِينِي وَمَعَاشِي وَعَاقِبَةِ أَمْرِي - أَوْ قَالَ: فِي عَاجِلِ أَمْرِي وَآجِلِهِ - فَاصْرِفْهُ عَنِّي، وَاصْرِفْنِي عَنْهُ»؛ أي: إن كنت تعلم أنه شرٌّ لي في ديني وحياتي ومستقبلي وآخرتي، فأبعده عني، وأبعدني عنه، وجنِّبني إياه.
"قولُه: «فاصرفه عنّي واصرفني عنه» هو طَلَبُ الأكملِ من وجوهِ انصراف ما ليس فيه خِيَرةٌ عنه، ولم يكتفِ بسؤال صرف أحد الأمرين؛ لأنّه قد يَصرِف اللَّهُ المستخير عن ذلك الأمر بأن يَنقطِع طلبُه له، وذلك الأمرُ الذي ليس فيه خِيَرة بطلبه؛ فربّما أدركه، وقد يَصرِف اللّه عن المستخير ذلك الأمر، ولا يَصرِف قلب العبد عنه؛ بل يبقى متطلِّعًا متشوِّقًا إلى حصوله، فلا يَطِيب له خاطر إلّا بحصوله، فلا يطمئنُّ خاطره، فإذا صُرِف كلٌّ منهما عن الآخَر، كان ذلك أكملَ" [13] .
ولذلك قال: «وَاقْدُرْ لِي الخَيْرَ حَيْثُ كَانَ، ثُمَّ أَرْضِنِي»؛ أي: قدرِّ لي الخير دائمًا، حيث كان، ثم اجعلني راضيًا بما تقدِّر؛ "لأنّه إذا قدَّر له الخير ولم يرضَ به، كان منكَّدَ العيش، آثمًا بعدم رضاه بما قدَّره اللّه له، مع كونه خيرًا له" [14] .
«قَالَ: وَيُسَمِّي حَاجَتَهُ»؛ أي: يعيِّن حاجته؛ مثل أن يقول: إن كنت تَعلَم أن هذا الأمر من السّفر أو التّزوُّج أو نحو ذلك.
"فتضمَّن هذا الدعاءُ الإقرارَ بوجوده سبحانه، والإقرارَ بصفات كماله، من كمال العِلم والقُدرة والإرادة، والإقرارَ بربوبيَّته، وتفويضَ الأمر إليه، والاستعانةَ به، والتوكُّلَ عليه، والخروجَ من عُهدة نفسه، والتبرِّي من الحَول والقوَّة إلَّا به، واعتراف العبد بعجزه عن علمه بمصلحة نفسه، وقُدرته عليها، وإرادته لها، وأن ذلك كلَّه بيد وليِّه وفاطره وإلهه الحقِّ" [15] .
وما نَدِم مَن استخار الخالق، وشاوَرَ المخلوقين، وتثبَّت في أمره؛ فـ"الاستخارة مع الله، والمشاورة مع أهل الرأيِ والصلاح، وذلك أن الإنسان عنده قصور أو تقصير، والإنسان خُلِق ضعيفًا، فقد تُشكِل عليه الأمور، وقد يتردَّد فيها، فماذا يصنع؟ لنفرض أنه همَّ بسفَر وتردَّد هل هو خير أم شرٌّ؟ أو همَّ أن يشتريَ سيَّارةً أو بيتًا، أو أن يُصاهر رجلاً يتزوَّج ابنته، أو ما أشبه ذلك؛ ولكنه متردِّد، فماذا يصنع؟ نقول: له طريقتان؛ الطريق الأول: استخارة ربِّ العالمين عزَّ وجلَّ الذي يعلم ما كان وما يكون، وما لم يكن لو كان كيف يكون. الطريق الثاني: استشارة أهل الرأي والصلاح والأمانة" [16] .
"والحديث يدلُّ على مشروعيّة صلاة الاستخارة، والدُّعاء عَقِيبها، ولا خلاف في ذلك، وهل يُستحبُّ تَكرار الصّلاة والدُّعاء؟ قال العراقيُّ: الظّاهر الاستحبابُ. وقد يُستدلُّ للتَّكرار بأنّ النّبيَّ صلى الله عليه وسلم «كان إذا دعا، دعا ثلاثًا»، وهذا وإن كان المرادُ به تَكرارَ الدّعاء في الوقت الواحد، فالدُّعاءُ الَّذي تُسنُّ الصّلاة له، تُكرَّر الصّلاة له؛ كالاستسقاء.
وينبغي أن يفعل المرء بعد الاستخارة ما يَنشرِح له صدرُه، ولا ينبغي أن يعتمد على انشراحٍ كان له فيه هوًى قبل الاستخارة؛ بل ينبغي للمستخير تركُ اختياره رأسًا، وإلَّا فلا يكون مستخيرًا للّه؛ بل يكون مستخيرًا لهواه، وقد يكون غيرَ صادق في طلب الخِيَرة وفي التّبرِّي من العِلم والقُدرة، وإثباتهما للّه تعالى، فإذا صَدَق في ذلك، تَبرَّأ من الحَول والقوَّة، ومن اختياره لنفسه" [17] .
فعلامة الخيرة بعد الاستخارة انشراح الصدر، وتَيسُّر الأمر، وعلامةُ انتفاء الخِيَرة عَدَمُ انشراح الصدر، وتعسُّر الأمر، فإن لم يظهر شيءٌ من تلك العلامات، فعلى العبد أن يستفتح ربَّه بتَكرار الاستخارة والاستشارة، فإن لم يظهر له شيء بعد هذا التَّكرار، فليفعل ما يراه، بعد استشارة أهل الصلاح؛ فتلك هي الخِيَرة.
"ثم بعد الصلاة ودعاء الاستخارة إن انشرح صدره بأحد الأمرين، بالإقدام أو الإحجام، فهذا المطلوبُ، يَأخُذ بما يَنشرِح به صدره، فإن لم ينشرح صدره لشيء، وبَقِي متردِّدًا، أعاد الاستخارة مرَّةً ثانية وثالثة، ثم بعد ذلك المشورة، إذا لم يتبيَّن له شيء بعد الاستخارة، فإنه يُشاور أهل الرأي والصلاح، ثم ما أُشير عليه به فهو الخيرُ إن شاء الله؛ لأن الله تعالى قد لا يجعل في قلبه بالاستخارة مَيْلاً إلى شيء معيَّن؛ حتى يستشير، فيجعل اللهُ تعالى مَيْلَ قلبِه بعد المشورة، وقد اختلف العلماء: هل المقدَّم المشورة أو الاستخارة؟ والصحيحُ أن المقدَّم الاستخارة، فقدِّم أوَّلاً الاستخارة؛ لقول النبيِّ صلى الله عليه وسلم: «إذا همَّ أحدكم بالأمر، فليُصلِّ ركعتين...» إلى آخره، ثمَّ إذا كرَّرتَها ثلاثَ مرَّات، ولم يتبيَّن لك الأمر، فاستشِرْ، ثمَّ ما أُشير عليك به، فخُذْ به، وإنما قلنا: إنه يَستخير ثلاثَ مرَّات؛ لأن من عادة النبيِّ صلى الله عليه وسلم أنه إذا دعا، دعا ثلاثًا، والاستخارة دعاءٌ، وقد لا يتبيَّن للإنسان خيرُ الأمرين من أوَّل مرَّةٍ؛ بل قد يتبيَّن في أوَّل مرَّة، أو في الثانية، أو في الثالثة، وإذا لم يتبيَّن، فليَستشِرْ" [18] .
قال عبد اللّه بن عمر: "إنّ الرجل ليَسْتَخيرُ اللّه، فيختار له، فيَسخَط على ربِّه، فلا يَلبَثُ أن يَنظُر في العاقبة، فإذا هو قد خار له" [19] .
الفوائد العلمية:
1. في هذا الحديث بَيانٌ لهَدْيِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم في صلاة الاستخارة في كُلِّ الأُمور، وأهميتِها، وعنايتِه بها، وتعليمها للصحابة الكرام، وتحفيظهم دعاءها كما يعلِّمهم القرآن.
2. في الحديث بيان أنه ينبغي للعبد أن لا يَقصِد شيئًا من دقيق الأمور وجَلِيلها، حتى يستخيرَ اللهَ فيه، ويَسألَه أن يَحمِلَه فيه على الخير، ويَصرِف عنه الشرَّ؛ إذعانًا بالافتقار إليه في كلِّ أمر، والتزامًا بذِلَّة العبودية له، واتِّباعًا لسُنَّة نبيِّه صلى الله عليه وسلم في الاستخارة.
3. الاستخارة هي مع الله تعالى، يستخير الإنسان ربَّه إذا همَّ بأمر وهو لا يدري عاقبتَه، ولا يدري مستقبَلَه، فعليه بالاستخارة، والاستخارةُ معناها طلب خَيْرِ الأمرينِ.
4. المقدور يكتنفه أمران: الاستخارة قبل وقوعه، والرضا بعد وقوعه؛ فمن سعادة العبد أن يجمع بينهما [20] ؛ "لأنّه إذا قدَّر له الخير ولم يرضَ به، كان منكَّدَ العيش، آثمًا بعدم رضاه بما قدَّره اللّه له، مع كونه خيرًا له" [21] .
5. كان النبيُّ صلى الله عليه وسلم يعلِّم الصحابة دعاءَ الاستخارة كما يعلِّمهم السورة من القرآن؛ لشدَّة حاجتهم إلى الاستخارة في الحالات كلِّها؛ كشِدَّة حاجتهم إلى القراءة في كلِّ الصَّلَوات.
6. الاستخارة تكون مع الله، والمشاورة مع أهل الرأيِ والصلاح، وذلك أن الإنسان عنده قصور أو تقصير، والإنسان خُلِق ضعيفًا، فقد تُشكِل عليه الأمور، وقد يتردَّد فيها؛ فأمامه طريقان؛ الطريق الأول: استخارة ربِّه الذي يعلم ما كان وما يكون، وما لم يكن لو كان كيف يكون. والطريق الثاني: استشارة أهل الرأي والصلاح والأمانة [22] .
7. ينبغي أن يفعل المرء بعد الاستخارة ما يَنشرِح له صدرُه، ولا ينبغي أن يعتمد على انشراحٍ كان له فيه هوًى قبل الاستخارة؛ بل ينبغي للمستخير تركُ اختياره رأسًا، وإلَّا فلا يكون مستخيرًا للّه؛ بل يكون مستخيرًا لهواه، وقد يكون غيرَ صادق في طلب الخِيَرة وفي التّبرِّي من العِلم والقُدرة، وإثباتهما للّه تعالى، فإذا صَدَق في ذلك، تَبرَّأ من الحَول والقوَّة، ومن اختياره لنفسه [23] .
8. علامة الخِيَرة بعد الاستخارة انشراحُ الصدر، وتَيسُّرُ الأمر، وعلامةُ انتفاء الخِيَرة عَدَمُ انشراح الصدر، وتعسُّرُ الأمر، فإن لم يظهر شيءٌ من تلك العلامات، فعلى العبد أن يستفتح ربَّه بتَكرار الاستخارة والاستشارة، فإن لم يظهر له شيء بعد هذا التَّكرار، فليفعل ما يراه، بعد استشارة أهل الصلاح؛ فتلك هي الخِيَرة.
1. في هذا الحديث بَيانٌ لهَدْيِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم في صلاة الاستخارة في كُلِّ الأُمور، وأهميتِها، وعنايتِه بها، وتعليمها للصحابة الكرام، وتحفيظهم دعاءها كما يعلِّمهم القرآن.
2. في الحديث بيان أنه ينبغي للعبد أن لا يَقصِد شيئًا من دقيق الأمور وجَلِيلها، حتى يستخيرَ اللهَ فيه، ويَسألَه أن يَحمِلَه فيه على الخير، ويَصرِف عنه الشرَّ؛ إذعانًا بالافتقار إليه في كلِّ أمر، والتزامًا بذِلَّة العبودية له، واتِّباعًا لسُنَّة نبيِّه صلى الله عليه وسلم في الاستخارة.
3. الاستخارة هي مع الله تعالى، يستخير الإنسان ربَّه إذا همَّ بأمر وهو لا يدري عاقبتَه، ولا يدري مستقبَلَه، فعليه بالاستخارة، والاستخارةُ معناها طلب خَيْرِ الأمرينِ.
4. المقدور يكتنفه أمران: الاستخارة قبل وقوعه، والرضا بعد وقوعه؛ فمن سعادة العبد أن يجمع بينهما [20] ؛ "لأنّه إذا قدَّر له الخير ولم يرضَ به، كان منكَّدَ العيش، آثمًا بعدم رضاه بما قدَّره اللّه له، مع كونه خيرًا له" [21] .
5. كان النبيُّ صلى الله عليه وسلم يعلِّم الصحابة دعاءَ الاستخارة كما يعلِّمهم السورة من القرآن؛ لشدَّة حاجتهم إلى الاستخارة في الحالات كلِّها؛ كشِدَّة حاجتهم إلى القراءة في كلِّ الصَّلَوات.
6. الاستخارة تكون مع الله، والمشاورة مع أهل الرأيِ والصلاح، وذلك أن الإنسان عنده قصور أو تقصير، والإنسان خُلِق ضعيفًا، فقد تُشكِل عليه الأمور، وقد يتردَّد فيها؛ فأمامه طريقان؛ الطريق الأول: استخارة ربِّه الذي يعلم ما كان وما يكون، وما لم يكن لو كان كيف يكون. والطريق الثاني: استشارة أهل الرأي والصلاح والأمانة [22] .
7. ينبغي أن يفعل المرء بعد الاستخارة ما يَنشرِح له صدرُه، ولا ينبغي أن يعتمد على انشراحٍ كان له فيه هوًى قبل الاستخارة؛ بل ينبغي للمستخير تركُ اختياره رأسًا، وإلَّا فلا يكون مستخيرًا للّه؛ بل يكون مستخيرًا لهواه، وقد يكون غيرَ صادق في طلب الخِيَرة وفي التّبرِّي من العِلم والقُدرة، وإثباتهما للّه تعالى، فإذا صَدَق في ذلك، تَبرَّأ من الحَول والقوَّة، ومن اختياره لنفسه [23] .
8. علامة الخِيَرة بعد الاستخارة انشراحُ الصدر، وتَيسُّرُ الأمر، وعلامةُ انتفاء الخِيَرة عَدَمُ انشراح الصدر، وتعسُّرُ الأمر، فإن لم يظهر شيءٌ من تلك العلامات، فعلى العبد أن يستفتح ربَّه بتَكرار الاستخارة والاستشارة، فإن لم يظهر له شيء بعد هذا التَّكرار، فليفعل ما يراه، بعد استشارة أهل الصلاح؛ فتلك هي الخِيَرة.
الفوائد العقدية:
1. في هذا الحديث حُجَّةٌ على القَدَرية الذين يزعمون أن الله تعالى لا يَخلُق الشرَّ، تعالى الله عَّما يَفتَرُون، وقد أبان النبيُّ صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث أن الله تعالى هو المالك للشرِّ، والخالقُ له؛ إذ هو الْمَدْعوُّ لصَرْفِه عن العبد، ومُحَال أن يسأله العبد أن يَصرِف عنه ما يَملِكه العبد من نفسه، وما يَقدِر على اختراعه دون تقدير الله عليه [30] .
2. الاستخارة هي توحيد خالص لله تعالى، وإيمان به، فيها إقرارُ العبد بضَعفه وعُبوديَّته وعَجزه علمًا وقُدرة، وتوكُّلُه على خالقه ومدبِّر أمرِه، واستعانتُه به، واللجوءُ إليه، وتفويضُه الأمرَ إليه، واستقسامُه بقُدرته وعلمه وحُسن اختياره له، وفيها الرضا بالله ربًّا، والرضا باختياره مهما كان.
3. تضمَّن هذا الدعاءُ الإقرارَ بوجوده سبحانه، والإقرارَ بصفات كماله، من كمال العِلم والقُدرة والإرادة، والإقرارَ بربوبيَّته، وتفويضَ الأمر إليه، والاستعانةَ به، والتوكُّلَ عليه، والخروجَ من عُهدة نفسه، والتبرِّي من الحَول والقوَّة إلَّا به، واعتراف العبد بعجزه عن علمه بمصلحة نفسه، وقُدرته عليها، وإرادته لها، وأن ذلك كلَّه بيد وليِّه وفاطره وإلهه الحقِّ [31] .
4. إذا كان المؤمنُ يؤمن أنه لا يَعلَمُ الغَيبَ إلَّا اللهُ تعالى، ولا يُقدِّرُ الخيرَ والشَّرَّ للعبد سواه، فإنَّ عليه أن يرُدَّ الأمور كلَّها إلى الله، وأن يتبرَّأ من حَوله وقوَّته وقُدرته وعِلمه إلى حَول الله وقوَّته وقُدرته وعِلمه.
1. في هذا الحديث حُجَّةٌ على القَدَرية الذين يزعمون أن الله تعالى لا يَخلُق الشرَّ، تعالى الله عَّما يَفتَرُون، وقد أبان النبيُّ صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث أن الله تعالى هو المالك للشرِّ، والخالقُ له؛ إذ هو الْمَدْعوُّ لصَرْفِه عن العبد، ومُحَال أن يسأله العبد أن يَصرِف عنه ما يَملِكه العبد من نفسه، وما يَقدِر على اختراعه دون تقدير الله عليه [30] .
2. الاستخارة هي توحيد خالص لله تعالى، وإيمان به، فيها إقرارُ العبد بضَعفه وعُبوديَّته وعَجزه علمًا وقُدرة، وتوكُّلُه على خالقه ومدبِّر أمرِه، واستعانتُه به، واللجوءُ إليه، وتفويضُه الأمرَ إليه، واستقسامُه بقُدرته وعلمه وحُسن اختياره له، وفيها الرضا بالله ربًّا، والرضا باختياره مهما كان.
3. تضمَّن هذا الدعاءُ الإقرارَ بوجوده سبحانه، والإقرارَ بصفات كماله، من كمال العِلم والقُدرة والإرادة، والإقرارَ بربوبيَّته، وتفويضَ الأمر إليه، والاستعانةَ به، والتوكُّلَ عليه، والخروجَ من عُهدة نفسه، والتبرِّي من الحَول والقوَّة إلَّا به، واعتراف العبد بعجزه عن علمه بمصلحة نفسه، وقُدرته عليها، وإرادته لها، وأن ذلك كلَّه بيد وليِّه وفاطره وإلهه الحقِّ [31] .
4. إذا كان المؤمنُ يؤمن أنه لا يَعلَمُ الغَيبَ إلَّا اللهُ تعالى، ولا يُقدِّرُ الخيرَ والشَّرَّ للعبد سواه، فإنَّ عليه أن يرُدَّ الأمور كلَّها إلى الله، وأن يتبرَّأ من حَوله وقوَّته وقُدرته وعِلمه إلى حَول الله وقوَّته وقُدرته وعِلمه.
الفوائد الفقهية:
1. الاستخارة عبارةٌ عن صلاة ودعاء؛ فالصلاة هي ركعتانِ من غير الصلوات المفروضة، ويصحُّ أن تكون سنَّةً راتبة، أو تحيَّةَ مسجد، أو صلاة ضُحًى على الراجح من قولَيِ العلماء، أما استخارةُ الحائض والنُّفَساء، فتكون بالدعاء دون الصلاة.
2. قوله: «فليركع ركعتين»: فيه أنَّ السُّنَّة في الاستخارة كونُها ركعتين، فلا تُجزئ الرّكعةُ الواحدة، وهل يجزئ في ذلك أن يصلِّيَ أربعًا أو أكثرَ بتسليمة، يُحتمَل أن يُقال: يُجزئ ذلك؛ لقوله في حديث أبي أيُّوب «ثمَّ صلِّ ما كَتَب اللَّه لك» فهو دالٌّ على أنّها لا تضرُّ الزّيادة على الرَّكعتين، ومفهومُ العدد في قوله: «فليركع ركعتين» ليس بحُجَّة على قول الجمهور [24] .
3. قوله: «في الأمور كلّها» دليلٌ على العموم؛ يَعْنِي: فِي دَقِيق الْأُمُور وجَلِيلها؛ لِأَنَّهُ يجب على الْمُؤمن ردُّ الأمور كلِّها إلى الله عزَّ وجل، والتبرُّؤ من الْحَول وَالْقُوَّة إليه، وأن لا يَحتقِر أمرًا لصِغَره، وعدمِ الاهتمام به، فيَترُك الاستخارة فيه؛ فرُبَّ أمرٍ يستخفُّ بأمره، فيكون في الإقدام عليه ضررٌ عظيم، أو في تركه. لذا؛ رُوِيَ عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم أنه قال: «ليسأل أحدُكم ربَّه حتّى في شِسْعِ نَعْله» [25] .
4. لا تُصلَّى الاستخارة وقتَ نهيٍ؛ إلَّا في أمر يَخشى فَواتَه قبل خروج وقت النهيِ، فلا بأس أن يستخيرَ ولو في وقت النهيِ، أما ما كان فيه الأمر واسعًا، فلا يجوز أن يَستخير وقتَ النهيِ، فلا يستخير بعد صلاة العصر، وكذلك بعد الفجر حتى ترتفع الشمس مِقدارَ رُمح، وكذلك عند زوالها حتى تَزُول، لا يستخير إلا في أمر قد يفوت عليه [26] .
5. اختلف العلماء في قوله: «من غير الفريضة»، فقيل: لا يحصل التّسنُّنُ بوقوع الدُّعاء بعد صلاة الفريضة، والسُّننِ الرّاتبة، وتحيَّةِ المسجد، وغير ذلك من النَّوافل. وقيل: إنّه يحصل التَّسنُّن بذلك. وقيل: إن كان همُّه بالأمر قبل الشّروع في الرَّاتبة ونحوها ثمَّ صلَّى من غير نيَّة الاستخارة، وبدا له بعد الصَّلاة الإتيان بدعاء الاستخارة، فالظّاهر حصول ذلك [27] .
6. قوله: «ثمّ ليَقُلْ» فيه أنّه لا يضرُّ تأخُّر دعاء الاستخارة عن الصَّلاة ما لم يَطُلِ الفصل، وأنّه لا يضرُّ الفصل بكلام آخَرَ يسير، خصوصًا إن كان من آداب الدُّعاء؛ لأنّه أتى بـ(ثمّ) المقتضية للتّراخي.
7. الظاهر استحبابُ تَكرار الصّلاة والدُّعاء، وقد يُستدلُّ للتَّكرار بأنّ النّبيَّ صلى الله عليه وسلم كان إذا دعا، دعا ثلاثًا، وهذا وإن كان المرادُ به تَكرارَ الدّعاء في الوقت الواحد، فالدُّعاءُ الَّذي تُسنُّ الصّلاة له، تُكرَّر الصّلاة له؛ كالاستسقاء [28] .
8. بعد الصلاة ودعاء الاستخارة إن انشرح صدره بأحد الأمرين، بالإقدام أو الإحجام، فهذا المطلوبُ، يَأخُذ بما يَنشرِح به صدره، فإن لم ينشرح صدره لشيء، وبَقِي متردِّدًا، أعاد الاستخارة مرَّةً ثانية وثالثة، ثم بعد ذلك المشورة، إذا لم يتبيَّن له شيء بعد الاستخارة، فإنه يُشاور أهل الرأي والصلاح، ثم ما أُشير عليه به فهو الخيرُ إن شاء الله؛ لأن الله تعالى قد لا يجعل في قلبه بالاستخارة مَيْلاً إلى شيء معيَّن؛ حتى يستشير، فيجعل اللهُ تعالى مَيْلَ قلبِه بعد المشورة.
9. اختلف العلماء: هل المقدَّم المشورة أو الاستخارة؟ والصحيحُ أن المقدَّم الاستخارة، فقدِّم أوَّلاً الاستخارة؛ لقول النبيِّ صلى الله عليه وسلم: «إذا همَّ أحدكم بالأمر، فليُصلِّ ركعتين...» إلى آخره، ثمَّ إذا كرَّرتَها ثلاثَ مرَّات، ولم يتبيَّن لك الأمر، فاستشِرْ، ثمَّ ما أُشير عليك به، فخُذْ به، وإنما قلنا: إنه يَستخير ثلاثَ مرَّات؛ لأن من عادة النبيِّ صلى الله عليه وسلم أنه إذا دعا، دعا ثلاثًا، والاستخارة دعاءٌ، وقد لا يتبيَّن للإنسان خيرُ الأمرين من أوَّل مرَّةٍ؛ بل قد يتبيَّن في أوَّل مرَّة، أو في الثانية، أو في الثالثة، وإذا لم يتبيَّن، فليَستشِرْ [29] .
1. الاستخارة عبارةٌ عن صلاة ودعاء؛ فالصلاة هي ركعتانِ من غير الصلوات المفروضة، ويصحُّ أن تكون سنَّةً راتبة، أو تحيَّةَ مسجد، أو صلاة ضُحًى على الراجح من قولَيِ العلماء، أما استخارةُ الحائض والنُّفَساء، فتكون بالدعاء دون الصلاة.
2. قوله: «فليركع ركعتين»: فيه أنَّ السُّنَّة في الاستخارة كونُها ركعتين، فلا تُجزئ الرّكعةُ الواحدة، وهل يجزئ في ذلك أن يصلِّيَ أربعًا أو أكثرَ بتسليمة، يُحتمَل أن يُقال: يُجزئ ذلك؛ لقوله في حديث أبي أيُّوب «ثمَّ صلِّ ما كَتَب اللَّه لك» فهو دالٌّ على أنّها لا تضرُّ الزّيادة على الرَّكعتين، ومفهومُ العدد في قوله: «فليركع ركعتين» ليس بحُجَّة على قول الجمهور [24] .
3. قوله: «في الأمور كلّها» دليلٌ على العموم؛ يَعْنِي: فِي دَقِيق الْأُمُور وجَلِيلها؛ لِأَنَّهُ يجب على الْمُؤمن ردُّ الأمور كلِّها إلى الله عزَّ وجل، والتبرُّؤ من الْحَول وَالْقُوَّة إليه، وأن لا يَحتقِر أمرًا لصِغَره، وعدمِ الاهتمام به، فيَترُك الاستخارة فيه؛ فرُبَّ أمرٍ يستخفُّ بأمره، فيكون في الإقدام عليه ضررٌ عظيم، أو في تركه. لذا؛ رُوِيَ عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم أنه قال: «ليسأل أحدُكم ربَّه حتّى في شِسْعِ نَعْله» [25] .
4. لا تُصلَّى الاستخارة وقتَ نهيٍ؛ إلَّا في أمر يَخشى فَواتَه قبل خروج وقت النهيِ، فلا بأس أن يستخيرَ ولو في وقت النهيِ، أما ما كان فيه الأمر واسعًا، فلا يجوز أن يَستخير وقتَ النهيِ، فلا يستخير بعد صلاة العصر، وكذلك بعد الفجر حتى ترتفع الشمس مِقدارَ رُمح، وكذلك عند زوالها حتى تَزُول، لا يستخير إلا في أمر قد يفوت عليه [26] .
5. اختلف العلماء في قوله: «من غير الفريضة»، فقيل: لا يحصل التّسنُّنُ بوقوع الدُّعاء بعد صلاة الفريضة، والسُّننِ الرّاتبة، وتحيَّةِ المسجد، وغير ذلك من النَّوافل. وقيل: إنّه يحصل التَّسنُّن بذلك. وقيل: إن كان همُّه بالأمر قبل الشّروع في الرَّاتبة ونحوها ثمَّ صلَّى من غير نيَّة الاستخارة، وبدا له بعد الصَّلاة الإتيان بدعاء الاستخارة، فالظّاهر حصول ذلك [27] .
6. قوله: «ثمّ ليَقُلْ» فيه أنّه لا يضرُّ تأخُّر دعاء الاستخارة عن الصَّلاة ما لم يَطُلِ الفصل، وأنّه لا يضرُّ الفصل بكلام آخَرَ يسير، خصوصًا إن كان من آداب الدُّعاء؛ لأنّه أتى بـ(ثمّ) المقتضية للتّراخي.
7. الظاهر استحبابُ تَكرار الصّلاة والدُّعاء، وقد يُستدلُّ للتَّكرار بأنّ النّبيَّ صلى الله عليه وسلم كان إذا دعا، دعا ثلاثًا، وهذا وإن كان المرادُ به تَكرارَ الدّعاء في الوقت الواحد، فالدُّعاءُ الَّذي تُسنُّ الصّلاة له، تُكرَّر الصّلاة له؛ كالاستسقاء [28] .
8. بعد الصلاة ودعاء الاستخارة إن انشرح صدره بأحد الأمرين، بالإقدام أو الإحجام، فهذا المطلوبُ، يَأخُذ بما يَنشرِح به صدره، فإن لم ينشرح صدره لشيء، وبَقِي متردِّدًا، أعاد الاستخارة مرَّةً ثانية وثالثة، ثم بعد ذلك المشورة، إذا لم يتبيَّن له شيء بعد الاستخارة، فإنه يُشاور أهل الرأي والصلاح، ثم ما أُشير عليه به فهو الخيرُ إن شاء الله؛ لأن الله تعالى قد لا يجعل في قلبه بالاستخارة مَيْلاً إلى شيء معيَّن؛ حتى يستشير، فيجعل اللهُ تعالى مَيْلَ قلبِه بعد المشورة.
9. اختلف العلماء: هل المقدَّم المشورة أو الاستخارة؟ والصحيحُ أن المقدَّم الاستخارة، فقدِّم أوَّلاً الاستخارة؛ لقول النبيِّ صلى الله عليه وسلم: «إذا همَّ أحدكم بالأمر، فليُصلِّ ركعتين...» إلى آخره، ثمَّ إذا كرَّرتَها ثلاثَ مرَّات، ولم يتبيَّن لك الأمر، فاستشِرْ، ثمَّ ما أُشير عليك به، فخُذْ به، وإنما قلنا: إنه يَستخير ثلاثَ مرَّات؛ لأن من عادة النبيِّ صلى الله عليه وسلم أنه إذا دعا، دعا ثلاثًا، والاستخارة دعاءٌ، وقد لا يتبيَّن للإنسان خيرُ الأمرين من أوَّل مرَّةٍ؛ بل قد يتبيَّن في أوَّل مرَّة، أو في الثانية، أو في الثالثة، وإذا لم يتبيَّن، فليَستشِرْ [29] .
من هدايات الحديث:
1. الاستخارةُ من أجلِّ أسباب سعادة العبد في دينه ودنياه؛ فعن سعدِ بنِ أبي وقَّاصٍ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مِنْ سَعَادَةِ ابْنِ آدَمَ اسْتِخَارَتُهُ اللَّهَ، وَمِنْ سَعَادَةِ ابْنِ آدَمَ رِضَاهُ بِمَا قَضَى اللَّهُ، وَمِنْ شِقْوَةِ ابْنِ آدَمَ تَرْكُهُ اسْتِخَارَةَ اللهِ، وَمِنْ شِقْوَةِ ابْنِ آدَمَ سَخَطُهُ بِمَا قَضَى اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ» [35] .
2. ما نَدِم مَن استخار الخالق، وشاوَرَ المخلوقين، وتثبَّت في أمره.
3. قال عبد اللّه بنُ عمرَ - رضي الله عنهما -: "إنّ الرجل ليَسْتَخيرُ اللّه، فيختار له، فيَسخَط على ربِّه، فلا يَلبَثُ أن يَنظُر في العاقبة، فإذا هو قد خار له" [36] .
4. الاستخارة عبوديةٌ وانكسار، ودليلٌ على تعلُّق قلب المؤمن بربِّه في سائر أحواله.
5. الاستخارة تَرْفع الروح المعنوية للمستخير، فتجعله واثقًا مِن توفيق الله له.
6. الاستخارة تعظيم لله وثناء، وهي مَخرجٌ من الحَيرة والشكِّ، ومَدْعاة للطمأنينة وراحة البال، وهي سبيلُ التوكُّلِ وتفويضِ الأمر إلى الله تعالى.
7. إذا كنتَ تؤمن أنه لا يَعلَمُ الغَيبَ إلَّا اللهُ تعالى، ولا يُقدِّرُ الخيرَ والشَّرَّ للعَبْدِ سواه، فعليك أن ترُدَّ الأمور كلَّها إلى الله، وأن تتبرَّأ من حَولك وقوَّتك وقُدرتك وعِلمك إلى حَول الله وقوَّته وقُدرته وعِلمه.
8. ينبغي للعبد أن لا يَقصِد شيئًا من دقيق الأمور وجَلِيلها، حتى يستخيرَ اللهَ فيه، ويَسألَه أن يَحمِلَه فيه على الخير، ويَصرِف عنه الشرَّ؛ إذعانًا بالافتقار إليه في كلِّ أمر، والتزامًا بذِلَّة العبودية له، واتِّباعًا لسُنَّة نبيِّه صلى الله عليه وسلم في الاستخارة.
9. رُبَّ أَمْرٍ تَتَّقِيهِ = جَرَّ أَمْرًا تَرْتَضِيهِ
خَفِيَ الْمَحْبُوبُ مِنْهُ = وَبَدَا الْمَكْرُوهُ فِيهِ
1. الاستخارةُ من أجلِّ أسباب سعادة العبد في دينه ودنياه؛ فعن سعدِ بنِ أبي وقَّاصٍ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مِنْ سَعَادَةِ ابْنِ آدَمَ اسْتِخَارَتُهُ اللَّهَ، وَمِنْ سَعَادَةِ ابْنِ آدَمَ رِضَاهُ بِمَا قَضَى اللَّهُ، وَمِنْ شِقْوَةِ ابْنِ آدَمَ تَرْكُهُ اسْتِخَارَةَ اللهِ، وَمِنْ شِقْوَةِ ابْنِ آدَمَ سَخَطُهُ بِمَا قَضَى اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ» [35] .
2. ما نَدِم مَن استخار الخالق، وشاوَرَ المخلوقين، وتثبَّت في أمره.
3. قال عبد اللّه بنُ عمرَ - رضي الله عنهما -: "إنّ الرجل ليَسْتَخيرُ اللّه، فيختار له، فيَسخَط على ربِّه، فلا يَلبَثُ أن يَنظُر في العاقبة، فإذا هو قد خار له" [36] .
4. الاستخارة عبوديةٌ وانكسار، ودليلٌ على تعلُّق قلب المؤمن بربِّه في سائر أحواله.
5. الاستخارة تَرْفع الروح المعنوية للمستخير، فتجعله واثقًا مِن توفيق الله له.
6. الاستخارة تعظيم لله وثناء، وهي مَخرجٌ من الحَيرة والشكِّ، ومَدْعاة للطمأنينة وراحة البال، وهي سبيلُ التوكُّلِ وتفويضِ الأمر إلى الله تعالى.
7. إذا كنتَ تؤمن أنه لا يَعلَمُ الغَيبَ إلَّا اللهُ تعالى، ولا يُقدِّرُ الخيرَ والشَّرَّ للعَبْدِ سواه، فعليك أن ترُدَّ الأمور كلَّها إلى الله، وأن تتبرَّأ من حَولك وقوَّتك وقُدرتك وعِلمك إلى حَول الله وقوَّته وقُدرته وعِلمه.
8. ينبغي للعبد أن لا يَقصِد شيئًا من دقيق الأمور وجَلِيلها، حتى يستخيرَ اللهَ فيه، ويَسألَه أن يَحمِلَه فيه على الخير، ويَصرِف عنه الشرَّ؛ إذعانًا بالافتقار إليه في كلِّ أمر، والتزامًا بذِلَّة العبودية له، واتِّباعًا لسُنَّة نبيِّه صلى الله عليه وسلم في الاستخارة.
9. رُبَّ أَمْرٍ تَتَّقِيهِ = جَرَّ أَمْرًا تَرْتَضِيهِ
خَفِيَ الْمَحْبُوبُ مِنْهُ = وَبَدَا الْمَكْرُوهُ فِيهِ
النقول:
قال ابن حجر رحمه الله: "قوله: (باب الدعاء عند الاستخارة) هي (اسْتِفْعَالٌ) من الخَير، أو من الخِيَرة، بكسر أوَّله وفتح ثانيه، بوزن العِنَبة، اسمٌ من قولك: خار اللهُ له. واستخار اللهَ: طلبَ منه الخِيَرة، وخار اللهُ له: أعطاه ما هو خيرٌ له، والمرادُ طَلَبُ خير الأمرين لمن احتاج إلى أحدهما" [37] .
قال ابن تيمية رحمه الله: "إذا عنَّ للإنسان جهةٌ، فليَسْتَخِرِ الله تعالى فيها الاستخارةَ المتلقَّاة عن معلِّم الخيرِ صلى الله عليه وسلم، فإن فيها من البَرَكة ما لا يُحاط به، ثم ما تيسَّر له، فلا يتكلَّف غيره إلَّا أن يكون منه كراهةٌ شرعية" [38] .
قال ابن بطَّال رحمه الله: "فِقْهُ هذا الحديث أنه يَجِبُ على المؤمن رَدُّ الأمور كلِّها إلى الله، وصَرْفُ أَزِمَّتها، والتبرُّؤ من الحَوْل والقوَّة إليه، وينبغي له أن لا يَرُوم شيئًا من دقيق الأمور وجَلِيلها، حتى يستخيرَ اللهَ فيه، ويَسألُه أن يَحمِلَه فيه على الخير، ويَصرِف عنه الشرَّ؛ إذعانًا بالافتقار إليه في كلِّ أمر، والتزامًا لذِلَّة العبودية له، وتبرُّكًا باتِّباع سُنَّة نبيِّه صلى الله عليه وسلم في الاستخارة؛ ولذلك كان النبيُّ صلى الله عليه وسلم يعلِّمهم هذا الدعاءَ كما يعلِّمهم السورة من القرآن؛ لشدَّة حاجتهم إلى الاستخارة في الحالات كلِّها؛ كشِدَّة حاجتهم إلى القراءة في كلِّ الصَّلَوات، وفى هذا الحديث حُجَّةٌ على القَدَرية الذين يزعمون أن الله تعالى لا يَخلُق الشرَّ، تعالى الله عَّما يَفتَرُون، وقد أبان النبيُّ صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث أن الله تعالى هو المالك للشرِّ، والخالقُ له؛ إذ هو الْمَدْعوُّ لصَرْفِه عن العبد، ومُحَال أن يسأله العبد أن يَصرِف عنه ما يَملِكه العبد من نفسه، وما يَقدِر على اختراعه دون تقدير الله عليه" [39] .
قال ابن عثيمين رحمه الله: "والاستخارة مع الله، والمشاورة مع أهل الرأي والصلاح، وذلك أن الإنسان عنده قصور أو تقصير، والإنسان خُلِق ضعيفًا، فقد تُشكِل عليه الأمور، وقد يتردَّد فيها، فماذا يصنع؟ لنفرض أنه همَّ بسفَر وتردَّد هل هو خير أم شر؟ أو همَّ أن يشتريَ سيَّارةً أو بيتًا، أو أن يُصاهر رجلاً يتزوَّج ابنته، أو ما أشبه ذلك؛ ولكنه متردِّد، فماذا يصنع؟ نقول: له طريقتان؛ الطريق الأول: استخارة ربِّ العالمين عزَّ وجلَّ الذي يعلم ما كان وما يكون وما لم يكن لو كان كيف يكون. الطريق الثاني: استشارة أهل الرأي والصلاح والأمانة" [40] .
قال الشوكانيُّ رحمه الله: "قوله: «في الأمور كلّها» دليلٌ على العموم، وأنّ المرء لا يَحتقِر أمرًا لصِغَره، وعدمِ الاهتمام به، فيَترُك الاستخارة فيه، فرُبَّ أمرٍ يستخفُّ بأمره، فيكون في الإقدام عليه ضررٌ عظيم، أو في تركه؛ ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: «ليسأل أحدكم ربَّه حتّى في شِسْعِ نَعله» [41] . قوله: «كما يعلِّمنا السُّورة من القرآن» فيه دليلٌ على الاهتمام بأمر الاستخارة، وأنّه متأكَّد مرغَّب فيه. قال العراقيُّ: ولم أَجِدْ مَن قال بوجوب الاستخارة مستدِلًّا بتشبيه ذلك بتعليم السُّورة من القرآن، كما استدلَّ بعضُهم على وجوب التّشهُّد في الصّلاة بقول ابن مسعود: "كان يعلِّمنا التّشهُّد كما يعلِّمنا السّورة من القرآن". فإن قال قائل: إنّما دلَّ على وجوب التّشهُّد الأمرُ في قوله: «فليقل: التّحيّات للّه» الحديث، قلنا: وهذا أيضًا فيه الأمر بقوله: «فليركع ركعتين ثمّ ليقل»، فإن قال: الأمرُ في هذا تعلَّق بالشَّرط، وهو قوله: «إذا همّ أحدكم بالأمر»، قلنا: إنّما يؤمَر به عند إرادة ذلك، لا مُطلَقًا؛ كما قال في التّشهُّد: «إذا صلَّى أحدكم فليقل: التّحيَّات»، قال: وممّا يدلُّ على عدم وجوب الاستخارة الأحاديثُ الصّحيحة الدّالَّة على انحصار فرض الصَّلاة في الخمس من قوله: هل عليَّ غيرُها؟ قال: «لا؛ إلّا أن تطوَّع»، وغير ذلك. انتهى. وفيه ما قدَّمنا لك في باب تحيَّة المسجد" [42] .
قال بدر الدين العينيُّ رحمه الله: "قَوْله: «فِي الْأُمُور كلهَا» يَعْنِي: فِي دَقِيق الْأُمُور وجَلِيلها؛ لِأَنَّهُ يجب على الْمُؤمن ردُّ الأمور كلِّها إلى الله عزَّ وجل، والتبرُّؤ من الْحَول وَالْقُوَّة إليه. قوله: كان النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، يعلِّمنا الاستخارة ويقول: «إِذا همَّ أحدُكم بِالْأَمر»؛ أي: إِذا قصد الْإِتْيَان بِفعل أَو ترك. قَوْله: «فَلْيقل» جَوَاب (إِذا)، المتضمِّن معنى الشَّرْط؛ فلذلك دخلت فيه الفاء. قَوْله: «أستخيرك»؛ أي: أطلب منك الْخِيرَة ملتبِّسًا بعلمك بخَيري وشرِّي، ويُحتمَل أَن يكون الباء للاستعانة أو للقَسَم. قوله: «وأستقدرُكَ»؛ أي: أطلب الْقُدْرَة منك أَن تجعلني قَادِرًا عليه، ويُقال: استَقدَرَ اللهَ خيرًا؛ أَي: سأله أن يَقدِر له به، وفيه لَفٌّ ونَشر غير مُرَتَّب. قَوْله: «فَإنَّك تقدر وَلَا أقدر» إِشارة إلى أن الْقُدْرَة لله وحده، وكذلك الْعلمُ له وحده. قوله: «إن كنت تعلم» إلى آخره، قيل: كلمة (إن) للشَّكِّ، ولا يجوز الشَّكُّ في كون اللهِ عالِمًا. وأُجيب بأن الشّكَّ في أن علمه متعلِّق بالخير أو الشّرِّ، لا في أصل العِلم. قوله: «في معاشي» زاد أبو داود في روايته (ومعادي)، والمراد بمعاشه حياته، وبمعاده آخرته. قوله: «أو قال» شكٌّ من الرّاوي، أو ترديد منه، والمراد بينهما يُحتمَل أن يكون العاجل والآجل مذكورينِ بدلَ الألفاظ الثّلاثة، وأن يكون بَدَلَ الأخيرين. قيل: كيف يخرج الدّاعي به عن عهدة التقصِّي حتّى يكون جازمًا بأنّه قال كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأجيب بأنّه يدعونه ثلاثَ مرَّات، يقول تارة: في ديني ومعاشي وعاقبة أمري، وأُخرى: في عاجلي وآجلي، وثالثة: في ديني وعاجلي وآجلي. قوله: «فاقدره لي» بضمِّ الدّال وكسرها؛ أي: اجعله مقدورًا لي، أو قدِّرْه لي، وقيل: معناه: يسِّرْه لي. قوله: «رضِّني»؛ أي: اجعلني راضيًا بذلك. قوله: «ويسمِّي»؛ أي: يعيِّن حاجته؛ مثل أن يقول: إن كنت تَعلَم أن هذا الأمر من السّفر أو التّزوُّج أو نحو ذلك" [43] .
قال الشوكانيُّ رحمه الله: "قوله: «فليركع ركعتين»: فيه أنَّ السُّنَّة في الاستخارة كونُها ركعتين، فلا تُجزئ الرّكعةُ الواحدة، وهل يجزئ في ذلك أن يصلِّيَ أربعًا أو أكثرَ بتسليمة، يُحتمَل أن يُقال: يُجزئ ذلك؛ لقوله في حديث أبي أيُّوب «ثمَّ صلِّ ما كَتَب اللَّه لك» فهو دالٌّ على أنّها لا تضرُّ الزّيادة على الرَّكعتين، ومفهومُ العدد في قوله: «فليركع ركعتين» ليس بحُجَّة على قول الجمهور. قوله: «من غير الفريضة» فيه أنَّه لا يحصل التّسنُّن بوقوع الدُّعاء بعد صلاة الفريضة، والسُّننِ الرّاتبة، وتحيَّةِ المسجد، وغير ذلك من النَّوافل. وقال النّوويُّ في "الأذكار": إنّه يحصل التَّسنُّن بذلك، وتُعُقِّب بأنّه صلى الله عليه وسلم إنّما أَمَره بذلك بعدَ حصول الهمِّ بالأمرِ، فإذا صلَّى راتبةً أو فريضةً، ثمَّ همَّ بأمرٍ بعد الصّلاة، أو في أثناء الصّلاة، لم يَحصُل بذلك الإتيان بالصّلاة المسنونة عند الاستخارة. قال العراقيُّ: إن كان همُّه بالأمر قبل الشّروع في الرَّاتبة ونحوها ثمَّ صلَّى من غير نيَّة الاستخارة، وبدا له بعد الصَّلاة الإتيان بدعاء الاستخارة، فالظّاهر حصول ذلك" [44] .
قال الشوكانيُّ رحمه الله: "قوله: «ثمّ ليَقُلْ» فيه أنّه لا يضرُّ تأخُّر دعاء الاستخارة عن الصَّلاة ما لم يَطُلِ الفصل، وأنّه لا يضرُّ الفصل بكلام آخَرَ يسير، خصوصًا إن كان من آداب الدُّعاء؛ لأنّه أتى بـ(ثمّ) المقتضية للتّراخي. قوله: «أستخيرك»؛ أي: أطلب منك الخَير أو الخِيَرة. قال صاحب المحكم: استخار اللّه: طلب منه الخير. وقال صاحب "النّهاية": خار اللّه لك؛ أي: أعطاك اللّه ما هو خيرٌ لك. قال: والخِيَرة بسكون الياء: الاسم منه. قال: فأمَّا بالفتح، فهي الاسم من قوله: اختاره اللَّه. قوله: «بعلمك»: الباء للتّعليل؛ أي: بأنَّك أعلمُ، وكذا قولُه: «بقدرتك». قولُه: «ومعاشي»: الْمَعاش والعِيشة واحدٌ، يُستعمَلان مصدرًا واسمًا، قال صاحب "الْمُحكَم": العَيش: الحياة، قال: والْمَعِيش والْمَعَاش والْمَعِيشة: ما يُؤنَس به. انتهى. قولُه: «أو قال: عاجل أمري» هو شكٌّ من الرّاوي. قولُه: «فاصرفه عنّي واصرفني عنه» هو طَلَبُ الأكملِ من وجوهِ انصراف ما ليس فيه خِيَرةٌ عنه، ولم يكتفِ بسؤال صرف أحد الأمرين؛ لأنّه قد يَصرِف اللَّهُ المستخير عن ذلك الأمر بأن يَنقطِع طلبُه له، وذلك الأمرُ الذي ليس فيه خِيَرة بطلبه؛ فربّما أدركه، وقد يَصرِف اللّه عن المستخير ذلك الأمر، ولا يَصرِف قلب العبد عنه؛ بل يبقى متطلِّعًا متشوِّقًا إلى حصوله، فلا يَطِيب له خاطر إلّا بحصوله، فلا يطمئنُّ خاطره، فإذا صُرِف كلٌّ منهما عن الآخَر، كان ذلك أكملَ؛ ولذلك قال: «واقدر لي الخير حيث كان ثمّ أرضني به»؛ لأنّه إذا قدَّر له الخير ولم يرضَ به، كان منكَّدَ العيش، آثمًا بعدم رضاه بما قدَّره اللّه له، مع كونه خيرًا له. قولُه: «ويسمِّي حاجته»؛ أي: في أثناء الدّعاء عند ذكرها بالكناية عنها في قوله: «إن كان هذا الأمر»" [45] .
قال ابن القيم رحمه الله: "فتضمَّن هذا الدعاءُ الإقرار بوجوده سبحانه، والإقرارَ بصفات كماله، من كمال العِلم والقُدرة والإرادة، والإقرارَ بربوبيَّته، وتفويضَ الأمر إليه، والاستعانةَ به، والتوكُّلَ عليه، والخروجَ من عُهدة نفسه، والتبرِّي من الحَول والقوَّة إلَّا به، واعتراف العبد بعجزه عن علمه بمصلحة نفسه، وقُدرته عليها، وإرادته لها، وأن ذلك كلَّه بيد وليِّه وفاطره وإلهه الحقِّ" [46] .
قال ابن عثيمين رحمه الله: "أما الاستخارة فهي مع الله - عزَّ وجلَّ - يستخير الإنسان ربَّه إذا همَّ بأمر وهو لا يدري عاقبتَه، ولا يدري مستقبَلَه، فعليه بالاستخارة، والاستخارةُ معناها طلب خَيْرِ الأمرينِ، وقد أرشد النبيُّ صلى الله عليه وسلم إلى ذلك بأن يصلِّيَ الإنسان ركعتين من غير الفريضة في غير وقت النهيِ، إلَّا في أمر يَخشى فَواتَه قبل خروج وقت النهيِ، فلا بأس أن يستخيرَ ولو في وقت النهيِ، أما ما كان فيه الأمر واسعًا، فلا يجوز أن يَستخير وقتَ النهيِ، فلا يستخير بعد صلاة العصر، وكذلك بعد الفجر حتى ترتفع الشمس مِقدارَ رُمح، وكذلك عند زوالها حتى تَزُول، لا يستخير إلا في أمر قد يفوت عليه، يصلِّي ركعتين من غير الفريضة ثم يسلِّم، وإذا سلَّم، قال: «اللهم إني أستخيرك بعلمك وأستقدرك بقدرتك...» الدعاء، وينتهي، ثم بعد ذلك إن انشرح صدره بأحد الأمرين، بالإقدام أو الإحجام، فهذا المطلوبُ، يَأخُذ بما يَنشرِح به صدره، فإن لم ينشرح صدره لشيء، وبَقِي متردِّدًا، أعاد الاستخارة مرَّةً ثانية وثالثة، ثم بعد ذلك المشورة، إذا لم يتبيَّن له شيء بعد الاستخارة، فإنه يُشاور أهل الرأي والصلاح، ثم ما أُشير عليه به فهو الخيرُ إن شاء الله؛ لأن الله تعالى قد لا يجعل في قلبه بالاستخارة ميلاً إلى شيء معيَّن؛ حتى يستشير، فيجعل اللهُ تعالى مَيْلَ قلبِه بعد المشورة، وقد اختلف العلماء: هل المقدَّم المشورة أو الاستخارة؟ والصحيحُ أن المقدَّم الاستخارة، فقدِّم أوَّلاً الاستخارة؛ لقول النبيِّ صلى الله عليه وسلم: «إذا همَّ أحدكم بالأمر، فليُصلِّ ركعتين...» إلى آخره، ثمَّ إذا كرَّرتَها ثلاثَ مرَّات، ولم يتبيَّن لك الأمر، فاستشِرْ، ثمَّ ما أُشير عليك به، فخُذْ به، وإنما قلنا: إنه يَستخير ثلاثَ مرَّات؛ لأن من عادة النبيِّ صلى الله عليه وسلم أنه إذا دعا، دعا ثلاثًا، والاستخارة دعاءٌ، وقد لا يتبيَّن للإنسان خيرُ الأمرين من أوَّل مرَّةٍ؛ بل قد يتبيَّن في أوَّل مرَّة، أو في الثانية، أو في الثالثة، وإذا لم يتبيَّن، فليَستشِرْ" [47] .
قال الشوكانيُّ رحمه الله: "والحديث يدلُّ على مشروعيّة صلاة الاستخارة، والدُّعاء عَقِيبها، ولا أعلم في ذلك خلافًا، وهل يُستحبُّ تَكرار الصّلاة والدُّعاء، قال العراقيُّ: الظّاهر الاستحبابُ. وقد ورد في حديث تَكرار الاستخارة سبعًا، رواه ابن السُّنِّيِّ من حديث أنس مرفوعًا بلفظ «إذا هممتَ بأمر، فاستخر ربَّك فيه سبع مرَّات، ثمّ انظر إلى الَّذي يسبق إلى قلبك فإنَّ الخير فيه. قال النّوويُّ في الأذكار: إسنادُه غريبٌ، فيه من لا أعرفهم. قال العراقيُّ: كلُّهم معروفون؛ ولكنَّ بعضهم معروفٌ بالضَّعف الشَّديد... فالحديث على هذا ساقط لا حجّة فيه. نعم، قد يُستدلُّ للتَّكرار بأنّ النّبيَّ صلى الله عليه وسلم «كان إذا دعا، دعا ثلاثًا» للحديث الصّحيح، وهذا وإن كان المرادُ به تَكرارَ الدّعاء في الوقت الواحد، فالدُّعاءُ الَّذي تُسنُّ الصّلاة له، تُكرَّر الصّلاة له؛ كالاستسقاء. قال النّوويُّ: ينبغي أن يفعل بعد الاستخارة ما يَنشرِح له. فلا ينبغي أن يعتمد على انشراح كان له فيه هوًى قبل الاستخارة؛ بل ينبغي للمستخير تركُ اختياره رأسًا، وإلَّا فلا يكون مستخيرًا للّه؛ بل يكون مستخيرًا لهواه، وقد يكون غيرَ صادق في طلب الخِيَرة وفي التّبرِّي من العِلم والقُدرة، وإثباتهما للّه تعالى، فإذا صَدَق في ذلك، تَبرَّأ من الحَول والقوَّة، ومن اختياره لنفسه" [48] .
قال ابن حجر رحمه الله: "قوله: (باب الدعاء عند الاستخارة) هي (اسْتِفْعَالٌ) من الخَير، أو من الخِيَرة، بكسر أوَّله وفتح ثانيه، بوزن العِنَبة، اسمٌ من قولك: خار اللهُ له. واستخار اللهَ: طلبَ منه الخِيَرة، وخار اللهُ له: أعطاه ما هو خيرٌ له، والمرادُ طَلَبُ خير الأمرين لمن احتاج إلى أحدهما" [37] .
قال ابن تيمية رحمه الله: "إذا عنَّ للإنسان جهةٌ، فليَسْتَخِرِ الله تعالى فيها الاستخارةَ المتلقَّاة عن معلِّم الخيرِ صلى الله عليه وسلم، فإن فيها من البَرَكة ما لا يُحاط به، ثم ما تيسَّر له، فلا يتكلَّف غيره إلَّا أن يكون منه كراهةٌ شرعية" [38] .
قال ابن بطَّال رحمه الله: "فِقْهُ هذا الحديث أنه يَجِبُ على المؤمن رَدُّ الأمور كلِّها إلى الله، وصَرْفُ أَزِمَّتها، والتبرُّؤ من الحَوْل والقوَّة إليه، وينبغي له أن لا يَرُوم شيئًا من دقيق الأمور وجَلِيلها، حتى يستخيرَ اللهَ فيه، ويَسألُه أن يَحمِلَه فيه على الخير، ويَصرِف عنه الشرَّ؛ إذعانًا بالافتقار إليه في كلِّ أمر، والتزامًا لذِلَّة العبودية له، وتبرُّكًا باتِّباع سُنَّة نبيِّه صلى الله عليه وسلم في الاستخارة؛ ولذلك كان النبيُّ صلى الله عليه وسلم يعلِّمهم هذا الدعاءَ كما يعلِّمهم السورة من القرآن؛ لشدَّة حاجتهم إلى الاستخارة في الحالات كلِّها؛ كشِدَّة حاجتهم إلى القراءة في كلِّ الصَّلَوات، وفى هذا الحديث حُجَّةٌ على القَدَرية الذين يزعمون أن الله تعالى لا يَخلُق الشرَّ، تعالى الله عَّما يَفتَرُون، وقد أبان النبيُّ صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث أن الله تعالى هو المالك للشرِّ، والخالقُ له؛ إذ هو الْمَدْعوُّ لصَرْفِه عن العبد، ومُحَال أن يسأله العبد أن يَصرِف عنه ما يَملِكه العبد من نفسه، وما يَقدِر على اختراعه دون تقدير الله عليه" [39] .
قال ابن عثيمين رحمه الله: "والاستخارة مع الله، والمشاورة مع أهل الرأي والصلاح، وذلك أن الإنسان عنده قصور أو تقصير، والإنسان خُلِق ضعيفًا، فقد تُشكِل عليه الأمور، وقد يتردَّد فيها، فماذا يصنع؟ لنفرض أنه همَّ بسفَر وتردَّد هل هو خير أم شر؟ أو همَّ أن يشتريَ سيَّارةً أو بيتًا، أو أن يُصاهر رجلاً يتزوَّج ابنته، أو ما أشبه ذلك؛ ولكنه متردِّد، فماذا يصنع؟ نقول: له طريقتان؛ الطريق الأول: استخارة ربِّ العالمين عزَّ وجلَّ الذي يعلم ما كان وما يكون وما لم يكن لو كان كيف يكون. الطريق الثاني: استشارة أهل الرأي والصلاح والأمانة" [40] .
قال الشوكانيُّ رحمه الله: "قوله: «في الأمور كلّها» دليلٌ على العموم، وأنّ المرء لا يَحتقِر أمرًا لصِغَره، وعدمِ الاهتمام به، فيَترُك الاستخارة فيه، فرُبَّ أمرٍ يستخفُّ بأمره، فيكون في الإقدام عليه ضررٌ عظيم، أو في تركه؛ ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: «ليسأل أحدكم ربَّه حتّى في شِسْعِ نَعله» [41] . قوله: «كما يعلِّمنا السُّورة من القرآن» فيه دليلٌ على الاهتمام بأمر الاستخارة، وأنّه متأكَّد مرغَّب فيه. قال العراقيُّ: ولم أَجِدْ مَن قال بوجوب الاستخارة مستدِلًّا بتشبيه ذلك بتعليم السُّورة من القرآن، كما استدلَّ بعضُهم على وجوب التّشهُّد في الصّلاة بقول ابن مسعود: "كان يعلِّمنا التّشهُّد كما يعلِّمنا السّورة من القرآن". فإن قال قائل: إنّما دلَّ على وجوب التّشهُّد الأمرُ في قوله: «فليقل: التّحيّات للّه» الحديث، قلنا: وهذا أيضًا فيه الأمر بقوله: «فليركع ركعتين ثمّ ليقل»، فإن قال: الأمرُ في هذا تعلَّق بالشَّرط، وهو قوله: «إذا همّ أحدكم بالأمر»، قلنا: إنّما يؤمَر به عند إرادة ذلك، لا مُطلَقًا؛ كما قال في التّشهُّد: «إذا صلَّى أحدكم فليقل: التّحيَّات»، قال: وممّا يدلُّ على عدم وجوب الاستخارة الأحاديثُ الصّحيحة الدّالَّة على انحصار فرض الصَّلاة في الخمس من قوله: هل عليَّ غيرُها؟ قال: «لا؛ إلّا أن تطوَّع»، وغير ذلك. انتهى. وفيه ما قدَّمنا لك في باب تحيَّة المسجد" [42] .
قال بدر الدين العينيُّ رحمه الله: "قَوْله: «فِي الْأُمُور كلهَا» يَعْنِي: فِي دَقِيق الْأُمُور وجَلِيلها؛ لِأَنَّهُ يجب على الْمُؤمن ردُّ الأمور كلِّها إلى الله عزَّ وجل، والتبرُّؤ من الْحَول وَالْقُوَّة إليه. قوله: كان النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، يعلِّمنا الاستخارة ويقول: «إِذا همَّ أحدُكم بِالْأَمر»؛ أي: إِذا قصد الْإِتْيَان بِفعل أَو ترك. قَوْله: «فَلْيقل» جَوَاب (إِذا)، المتضمِّن معنى الشَّرْط؛ فلذلك دخلت فيه الفاء. قَوْله: «أستخيرك»؛ أي: أطلب منك الْخِيرَة ملتبِّسًا بعلمك بخَيري وشرِّي، ويُحتمَل أَن يكون الباء للاستعانة أو للقَسَم. قوله: «وأستقدرُكَ»؛ أي: أطلب الْقُدْرَة منك أَن تجعلني قَادِرًا عليه، ويُقال: استَقدَرَ اللهَ خيرًا؛ أَي: سأله أن يَقدِر له به، وفيه لَفٌّ ونَشر غير مُرَتَّب. قَوْله: «فَإنَّك تقدر وَلَا أقدر» إِشارة إلى أن الْقُدْرَة لله وحده، وكذلك الْعلمُ له وحده. قوله: «إن كنت تعلم» إلى آخره، قيل: كلمة (إن) للشَّكِّ، ولا يجوز الشَّكُّ في كون اللهِ عالِمًا. وأُجيب بأن الشّكَّ في أن علمه متعلِّق بالخير أو الشّرِّ، لا في أصل العِلم. قوله: «في معاشي» زاد أبو داود في روايته (ومعادي)، والمراد بمعاشه حياته، وبمعاده آخرته. قوله: «أو قال» شكٌّ من الرّاوي، أو ترديد منه، والمراد بينهما يُحتمَل أن يكون العاجل والآجل مذكورينِ بدلَ الألفاظ الثّلاثة، وأن يكون بَدَلَ الأخيرين. قيل: كيف يخرج الدّاعي به عن عهدة التقصِّي حتّى يكون جازمًا بأنّه قال كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأجيب بأنّه يدعونه ثلاثَ مرَّات، يقول تارة: في ديني ومعاشي وعاقبة أمري، وأُخرى: في عاجلي وآجلي، وثالثة: في ديني وعاجلي وآجلي. قوله: «فاقدره لي» بضمِّ الدّال وكسرها؛ أي: اجعله مقدورًا لي، أو قدِّرْه لي، وقيل: معناه: يسِّرْه لي. قوله: «رضِّني»؛ أي: اجعلني راضيًا بذلك. قوله: «ويسمِّي»؛ أي: يعيِّن حاجته؛ مثل أن يقول: إن كنت تَعلَم أن هذا الأمر من السّفر أو التّزوُّج أو نحو ذلك" [43] .
قال الشوكانيُّ رحمه الله: "قوله: «فليركع ركعتين»: فيه أنَّ السُّنَّة في الاستخارة كونُها ركعتين، فلا تُجزئ الرّكعةُ الواحدة، وهل يجزئ في ذلك أن يصلِّيَ أربعًا أو أكثرَ بتسليمة، يُحتمَل أن يُقال: يُجزئ ذلك؛ لقوله في حديث أبي أيُّوب «ثمَّ صلِّ ما كَتَب اللَّه لك» فهو دالٌّ على أنّها لا تضرُّ الزّيادة على الرَّكعتين، ومفهومُ العدد في قوله: «فليركع ركعتين» ليس بحُجَّة على قول الجمهور. قوله: «من غير الفريضة» فيه أنَّه لا يحصل التّسنُّن بوقوع الدُّعاء بعد صلاة الفريضة، والسُّننِ الرّاتبة، وتحيَّةِ المسجد، وغير ذلك من النَّوافل. وقال النّوويُّ في "الأذكار": إنّه يحصل التَّسنُّن بذلك، وتُعُقِّب بأنّه صلى الله عليه وسلم إنّما أَمَره بذلك بعدَ حصول الهمِّ بالأمرِ، فإذا صلَّى راتبةً أو فريضةً، ثمَّ همَّ بأمرٍ بعد الصّلاة، أو في أثناء الصّلاة، لم يَحصُل بذلك الإتيان بالصّلاة المسنونة عند الاستخارة. قال العراقيُّ: إن كان همُّه بالأمر قبل الشّروع في الرَّاتبة ونحوها ثمَّ صلَّى من غير نيَّة الاستخارة، وبدا له بعد الصَّلاة الإتيان بدعاء الاستخارة، فالظّاهر حصول ذلك" [44] .
قال الشوكانيُّ رحمه الله: "قوله: «ثمّ ليَقُلْ» فيه أنّه لا يضرُّ تأخُّر دعاء الاستخارة عن الصَّلاة ما لم يَطُلِ الفصل، وأنّه لا يضرُّ الفصل بكلام آخَرَ يسير، خصوصًا إن كان من آداب الدُّعاء؛ لأنّه أتى بـ(ثمّ) المقتضية للتّراخي. قوله: «أستخيرك»؛ أي: أطلب منك الخَير أو الخِيَرة. قال صاحب المحكم: استخار اللّه: طلب منه الخير. وقال صاحب "النّهاية": خار اللّه لك؛ أي: أعطاك اللّه ما هو خيرٌ لك. قال: والخِيَرة بسكون الياء: الاسم منه. قال: فأمَّا بالفتح، فهي الاسم من قوله: اختاره اللَّه. قوله: «بعلمك»: الباء للتّعليل؛ أي: بأنَّك أعلمُ، وكذا قولُه: «بقدرتك». قولُه: «ومعاشي»: الْمَعاش والعِيشة واحدٌ، يُستعمَلان مصدرًا واسمًا، قال صاحب "الْمُحكَم": العَيش: الحياة، قال: والْمَعِيش والْمَعَاش والْمَعِيشة: ما يُؤنَس به. انتهى. قولُه: «أو قال: عاجل أمري» هو شكٌّ من الرّاوي. قولُه: «فاصرفه عنّي واصرفني عنه» هو طَلَبُ الأكملِ من وجوهِ انصراف ما ليس فيه خِيَرةٌ عنه، ولم يكتفِ بسؤال صرف أحد الأمرين؛ لأنّه قد يَصرِف اللَّهُ المستخير عن ذلك الأمر بأن يَنقطِع طلبُه له، وذلك الأمرُ الذي ليس فيه خِيَرة بطلبه؛ فربّما أدركه، وقد يَصرِف اللّه عن المستخير ذلك الأمر، ولا يَصرِف قلب العبد عنه؛ بل يبقى متطلِّعًا متشوِّقًا إلى حصوله، فلا يَطِيب له خاطر إلّا بحصوله، فلا يطمئنُّ خاطره، فإذا صُرِف كلٌّ منهما عن الآخَر، كان ذلك أكملَ؛ ولذلك قال: «واقدر لي الخير حيث كان ثمّ أرضني به»؛ لأنّه إذا قدَّر له الخير ولم يرضَ به، كان منكَّدَ العيش، آثمًا بعدم رضاه بما قدَّره اللّه له، مع كونه خيرًا له. قولُه: «ويسمِّي حاجته»؛ أي: في أثناء الدّعاء عند ذكرها بالكناية عنها في قوله: «إن كان هذا الأمر»" [45] .
قال ابن القيم رحمه الله: "فتضمَّن هذا الدعاءُ الإقرار بوجوده سبحانه، والإقرارَ بصفات كماله، من كمال العِلم والقُدرة والإرادة، والإقرارَ بربوبيَّته، وتفويضَ الأمر إليه، والاستعانةَ به، والتوكُّلَ عليه، والخروجَ من عُهدة نفسه، والتبرِّي من الحَول والقوَّة إلَّا به، واعتراف العبد بعجزه عن علمه بمصلحة نفسه، وقُدرته عليها، وإرادته لها، وأن ذلك كلَّه بيد وليِّه وفاطره وإلهه الحقِّ" [46] .
قال ابن عثيمين رحمه الله: "أما الاستخارة فهي مع الله - عزَّ وجلَّ - يستخير الإنسان ربَّه إذا همَّ بأمر وهو لا يدري عاقبتَه، ولا يدري مستقبَلَه، فعليه بالاستخارة، والاستخارةُ معناها طلب خَيْرِ الأمرينِ، وقد أرشد النبيُّ صلى الله عليه وسلم إلى ذلك بأن يصلِّيَ الإنسان ركعتين من غير الفريضة في غير وقت النهيِ، إلَّا في أمر يَخشى فَواتَه قبل خروج وقت النهيِ، فلا بأس أن يستخيرَ ولو في وقت النهيِ، أما ما كان فيه الأمر واسعًا، فلا يجوز أن يَستخير وقتَ النهيِ، فلا يستخير بعد صلاة العصر، وكذلك بعد الفجر حتى ترتفع الشمس مِقدارَ رُمح، وكذلك عند زوالها حتى تَزُول، لا يستخير إلا في أمر قد يفوت عليه، يصلِّي ركعتين من غير الفريضة ثم يسلِّم، وإذا سلَّم، قال: «اللهم إني أستخيرك بعلمك وأستقدرك بقدرتك...» الدعاء، وينتهي، ثم بعد ذلك إن انشرح صدره بأحد الأمرين، بالإقدام أو الإحجام، فهذا المطلوبُ، يَأخُذ بما يَنشرِح به صدره، فإن لم ينشرح صدره لشيء، وبَقِي متردِّدًا، أعاد الاستخارة مرَّةً ثانية وثالثة، ثم بعد ذلك المشورة، إذا لم يتبيَّن له شيء بعد الاستخارة، فإنه يُشاور أهل الرأي والصلاح، ثم ما أُشير عليه به فهو الخيرُ إن شاء الله؛ لأن الله تعالى قد لا يجعل في قلبه بالاستخارة ميلاً إلى شيء معيَّن؛ حتى يستشير، فيجعل اللهُ تعالى مَيْلَ قلبِه بعد المشورة، وقد اختلف العلماء: هل المقدَّم المشورة أو الاستخارة؟ والصحيحُ أن المقدَّم الاستخارة، فقدِّم أوَّلاً الاستخارة؛ لقول النبيِّ صلى الله عليه وسلم: «إذا همَّ أحدكم بالأمر، فليُصلِّ ركعتين...» إلى آخره، ثمَّ إذا كرَّرتَها ثلاثَ مرَّات، ولم يتبيَّن لك الأمر، فاستشِرْ، ثمَّ ما أُشير عليك به، فخُذْ به، وإنما قلنا: إنه يَستخير ثلاثَ مرَّات؛ لأن من عادة النبيِّ صلى الله عليه وسلم أنه إذا دعا، دعا ثلاثًا، والاستخارة دعاءٌ، وقد لا يتبيَّن للإنسان خيرُ الأمرين من أوَّل مرَّةٍ؛ بل قد يتبيَّن في أوَّل مرَّة، أو في الثانية، أو في الثالثة، وإذا لم يتبيَّن، فليَستشِرْ" [47] .
قال الشوكانيُّ رحمه الله: "والحديث يدلُّ على مشروعيّة صلاة الاستخارة، والدُّعاء عَقِيبها، ولا أعلم في ذلك خلافًا، وهل يُستحبُّ تَكرار الصّلاة والدُّعاء، قال العراقيُّ: الظّاهر الاستحبابُ. وقد ورد في حديث تَكرار الاستخارة سبعًا، رواه ابن السُّنِّيِّ من حديث أنس مرفوعًا بلفظ «إذا هممتَ بأمر، فاستخر ربَّك فيه سبع مرَّات، ثمّ انظر إلى الَّذي يسبق إلى قلبك فإنَّ الخير فيه. قال النّوويُّ في الأذكار: إسنادُه غريبٌ، فيه من لا أعرفهم. قال العراقيُّ: كلُّهم معروفون؛ ولكنَّ بعضهم معروفٌ بالضَّعف الشَّديد... فالحديث على هذا ساقط لا حجّة فيه. نعم، قد يُستدلُّ للتَّكرار بأنّ النّبيَّ صلى الله عليه وسلم «كان إذا دعا، دعا ثلاثًا» للحديث الصّحيح، وهذا وإن كان المرادُ به تَكرارَ الدّعاء في الوقت الواحد، فالدُّعاءُ الَّذي تُسنُّ الصّلاة له، تُكرَّر الصّلاة له؛ كالاستسقاء. قال النّوويُّ: ينبغي أن يفعل بعد الاستخارة ما يَنشرِح له. فلا ينبغي أن يعتمد على انشراح كان له فيه هوًى قبل الاستخارة؛ بل ينبغي للمستخير تركُ اختياره رأسًا، وإلَّا فلا يكون مستخيرًا للّه؛ بل يكون مستخيرًا لهواه، وقد يكون غيرَ صادق في طلب الخِيَرة وفي التّبرِّي من العِلم والقُدرة، وإثباتهما للّه تعالى، فإذا صَدَق في ذلك، تَبرَّأ من الحَول والقوَّة، ومن اختياره لنفسه" [48] .