الوحدة الثالثة: المستحَبَّات والمكروهات

رقم الحديث: 124

124 - عَنْ أَبِي ذَرٍّ – رضي الله عنه - أَنَّ نَاسًا مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالُوا لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: يَا رَسُولَ اللهِ، ذَهَبَ أَهْلُ الدُّثُورِ بِالْأُجُورِ، يُصَلُّونَ كَمَا نُصَلِّي، وَيَصُومُونَ كَمَا نَصُومُ، وَيَتَصَدَّقُونَ بِفُضُولِ أَمْوَالِهِمْ، قَالَ: «أَوَلَيْسَ قَدْ جَعَلَ اللهُ لَكُمْ مَا تَصَّدَّقُونَ؟ إِنَّ بِكُلِّ تَسْبِيحَةٍ صَدَقَةً، وَكُلِّ تَكْبِيرَةٍ صَدَقَةً، وَكُلِّ تَحْمِيدَةٍ صَدَقَةً، وَكُلِّ تَهْلِيلَةٍ صَدَقَةً، وَأَمْرٌ بِالْمَعْرُوفِ صَدَقَةٌ، وَنَهْيٌ عَنْ مُنْكَرٍ صَدَقَةٌ، وَفِي بُضْعِ أَحَدِكُمْ صَدَقَةٌ»، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ، أَيَأتِي أَحَدُنَا شَهْوَتَهُ وَيَكُونُ لَهُ فِيهَا أَجْرٌ؟ قَالَ: «أَرَأَيْتُمْ لَوْ وَضَعَهَا فِي حَرَامٍ، أَكَانَ عَلَيْهِ فِيهَا وِزْرٌ؟ فَكَذَلِكَ إِذَا وَضَعَهَا فِي الْحَلَالِ كَانَ لَهُ أَجْرٌ» [1] .

ترجمة راوي الحديث:
هو: جُنْدُبُ بنُ جُنادةَ، وقيل: بريرُ بنُ جُندبٍ، أبو ذُرٍّ الغِفاريُّ، الزاهد، الصادق، مِن كبار الصحابة وفضلائهم، كان يتعبَّد قبل مَبعث النبيِّ صلى الله عليه وسلم ثلاث سِنين يقوم من الليل مصلِّيًا، أسلم بمكةَ في أوَّل الدعوة، وهو رابعُ مَن دَخَلوا في الإسلام، قدِم على النبيِّ صلى الله عليه وسلم فصحِبه إلى أن مات، ثم خرج بعد وفاة أبى بكر رضي الله عنه إلى الشام، فلم يزَلْ بها حتى وَليَ عثمانُ رضي الله عنه، ثم استقدمه عثمانُ لشَكْوى معاويةَ به، وأسكنه الرَّبَذة، فمات بها، وصلَّى عليه عبدُ الله بنُ مسعود رضي الله عنه، تُوفِّي سنةَ (32هـ)
[2]
.
غريب الحديث:
«الدُّثور» الأموال الكثيرة، واحدُها (دَثْرٌ).
بُضْع: يُطلَق على الجِمَاع، وعلى الفَرْجِ نفسِه.
المعنى الإجماليُّ للحديث:
يروي أبو ذَرٍّ – رضي الله عنه -: (أَنَّ نَاسًا مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالُوا لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: يَا رَسُولَ اللهِ، ذَهَبَ أَهْلُ الدُّثُورِ بِالْأُجُورِ)؛ أي: استأثر أصحاب الأموال الأغنياء بالأجور، وأخذوها عنَّا. (يُصَلُّونَ كَمَا نُصَلِّي، وَيَصُومُونَ كَمَا نَصُومُ، وَيَتَصَدَّقُونَ بِفُضُولِ أَمْوَالِهِمْ)؛ أي: نحن وهم سواءٌ في الصلاة وفي الصيام؛ ولكنهم يَفضُلوننا بالتصدُّق بما أعطاهم الله تعالى من فضل المال، ونحن لا نَملِك المالَ، فلا نتصدَّق.
قال صلى الله عليه وسلم: «أَوَلَيْسَ قَدْ جَعَلَ اللهُ لَكُمْ مَا تَصَّدَّقُونَ؟ إِنَّ بِكُلِّ تَسْبِيحَةٍ صَدَقَةً، وَكُلِّ تَكْبِيرَةٍ صَدَقَةً، وَكُلِّ تَحْمِيدَةٍ صَدَقَةً، وَكُلِّ تَهْلِيلَةٍ صَدَقَةً، وَأَمْرٌ بِالْمَعْرُوفِ صَدَقَةٌ، وَنَهْيٌ عَنْ مُنْكَرٍ صَدَقَةٌ» أي: إذا فاتتكم الصدقة بالمال، فهناك الصَدَقة بالأعمال الصالحة؛ بالتسبيح والتكبير والتهليل، والأمر بالمعروف، والنهيِ عن المنكر. «وَفِي بُضْعِ أَحَدِكُمْ صَدَقَةٌ»؛ أي: في جِمَاع أحدِكم حَلِيلتَه صَدَقةٌ.
قَالُوا: (يَا رَسُولَ اللهِ، أَيَأتِي أَحَدُنَا شَهْوَتَهُ وَيَكُونُ لَهُ فِيهَا أَجْرٌ؟) وكأنَّهم تعجَّبوا أن يؤجروا على إتيان شهواتهم، فسألوا عن ذلك.
قال صلى الله عليه وسلم: «أَرَأَيْتُمْ لَوْ وَضَعَهَا فِي حَرَامٍ، أَكَانَ عَلَيْهِ فِيهَا وِزْرٌ؟ فَكَذَلِكَ إِذَا وَضَعَهَا فِي الْحَلَالِ كَانَ لَهُ أَجْرٌ»؛ أي: كما أنه يأثم بوَضْعِها في الحرام، سيُثاب على وضعها في الحلال إذا نوى قضاءَ حقِّ الزوجة، ومعاشرتها بالمعروف، أو طلب وَلَد صالح، أو إعفاف نفسه وزوجتِه، أو غير ذلك من المقاصد الصالحة.
الشرح المفصَّل للحديث:
لقد خَلَق الله تعالى الخَلْقَ متفاوتين في الحياة، ومما يتفاوتون فيه الأرزاقُ؛ فهناك الغنيُّ والفقيرُ وما بينهما، فعلى الغنيِّ الشُّكر، وعلى الفقير الصبر، وقد جَعَل الله تعالى الحياة للإنسان دارَ اختبار، ومَزرَعةً للآخرة، ومجالًا رَحْبًا للتنافس على طاعة الله، والتسابُق في ميادين الخير؛ قال تعالى: {وَسَارِعُواْ إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِين} [آل عمران: ١٣٣]، وقال تعالى: {خِتَامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُون} [المطففين: ٢٦].
ولقد كان التنافس في الخير هو همَّ الصحابة الأوَّل، وهدفَهم الأسمى، فشَمَّروا عن سَواعِد الجِدِّ، وانطلقوا مسارِعين إلى ربِّهم وجنَّة عرضُها السمواتُ والأرض، وقلوبُهم ملأى بالشَّوق إلى الجنَّة، ونفوسُهم تَتُوق إلى رؤية ربِّهم فيها.
لذا؛ كان الصَّحابةُ – رضوان الله عليهم - يَحزنون على ما يَتعذَّرُ عَليهم فِعلُه مِنَ الخَيرِ ممَّا يَقدِرُ عليهِ غَيرُهم؛ مثلما حَزِنَ الفُقراء على التَّخلُّف عنِ الخُروجِ في الجِهادِ؛ لِعدمِ القُدرةِ على آلتِه؛ كَما قالَ تَعالى: {وَلاَ عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لاَ أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّواْ وَّأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلاَّ يَجِدُواْ مَا يُنفِقُون} [التوبة: 92].
وحَزِنوا أنهم يستطيعون المنافَسةَ في ميادينِ الصلاة والصيام ونحوِها؛ ولكنهم خارجَ مَيْدانِ المنافسة في مَيدان الصَّدقة بالمال؛ حيث إنها مقصورةٌ على أغنياء المسلمين القادرين على الجُود بالمال، فحَزِنوا على فَوَات هذا الْمِضمار من مَضامير الخير، وكلَّما سَمِعوا آيةً أو حديثًا يَحُثُّ على التصدُّق، ويبيِّن فضل الصدقة، وما أَعَدَّ الله لأهلها، حزَّ ذلك في نفوسهم، فلَجَؤوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم شاكِين له، وقد روى هذا الموقفَ كثيرٌ من الصحابة، ولنقِفْ مع رواية أبي ذرٍّ الغفاريِّ – رضي الله عنه – لذلك الموقف العظيم.
(عَنْ أَبِي ذَرٍّ – رضي الله عنه - أَنَّ نَاسًا مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ َ صلى الله عليه وسلم قَالُوا لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: يَا رَسُولَ اللهِ، ذَهَبَ أَهْلُ الدُّثُورِ بِالْأُجُورِ)؛ يعني: اسْتَأْثَر أصحاب الأموال الكثيرة والغِنى بالأجور، وأخذوها عنَّا، " وفيه دليلٌ على أنّ الصّحابة - رضي اللّه عنهم - لشدَّة حرصهم على الأعمال الصالحة، وقوَّة رغبتهم في الخير؛ كانوا يحزنون على ما يتعذَّر عليهم فِعْلُه من الخير ممَّا يَقدِر عليه غيرُهم، فكان الفقراء يحزنون على فَوَاتِ الصَّدَقة بالأموال التي يَقدِر عليها الأغنياء، ويحزنون على التَّخلُّف عن الخروج في الجهاد؛ لعدم القُدرة على آلته، وقد أخبر اللّه عنهم بذلك في كتابه، فقال: {وَلاَ عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لاَ أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّواْ وَّأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلاَّ يَجِدُواْ مَا يُنفِقُون} [التوبة: 92]، وفي هذا الحديث: أنَّ الفقراء غَبَطوا أهلَ الدُّثُور - والدُّثُور: هي الأموال - ممَّا يَحصُل لهم من أجر الصَّدقة بأموالهم، فدَلَّهم النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم على صَدَقات يَقدِرون عليها"
[3]
.
قولهم: (يُصَلُّونَ كَمَا نُصَلِّي، وَيَصُومُونَ كَمَا نَصُومُ، وَيَتَصَدَّقُونَ بِفُضُولِ أَمْوَالِهِمْ)؛ أي: نحن وهم سواءٌ في الصلاة وفي الصيام؛ ولكنهم يَفضُلوننا بالتصدُّق بما أعطاهم الله تعالى من فضل المال، ونحن لا نَملِك المال، فلا نتصدَّق.
"فانظر إلى الهِمَم العالية من الصحابة - رضي الله عنهم - يَغبِطون إخوانهم بما أَنعَم الله عليهم من الأموال التي يتصدَّقون بها، وليسوا يقولون: عندهم فضولُ أموال؛ يَركَبون بها المراكبَ الفخمة، ويَسكُنون القُصور المشيَّدة، ويَلبَسون الثياب الجميلة؛ ذلك لأنهم قوم يريدون ما هو خيرٌ وأبقى، وهو الآخِرة؛ فهم اشتكَوْا إلى الرسول صلى الله عليه وسلم شكوى غِبطة، لا شَكْوى حَسَد، ولا اعْتِراض على الله - عزَّ وجلَّ - ولكن يَطلُبون فضلًا يتميَّزون به عمَّن أغناهم الله، فتصدَّقوا بفضول أموالهم"
[4]
.
فقال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: «أَوَلَيْسَ قَدْ جَعَلَ اللهُ لَكُمْ ما تَصَدَّقون به؟!»؛ يعني: إذا فاتتكم الصَّدَقة بالمال، فهناك الصَّدَقةُ بالأعمال الصالحة؛ «إِنَّ بِكُلِّ تَسْبِيحَةٍ صَدَقَةً، وَكُلِّ تَكْبِيرَةٍ صَدَقَةً، وَكُلِّ تَحْمِيدَةٍ صَدَقَةً، وَكُلِّ تَهْلِيلَةٍ صَدَقَةً، وَأَمْرٌ بِالْمَعْرُوفِ صَدَقَةٌ، وَنَهْيٌ عَنْ مُنْكَرٍ صَدَقَةٌ»؛ أي إن فقراء الصحابة ظنُّوا أن لا صدقةَ إلَّا صدقةُ المال، التي يَعجِزون عنها، فأخبرهم النبيُّ صلى الله عليه وسلم أن جميع أنواع فِعْل المعروف والإحسان صَدَقَةٌ؛ فالصدقة تُطلَق على جميع أنواع فعل المعروف والإحسان، وفي الصحيحين أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: «كُلُّ مَعْرُوفٍ صَدَقَةٌ»
[5]
، حتى إنَّ فضل اللَّه الواصلَ منه إلى عباده صَدَقَةٌ منه عليهم، وقد ورد ذلك في أحاديثَ كثيرةٍ عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم، منها قولُه في قَصْرِ الصلاة في السَّفَرِ: «صَدَقَةٌ تَصَدَّقَ اللَّهُ بِهَا عَلَيْكُمْ، فَاقْبَلُوا صَدَقَتَهُ» [6] ، وقوله: «مَا مِنَ امْرِئٍ تَكُونُ لَهُ صَلَاةٌ بِلَيْلٍ، فَغَلَبَهُ عَلَيْهَا نَوْمٌ، إِلَّا كُتِبَ لَهُ أَجْرُ صَلَاتِهِ، وَكَانَ نَوْمُهُ صَدَقَةً عَلَيْهِ» [7] ، وغيرها من الأحاديث.
وَقَالَ خَالِدُ بْنُ مَعْدَانَ: "إِن اللَّه يَتَصَدَّقُ كلَّ يوم بصدقة، وما تَصَدَّق اللَّهُ على أحد من خَلقه بشيء خَيْرٌ من أن يتصدَّق عليه بذِكره"
[8]
.
"والصَّدَقة بغير المال نوعان؛ أحدهما: ما فيه تَعْدِيةُ الإحسان إلى الخَلْق، فيكون صدقةً عليهم، وربّما كان أفضلَ من الصَّدقة بالمال، وهذا كالأمر بالمعروف، والنَّهي عن المنكر، فإنّه دعاءٌ إلى طاعة اللّه، وكفٌّ عن معاصيه، وذلك خيرٌ من النّفع بالمال، وكذلك تعليمُ العلم النّافع، وإقراءُ القرآن، وإزالةُ الأذى عن الطَّريق، والسَّعي في جلب النَّفع للنَّاس، ودفعُ الأذى عنهم، وكذلك الدَّعاءُ للمسلمين والاستغفار لهم"
[9]
.
"والنَّوع الثّاني من الصّدقة التي ليست ماليَّةً: ما نَفْعُه قاصرٌ على فاعله؛ كأنواع الذِّكر: من التّكبير، والتّسبيح، والتّحميد، والتّهليل، والاستغفار، وكذلك المشيُ إلى المساجد صَدَقةٌ، ولم يَذكُر في شيء من الأحاديث الصَّلاةَ والصِّيامَ والحجَّ والجهادَ أنّه صدقةٌ، وأكثرُ هذه الأعمالِ أفضلُ من الصَّدقات الماليَّة؛ لأنّه إنّما ذُكِر جوابًا لسؤال الفقراء الذين سألوه عمَّا يُقاومُ تطوُّعَ الأغنياء بأموالهم، وأمَّا الفرائضُ، فإنَّهم قد كانوا كلُّهم مشتركين فيها"
[10]
.
وقد تَكاثَرت النُّصوص بتفضيل الذِّكْر على الصَّدَقة بالمال وغيرِها من الأعمال؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أَلَا أُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرِ أَعْمَالِكُمْ وَأَزْكَاهَا عِنْدَ مَلِيكِكُمْ، وَأَرْفَعِهَا فِي دَرَجَاتِكُمْ، وَخَيْرٍ لَكُمْ مِنْ إِنْفَاقِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ، وَخَيْرٍ لَكُمْ مِنْ أَنْ تَلْقَوْا عَدُوَّكُمْ، فَتَضْرِبُوا أَعْنَاقَهُمْ، وَيَضْرِبُوا أَعْنَاقَكُمْ؟» قَالُوا: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: «ذِكْرُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ»
[11]
.
وقال صلى الله عليه وسلم: «مَنْ قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، لَهُ الْمُلْكُ، وَلَهُ الْحَمْدُ، وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، فِي يَوْمٍ مِائَةَ مَرَّةٍ، كَانَتْ لَهُ عَدْلَ عَشْرِ رِقَابٍ، وَكُتِبَتْ لَهُ مِائَةُ حَسَنَةٍ، وَمُحِيَتْ عَنْهُ مِائَةُ سَيِّئَةٍ، وَكَانَتْ لَهُ حِرْزًا مِنَ الشَّيْطَانِ يَوْمَهُ ذَلِكَ حَتَّى يُمْسِيَ، وَلَمْ يَأْتِ أَحَدٌ بِأَفْضَلَ مِمَّا جَاءَ بِهِ إِلَّا أَحَدٌ عَمِلَ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ»
[12]
.
و"يَحتمِل تَسْمِيَتَها صدقةً أنَّ لها أجرًا كما للصَّدقة أجرٌ، وأنّ هذه الطّاعاتِ تُماثِل الصّدقاتِ في الأجور، وسمَّاها صدقةً على طريق المقابَلة، وتَجنِيس الكلام، وقيل: معناه أنّها صدقةٌ على نفسه"
[13]
.
قوله صلى الله عليه وسلم: «وَأَمْرٌ بِالْمَعْرُوفِ صَدَقَةٌ، وَنَهْيٌ عَنْ مُنْكَرٍ صَدَقَةٌ»؛ فالأمر بالمعروف، والنهيُ عن المنكَر، من أفضل الصدقات؛ لأنَّ به فُضِّلت هذه الأمَّة على العالَمين؛ قال تعالى: {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} [آل عمران: 110].
"قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم: «وَأَمْرٌ بِالْمَعْرُوفِ صَدَقَةٌ، وَنَهْيٌ عَنْ مُنْكَرٍ صَدَقَةٌ» فيه إشارةٌ إلى ثُبوت حُكم الصَّدقة في كلِّ فَرد من أفراد الأمر بالمعروف والنَّهي عن المنكَر؛ ولهذا نَكَّره، والثَّوابُ في الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر أكثرُ منه في التّسبيح والتّحميد والتّهليل؛ لأنّ الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر فرضُ كِفَايةٍ، وقد يتعيَّن، ولا يُتصوَّر وقوعُه نفلًا، والتّسبيحُ والتّحميد والتّهليل نوافلُ، ومعلومٌ أنّ أجرَ الفرض أكثرُ من أجر النَّفل؛ لقوله عزَّ وجلَّ: «وَمَا تَقَرَّبَ إِلَيَّ عَبْدِي بِشَيْءٍ أَحَبَّ إِلَيَّ مِنْ أَدَاءِ مَا افْتَرَضْتُ عَلَيْهِ»
[14]
" [15] .
قوله صلى الله عليه وسلم: «وَفِي بُضْعِ أَحَدِكُمْ صَدَقَةٌ»؛ أي: في جِمَاع أحدِكم حَلِيلتَه صدقةٌ، والبُضْعُ "يُطلَق على الجِمَاع، ويُطلَق على الفَرْجِ نفسِه، وكلاهما تصِحُّ إرادته هنا، وفي هذا دليلٌ على أنَّ المباحاتِ تَصِير طاعاتٍ بالنِّيَّات الصَّادقات؛ فالجماعُ يكون عبادةً إذا نوى به قضاء حقِّ الزَّوجة ومُعاشَرتها بالمعروف الذي أَمَر اللّه تعالى به، أو طَلَبَ ولدٍ صالح، أو إعفافَ نفسِه، أو إعفاف الزَّوجة، ومَنْعَهما جميعًا من النّظر إلى حرام، أو الفِكْرِ فيه، أو الهمِّ به، أو غيرِ ذلك من المقاصد الصَّالحة"
[16]
.
قَالُوا: (يَا رَسُولَ اللهِ، أَيَأتِي أَحَدُنَا شَهْوَتَهُ وَيَكُونُ لَهُ فِيهَا أَجْرٌ؟) وكأنهم تعجَّبوا أن يؤجروا على إتيان شهواتهم، فسألوا عن ذلك.
قال صلى الله عليه وسلم: «أَرَأَيْتُمْ لَوْ وَضَعَهَا فِي حَرَامٍ، أَكَانَ عَلَيْهِ فِيهَا وِزْرٌ؟ فَكَذَلِكَ إِذَا وَضَعَهَا فِي الْحَلَالِ كَانَ لَهُ أَجْرٌ»؛ أي: كما أنه يأثم بوضعها في الحرام، سيُثاب على وضعها في الحلال إذا نوى نيَّة صالحة، "ومعنى ذلك: أن الرجل إذا استغنى بالحلال عن الحرام، كان له بهذا الاستغناء أجر"
[17]

"وفي هذا الحديث فَضِيلةُ التَّسبيح، وسائرِ الأذكار، والأمرِ بالمعروف والنَّهي عن المنكَر، وإحضارُ النّيَّة في المباحات، وذِكْرُ العالِم دليلًا لبعض المسائل التي تخفى، وتنبيهُ الْمُفتي على مختصَر الأدلَّة، وجَوَازُ سؤال المستفتي عن بعض ما يَخفى من الدَّليل إذا عَلِم من حال المسؤول أنّه لا يَكرَه ذلك، ولم يَكن فيه سُوءُ أَدَبٍ"
[18]
.
وعن أبي صالح، عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أَنَّ فُقَرَاءَ الْمُهَاجِرِينَ أَتَوُا النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالُوا: ذَهَبَ أَهْلُ الدُّثُورِ بِالدَّرَجَاتِ الْعُلَى وَالنَّعِيمِ الْمُقِيمِ، فَقَالَ: «وَمَا ذَاكَ؟»، قَالُوا: يُصَلُّونَ كَمَا نُصَلِّي، وَيَصُومُونَ كَمَا نَصُومُ، وَيَتَصَدَّقُونَ وَلَا نَتَصَدَّقُ، وَيَعْتِقُونَ وَلَا نَعْتِقُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «أَفَلَا أُعَلِّمُكُمْ شَيْئًا تُدْرِكُونَ بِهِ مَنْ قَدْ سَبَقَكُمْ، وَتَسْبِقُونَ بِهِ مَنْ بَعْدَكُمْ، وَلَا يَكُونُ أَحَدٌ أَفْضَلَ مِنْكُمْ إِلَّا مَنْ صَنَعَ مِثْلَ مَا صَنَعْتُمْ؟»، قَالُوا: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: «تُسَبِّحُونَ وَتُكَبِّرُونَ وَتَحْمَدُونَ دُبُرَ كُلِّ صَلَاةٍ ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ مَرَّةً»، قَالَ أَبُو صَالِحٍ: فَرَجَعَ فُقَرَاءُ الْمُهَاجِرِينَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالُوا: سَمِعَ إِخْوَانُنَا أَهْلُ الْأَمْوَالِ بِمَا فَعَلْنَا فَفَعَلُوا مِثْلَهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ»"
[19]
.
الفوائد العلمية:
1. جَعَل الله تعالى الحياة للإنسان دارَ اختبار، ومن ذلك أنه خلقهم متفاوتين في أرزاقهم؛ فهناك الغنيُّ والفقيرُ وما بينهما، فعلى الغنيِّ الشُّكر، وعلى الفقير الصبر، ودعاهم جميعًا إلى التنافس في طاعته، والتسابُق في ميادين الخير؛ قال تعالى: {وَسَارِعُواْ إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِين} [آل عمران: ١٣٣]، وقال تعالى: {خِتَامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُون} [المطففين: ٢٦].
2. في الحديث بيان ما كان عليه الصحابة من التنافس في الخير، فكان هو همَّهم الأوَّل، وهدفَهم الأسمى، فشَمَّروا عن سَواعِد الجِدِّ، وانطلقوا مسارِعين إلى ربِّهم وجنَّة عرضُها السمواتُ والأرض، وقلوبُهم ملأى بالشَّوق إلى الجنَّة، ونفوسُهم تَتُوق إلى رؤية ربِّهم فيها.
3. في الحديث بيان أن الصَّحابةَ – رضوان الله عليهم – كانوا يَحزنون على ما يَتعذَّرُ عَليهم فِعلُه مِنَ الخَيرِ ممَّا يَقدِرُ عليهِ غَيرُهم؛ مثلما حَزِنَ الفُقراء على التَّخلُّف عنِ الخُروجِ في الجِهادِ؛ لِعدمِ القُدرةِ على آلتِه؛ كَما قالَ تَعالى: {وَلاَ عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لاَ أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّواْ وَّأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلاَّ يَجِدُواْ مَا يُنفِقُون} [التوبة: 92].
4. الصدقة في الحديث يَحتمِل تَسْمِيَتَها صدقةً أنَّ لها أجرًا كما للصَّدقة أجرٌ، وأنّ هذه الطّاعاتِ تُماثِل الصّدقاتِ في الأجور، وسمَّاها صدقةً على طريق المقابَلة، وتَجنِيس الكلام، وقيل: معناه أنّها صدقةٌ على نفسه
[20]
.
5. يُطلَق على فَضْلِ اللَّهِ الْوَاصِل منه إلى عباده صَدَقَةٌ منه عليهم، وقد ورد ذلك في أحاديثَ كثيرةٍ عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم، منها قولُه فِي قَصْرِ الصلاة في السَّفَر: «صَدَقَةٌ تَصَدَّقَ اللَّهُ بِهَا عَلَيْكُمْ، فَاقْبَلُوا صَدَقَتَهُ»
[21]
، وقوله: «مَا مِنَ امْرِئٍ تَكُونُ لَهُ صَلَاةٌ بِلَيْلٍ، فَغَلَبَهُ عَلَيْهَا نَوْمٌ، إِلَّا كُتِبَ لَهُ أَجْرُ صَلَاتِهِ، وَكَانَ نَوْمُهُ صَدَقَةً عَلَيْهِ» [22] ، وغيرها من الأحاديث.
6. لَمْ يَذْكُرِ النبيُّ صلى الله عليه وسلم في شيء من الأحاديث الصَّلاةَ والصِّيامَ والحجَّ والجهادَ أنّه صدقةٌ، وأكثرُ هذه الأعمالِ أفضلُ من الصَّدقات الماليَّة؛ لأنّه إنّما ذُكِر جوابًا لسؤال الفقراء الذين سألوه عمَّا يُقاومُ تطوُّعَ الأغنياء بأموالهم، وأمَّا الفرائضُ، فإنَّهم قد كانوا كلُّهم مشتركين فيها
[23]
.
7. لقد تَكَاثرت النُّصوصُ بتفضيل الذِّكْر على الصَّدقة بالمال وغَيْرِها من الأعمال؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أَلَا أُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرِ أَعْمَالِكُمْ وَأَزْكَاهَا عِنْدَ مَلِيكِكُمْ، وَأَرْفَعِهَا فِي دَرَجَاتِكُمْ، وَخَيْرٍ لَكُمْ مِنْ إِنْفَاقِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ، وَخَيْرٍ لَكُمْ مِنْ أَنْ تَلْقَوْا عَدُوَّكُمْ، فَتَضْرِبُوا أَعْنَاقَهُمْ، وَيَضْرِبُوا أَعْنَاقَكُمْ؟» قَالُوا: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: «ذِكْرُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ»
[24]
.
8. الأمر بالمعروف، والنهيُ عن المنكَر، من أفضل الصدقات؛ لأنَّ به فُضِّلت هذه الأمَّة على العالَمين؛ قال تعالى: {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} [آل عمران: 110].
9. قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم: «وَأَمْرٌ بِالْمَعْرُوفِ صَدَقَةٌ، وَنَهْيٌ عَنْ مُنْكَرٍ صَدَقَةٌ» فيه إِشارةٌ إلى ثُبُوت حُكم الصدقة في كُلِّ أمر مِمَّا يُؤمَر فيه بالمعروف وَيُنهى فيه عن المنكر؛ ولهذا نَكَّرَهُ
[25]
.
الفوائد العقدية:
1. التسبيحُ هو تنزيهُ الله عن النقائص والعيوب والآفات؛ فمعنى (سبحانَ الله)؛ أي: أُنزِّه الله - عزَّ وجلَّ - عن كل نَقْصٍ وعَيب.
2. التحميد: هو الثناءُ على الله - عزَّ وجلَّ - بكلِّ جَميل.
الفوائد الفقهية:
1. الصدقةُ تُطلَق على جميع أنواع فعل المعروف والإحسان؛ قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: «كُلُّ مَعْرُوفٍ صَدَقَةٌ»
[26]
.
2. الصَّدَقَةُ بغير المال نوعان؛ أحدهما: ما فيه تَعْدِيةُ الإحسان إلى الخَلْق، فيكون صدقةً عليهم، وربّما كان أفضلَ من الصَّدقة بالمال، وهذا كالأمر بالمعروف، والنَّهي عن المنكر، فإنّه دعاءٌ إلى طاعة اللّه، وكفٌّ عن معاصيه، وذلك خيرٌ من النّفع بالمال، وكذلك تعليمُ العلم النّافع، وإقراءُ القرآن، وإزالةُ الأذى عن الطَّريق، والسَّعي في جلب النَّفع للنَّاس، ودفعُ الأذى عنهم، وكذلك الدَّعاءُ للمسلمين والاستغفار لهم. النَّوْعُ الثّاني من الصّدقة التي ليست ماليَّةً: ما نَفْعُه قاصرٌ على فاعله؛ كأنواع الذِّكر: من التّكبير، والتّسبيح، والتّحميد، والتّهليل، والاستغفار، وكذلك المشيُ إلى المساجد صَدَقةٌ
[27]
.
3. "الثَّوابُ في الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر أكثرُ منه في التّسبيح والتّحميد والتّهليل؛ لأنّ الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر فرضُ كِفَايةٍ، وقد يتعيَّن، ولا يُتصوَّر وقوعُه نفلًا، والتّسبيحُ والتّحميد والتّهليل نوافلُ، ومعلومٌ أنّ أجرَ الفرض أكثرُ من أجر النَّفل؛ لقوله عزَّ وجلَّ: «وَمَا تَقَرَّبَ إِلَيَّ عَبْدِي بِشَيْءٍ أَحَبَّ إِلَيَّ مِنْ أَدَاءِ مَا افْتَرَضْتُ عَلَيْهِ»
[28]
" [29] .
4. قوله: «وَفِي بُضْعِ أَحَدِكُمْ صَدَقَةٌ»: فيه دليلٌ على أنَّ المباحاتِ تَصِير طاعاتٍ بالنِّيَّات الصَّادقات؛ فالجماعُ يكون عبادةً إذا نوى به قضاء حقِّ الزَّوجة ومُعاشَرتها بالمعروف الذي أَمَر اللّه تعالى به، أو طَلَبَ ولدٍ صالح، أو إعفافَ نفسِه، أو إعفاف الزَّوجة، ومَنْعَهما جميعًا من النّظر إلى حرام، أو الفِكْرِ فيه، أو الهمِّ به، أو غيرِ ذلك من المقاصد الصَّالحة
[30]
.
5. قَوْلُهُ: قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَيَأْتِي أَحَدُنَا شَهْوَتَهُ وَيَكُونُ لَهُ فِيهَا أَجْرٌ؟ قَالَ: «أَرَأَيْتُمْ لَوْ وَضَعَهَا فِي حَرَام، أَكَانَ عَلَيْهِ فِيهَا وِزْرٌ؟ فَكَذَلِكَ إِذَا وَضَعَهَا فِي الْحَلَالِ كَانَ لَهُ أَجْرٌ»: فيه جَوَازُ الْقِيَاس، وهو مَذْهَبُ العلماء كَافَّةً، وَلَمْ يُخَالِفْ فيه إِلَّا أَهْلُ الظَّاهر
[31]
.
6. المنقولُ عن التابعين ونَحْوِهم من ذَمِّ القياس، ليس الْمُرادُ به القياسَ الذي يَعتمِده الفُقهاءُ المجتهدون
[32]
.
7. القياسُ المذكور في هذا الحديث هو من قياس العَكس، واختلف الأصولِيُّون في العمل به، وهذا الحديثُ دليلٌ لِمَن عَمِلَ به، وهو الأَصَحُّ
[33]
.
8. في الحديث تنبيهٌ على ما يسمِّيه الفقهاءُ "قياس العكس"، وهو إثباتُ نَقْصِ حُكم الأصل في ضِدِّ الأصل؛ لمفارقة العِلَّة؛ فهنا العِلَّة في كَون الإنسان يؤجَر إذا أتى أهله، هو أنه وَضَع شهوتَه في حلال، نَقِيضُ هذه العلَّة: إذا وَضَعَ شهوته في حرام، فإنه يُعاقَب على ذلك، وهذا هو ما يسمَّى عند العلماء بقياس العكس
[34]
.
9. القياس أنواعٌ، منه: قياسُ عِلَّة، وقياس دلالة، وقياس شَبَه، وقِياس عَكْسٍ
[35]
.
الفوائد التربوية:
1. في هذا الحديث فَضِيلةُ التَّسبيح، وسائرِ الأذكار، والأمرِ بالمعروف والنَّهي عن المنكَر، وإحضارُ النّيَّة في المباحات، وذِكْرُ العالِم دليلًا لبعض المسائل التي تخفى، وتنبيهُ الْمُفتي على مختصَر الأدلَّة، وجَوَازُ سؤال المستفتي عن بعض ما يَخفى من الدَّليل إذا عَلِم من حال المسؤول أنّه لا يَكرَه ذلك، ولم يَكن فيه سُوءُ أَدَبٍ
[36]
.
2. انظر إلى الهِمَم العالية من الصحابة - رضي الله عنهم - يَغبِطون إخوانهم بما أَنعَم الله عليهم من الأموال التي يتصدَّقون بها، وليسوا يقولون: عندهم فضولُ أموال؛ يَركَبون بها المراكبَ الفخمة، ويَسكُنون القُصور المشيَّدة، ويَلبَسون الثياب الجميلة؛ ذلك لأنهم قوم يريدون ما هو خيرٌ وأبقى، وهو الآخِرة؛ فهم اشتكَوْا إلى الرسول صلى الله عليه وسلم شكوى غِبطة، لا شَكْوى حَسَد، ولا اعْتِراض على الله - عزَّ وجلَّ - ولكن يَطلُبون فضلًا يتميَّزون به عمَّن أغناهم الله، فتصدَّقوا بفضول أموالهم
[37]
.
من هدايات الحديث:
الذِّكْرُ لَذَّةُ قلوب العارفين؛ قال اللَّه - عزَّ وجلَّ -: ﴿الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ﴾ [الرعد: 28].
2. قال رجل: يا رسولَ الله، إنَّ شرائعَ الإسلامِ قد كثُرت عليَّ، فأخبِرني بشيءٍ أتشبَّثُ به، قال: «لا يَزَالُ لسانُكَ رَطْبًا مِنْ ذِكْرِ اللهِ»
[39]
.
3. الذكر عبادةٌ سهلةٌ يسيرة، لا تحتاج إلى تهيئة كحاجة الصلاة للتهيئة بالوضوء، ولا تحتاج إلى هيئة معيَّنة مثل حركات الصلاة، فالذكر يكون على كلِّ حال، قيامًا أو قعودًا أو على جَنْب؛ كما في قوله تعالى: ﴿إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ * الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَىٰ جُنُوبِهِمْ﴾ [آل عمران: 190، 191].
4. ما تَلَذَّذَ المتلَذِّذون بِمِثْلِ ذكرِ الله - عزَّ وجلَّ - فليس شيءٌ من الأعمال أخفَّ مُؤنةً منه، ولا أعظمَ لذَّةً ولا أكثرَ فرحةً وابتهاجًا للقلب
[40]
.
5. قَالَ خَالِدُ بْنُ مَعْدَانَ: "إِن اللَّه يتصدَّق كلَّ يوم بصدقة، وما تَصدَّق اللَّهُ على أحد من خَلقه بشيء خَيْرٌ من أن يتصدَّق عليه بذِكره"
[41]
.
6. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أَلَا أُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرِ أَعْمَالِكُمْ وَأَزْكَاهَا عِنْدَ مَلِيكِكُمْ، وَأَرْفَعِهَا فِي دَرَجَاتِكُمْ، وَخَيْرٍ لَكُمْ مِنْ إِنْفَاقِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ، وَخَيْرٍ لَكُمْ مِنْ أَنْ تَلْقَوْا عَدُوَّكُمْ، فَتَضْرِبُوا أَعْنَاقَهُمْ، وَيَضْرِبُوا أَعْنَاقَكُمْ؟» قَالُوا: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: «ذِكْرُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ»
[42]
.
7. قال صلى الله عليه وسلم: «مَنْ قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، لَهُ الْمُلْكُ، وَلَهُ الْحَمْدُ، وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، فِي يَوْمٍ مِائَةَ مَرَّةٍ، كَانَتْ لَهُ عَدْلَ عَشْرِ رِقَابٍ، وَكُتِبَتْ لَهُ مِائَةُ حَسَنَةٍ، وَمُحِيَتْ عَنْهُ مِائَةُ سَيِّئَةٍ، وَكَانَتْ لَهُ حِرْزًا مِنَ الشَّيْطَانِ يَوْمَهُ ذَلِكَ حَتَّى يُمْسِيَ، وَلَمْ يَأْتِ أَحَدٌ بِأَفْضَلَ مِمَّا جَاءَ بِهِ إِلَّا أَحَدٌ عَمِلَ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ»
[43]
.
8. استثمِرِ الخَيْرَ في دُنياكَ واجتهِدِ = ولا تُبَالِ بداعي الشرِّ والحسَدِ
واعْمَلْ ليومٍ جميعُ الناس تَرقُبُه = فيه القضاءُ قضاءُ الواحدِ الأحدِ
أفعالُكَ اليومَ تحكي أيَّ منزلةٍ = رَوْضُ الجنانِ أمِ النيرانُ في اللَّحَدِ
9. لكَ الحمدُ حمدًا نستلِذُّ به ذِكْرَا = وإن كنتُ لا أُحصي ثَنَاءً ولا شُكرا
لكَ الحمدُ حمدًا طَيِّبًا يملأُ السَّمَا = وأقطارَها والأرضَ والبرَّ والبَحْرا
10. يا مَنْ تـَصَدَّقَ مالُ اللهِ تـَبْذلـُهُ = في أوجُـهِ الخير ِما لِلمال نـُقصانُ
كـَمْ ضاعَفَ اللهُ مالًا جادَ صاحِبُهُ = إنَّ السَّخاءَ بـِحُـكـْم ِاللهِ رضــوانُ
الشُّـحُّ يُـفـْضي لِسُقمٍ لا دَواءَ لـَهُ = مالُ البَخيل ِغـَدا إرْثـًا لِمَنْ عانوا
إنَّ التـَصَدُّقَ إسعادٌ لِمَنْ حُـرِموا = أهلُ السَّخاءِ إذا ما احْتـَجْتَهُمْ بـانوا
11. فذِكرُ إلَهِ العرشِ سرًّا ومُعْلِنًا = يُزِيلُ الشَّقَا والهَمَّ عَنْكَ ويَطْرُدُ
ويَجْلِبُ للخَيراتِ دنيا وآجِلًا = وإنْ يأتِكَ الوَسْوَاسُ يومًا يُشَرَّدُ
12. عَلَيْكَ بذِكْرِ اللهِ يا طالبَ الأَجْرِ = وَيا راغِبًا في الخَيْرِ والفَضْلِ والبِرِّ
عليكَ بِهِ تُعطى الرغائبَ كلَّها = وتُكفى به كلَّ الْمُهِمَّات والضُّرِّ
فمَنْ يَذْكُرِ الرحمنَ فهْوَ جَلِيسُهُ = ومَنْ يَذْكُرِ اللهَ يُكافِئْهُ بالذِّكْرِ
ومَنْ يَعْشُ عن ذِكْرِ الإلهِ فإنه = قَرِينٌ له الشَّيْطَانُ في داخِلِ الصَّدْرِ
ومَن يَنْسَ مَوْلاهُ الكَرِيمَ فَرَبُّهُ = له ناسيًا، أَعْظِمْ بذلك من خُسْرِ!
له استحوَذَ الشَّيْطَانُ نسَّاهُ ذِكْرَ مَنْ = تفضَّلَ بالإيجادِ في أوَّلِ الأمرِ
النقول:
قال ابن عثيمين رحمه الله: "قال المؤلِّف - رحمه الله تعالى - فيما نقله عن أبي ذرٍّ -ـ رضي الله عنه - أن ناسًا قالوا: يا رسول الله، ذَهَب أهلُ الدُّثور بالأجور؛ يعني: استأثروا بالأجور وأخذوها عنا، وأهلُ الدُّثور: يعني أهلَ الأموال؛ يصلُّون كما نصلِّي، ويصومون كما نصوم، ويتصدَّقون بفُضول أموالهم؛ يعني: فنحن وهم سواءٌ في الصلاة وفي الصيام؛ ولكنهم يَفضُلوننا بالتصدُّق بفضول أموالهم؛ أي: بما أعطاهم الله تعالى من فضل المال؛ يعني: ولا نتصدَّق... فانظر إلى الهِمَم العالية من الصحابة - رضي الله عنهم - يَغبِطون إخوانهم بما أَنعَم الله عليهم من الأموال التي يتصدَّقون بها ويُعتِقون منها، وليسوا يقولون: عندهم فضولُ أموال؛ يَركَبون بها المراكبَ الفخمة، ويَسكُنون القُصور المشيَّدة، ويَلبَسون الثياب الجميلة؛ ذلك لأنهم قوم يريدون ما هو خيرٌ وأبقى، وهو الآخِرة... فهم اشتكوا إلى الرسول صلى الله عليه وسلم شكوى غِبطة، لا شَكْوى حَسَد، ولا اعْتِراض على الله - عزَّ وجلَّ - ولكن يَطلُبون فضلًا يتميَّزون به عمَّن أغناهم الله، فتصدَّقوا بفضول أموالهم، فقال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: «أَوَلَيْسَ قَدْ جَعَلَ اللهُ لَكُمْ ما تَصَدَّقون به؟!»؛ يعني: إذا فاتتكم الصَّدَقة بالمال، فهناك الصَّدَقةُ بالأعمال الصالحة؛ «إِنَّ بِكُلِّ تَسْبِيحَةٍ صَدَقَةً، وَكُلِّ تَكْبِيرَةٍ صَدَقَةً، وَكُلِّ تَحْمِيدَةٍ صَدَقَةً، وَكُلِّ تَهْلِيلَةٍ صَدَقَةً، وَأَمْرٌ بِالْمَعْرُوفِ صَدَقَةٌ، وَنَهْيٌ عَنْ مُنْكَرٍ صَدَقَةٌ»...
قوله صلى الله عليه وسلم: «وَأَمْرٌ بِالْمَعْرُوفِ صَدَقَةٌ، وَنَهْيٌ عَنْ مُنْكَرٍ صَدَقَةٌ»؛ فإن الأمر بالمعروف، والنهيَ عن المنكَر، من أفضل الصدقات؛ لأن هذا هو الذي فضَّل الله به هذه الأمَّة على غيرها؛ فقال تعالى: {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} [آل عمران: 110]"
[44]
.
قال النوويُّ رحمه الله: "«ذَهَبَ أَهْلُ الدُّثُورِ بِالْأُجُورِ»: الدُّثُورُ بضمِّ الدال: جَمْعُ "دَثْرٍ" بفتحها، وهو المال الكثير. قولُه صلى الله عليه وسلم: «أَوَلَيْسَ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ مَا تَصَّدَّقُونَ؛ إِنَّ بِكُلِّ تَسْبِيحَةٍ صَدَقَةً، وَكُلِّ تَكْبِيرَةٍ صَدَقَةً، وَكُلِّ تَحْمِيدَةٍ صَدَقَةً، وَكُلِّ تَهْلِيلَةٍ صَدَقَةً، وَأَمْرٌ بِالْمَعْرُوفِ صَدَقَةٌ، وَنَهْيٌ عَنْ مُنْكَرٍ صَدَقَةٌ». وأمَّا قولُه صلى الله عليه وسلم: «مَا تَصَّدَّقُونَ» فالروايةُ فيه بتشديد الصاد والدال جَمِيعًا، ويجوز في اللُّغة تخفيف الصاد، وأمَّا قولُه صلى الله عليه وسلم: «وَكُلِّ تَكْبِيرَةٍ صَدَقَةً، وَكُلِّ تَحْمِيدَةٍ صَدَقَةً، وَكُلِّ تَهْلِيلَةٍ صَدَقَةً» فرَوَيناه بوجهين: رَفْعُ صَدَقة وَنَصْبُه؛ فالرفع على الاستئناف، وَالنَّصْبُ عَطْفٌ على أَنَّ بِكُلِّ تسبيحة صَدَقَةً. قَالَ الْقَاضِي: يَحتمِل تَسْمِيَتَها صدقةً أنَّ لها أجرًا كما للصَّدقة أجرٌ، وأنّ هذه الطّاعاتِ تُماثِل الصّدقاتِ في الأجور، وسمَّاها صدقةً على طريق المقابَلة، وتَجنِيس الكلام، وقيل: معناه أنّها صدقةٌ على نفسه"
[45]
.
قال ابن رجب رحمه الله: "وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ دليلٌ على أنّ الصّحابة - رضي اللّه عنهم - لشدَّة حرصهم على الأعمال الصالحة، وقوَّة رغبتهم في الخير؛ كانوا يحزنون على ما يتعذَّر عليهم فِعْلُه من الخير ممَّا يَقدِر عليه غيرُهم، فكان الفقراء يحزنون على فَوَاتِ الصَّدَقة بالأموال التي يَقدِر عليها الأغنياء، ويحزنون على التَّخلُّف عن الخروج في الجهاد؛ لعدم القُدرة على آلته، وقد أخبر اللّه عنهم بذلك في كتابه، فقال: {وَلاَ عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لاَ أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّواْ وَّأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلاَّ يَجِدُواْ مَا يُنفِقُون} [التوبة: 92]، وفي هذا الحديث: أنَّ الفقراء غَبَطوا أهلَ الدُّثُور - والدُّثُور: هي الأموال - ممَّا يَحصُل لهم من أجر الصَّدقة بأموالهم، فدَلَّهم النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم على صَدَقات يَقدِرون عليها. وَفِي الصَّحِيحَيْنِ: عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ فُقَرَاءَ الْمُهَاجِرِينَ أَتَوُا النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالُوا: ذَهَبَ أَهْلُ الدُّثُورِ بِالدَّرَجَاتِ الْعُلَى وَالنَّعِيمِ الْمُقِيمِ، فَقَالَ: «وَمَا ذَاكَ؟»، قَالُوا: يُصَلُّونَ كَمَا نُصَلِّي، وَيَصُومُونَ كَمَا نَصُومُ، وَيَتَصَدَّقُونَ وَلَا نَتَصَدَّقُ، وَيَعْتِقُونَ وَلَا نَعْتِقُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «أَفَلَا أُعَلِّمُكُمْ شَيْئًا تُدْرِكُونَ بِهِ مَنْ قَدْ سَبَقَكُمْ، وَتَسْبِقُونَ بِهِ مَنْ بَعْدَكُمْ، وَلَا يَكُونُ أَحَدٌ أَفْضَلَ مِنْكُمْ إِلَّا مَنْ صَنَعَ مِثْلَ مَا صَنَعْتُمْ؟»، قَالُوا: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: «تُسَبِّحُونَ وَتُكَبِّرُونَ وَتَحْمَدُونَ دُبُرَ كُلِّ صَلَاةٍ ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ مَرَّةً»، قَالَ أَبُو صَالِحٍ: فَرَجَعَ فُقَرَاءُ الْمُهَاجِرِينَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالُوا: سَمِعَ إِخْوَانُنَا أَهْلُ الْأَمْوَالِ بِمَا فَعَلْنَا فَفَعَلُوا مِثْلَهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ»"
[46]
.
قال النوويُّ رحمه الله: "قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم: «وَأَمْرٌ بِالْمَعْرُوفِ صَدَقَةٌ، وَنَهْيٌ عَنْ مُنْكَرٍ صَدَقَةٌ» فيه إشارةٌ إلى ثُبوت حُكم الصَّدقة في كلِّ فَرد من أفراد الأمر بالمعروف والنَّهي عن المنكَر؛ ولهذا نَكَّره، والثَّوابُ في الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر أكثرُ منه في التّسبيح والتّحميد والتّهليل؛ لأنّ الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر فرضُ كِفَايةٍ، وقد يتعيَّن، ولا يُتصوَّر وقوعُه نفلًا، والتّسبيحُ والتّحميد والتّهليل نوافلُ، ومعلومٌ أنّ أجرَ الفرض أكثرُ من أجر النَّفل؛ لقوله عزَّ وجلَّ: «وَمَا تَقَرَّبَ إِلَيَّ عَبْدِي بِشَيْءٍ أَحَبَّ إِلَيَّ مِنْ أَدَاءِ مَا افْتَرَضْتُ عَلَيْهِ»
[47]
" [48] .
قال ابن رجب رحمه الله: "وَمَعْنَى هَذَا أَنَّ الْفُقَرَاءَ ظنُّوا أن لا صدقةَ إلَّا بالمال، وهم عاجزون عن ذلك، فأخبرهم النبيُّ صلى الله عليه وسلم أَنَّ جَمِيعَ أَنْوَاعِ فِعْلِ الْمَعْرُوفِ وَالْإِحْسَانِ صَدَقَةٌ. وفي "صحيح مسلم" عن حُذَيْفَةَ، عن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: «كُلُّ مَعْرُوفٍ صَدَقَةٌ»، وَخَرَّجَهُ الْبُخَارِيُّ من حديث جابر عن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم. فَالصَّدَقَةُ تُطْلَقُ على جميع أنواع فِعْلِ المعروف والإحسان، حتى إن فضل اللَّه الواصلَ منه إلى عِبَادِهِ صَدَقَةٌ منه عليهم، وقد كان بعض السلف يُنْكِر ذلك، ويقول: إِنَّمَا الصَّدَقَةُ مِمَّنْ يَطْلُبُ جَزَاءَهَا وَأَجْرَهَا، والصحيح خِلافُ ذلك، وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِي قَصْرِ الصَّلَاةِ فِي السَّفَرِ: «صَدَقَةٌ تَصَدَّقَ اللَّهُ بِهَا عَلَيْكُمْ، فَاقْبَلُوا صَدَقَتَهُ» خَرَّجَهُ مُسْلِمٌ، وقال: «مَنْ كَانَتْ لَهُ صَلَاةٌ بِلَيْلٍ، فَغَلَبَ عَلَيْهِ نَوْمٌ فَنَامَ عَنْهَا، كَتَبَ اللَّهُ لَهُ أَجْرَ صَلَاتِهِ، وَكَانَ نَوْمُهُ صَدَقَةً مِنَ اللَّهِ تَصَدَّقَ بِهَا عَلَيْهِ» خَرَّجَهُ النَّسَائِيُّ وغيره من حديث عائشةَ، وَخَرَّجَهُ ابْنُ مَاجَهْ من حديث أبي الدَّرْدَاءِ. وَقَالَ خَالِدُ بْنُ مَعْدَانَ: إِن اللَّهَ يَتَصَدَّقُ كلَّ يَوْمٍ بِصَدَقَةٍ، وما تَصَدَّقَ اللَّهُ على أحدٍ من خَلْقِه بشيء خَيْرٌ من أن يَتَصَدَّقَ عليه بذِكْره"
[49]
.
قال ابن عثيمين رحمه الله: "ثم قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: «وفي بُضْعِ أَحَدِكم صَدَقةٌ»؛ يعني: أن الرجل إذا أتى امرأته، فإن ذلك صدقةٌ، قالوا: يا رسول الله، أيأتي أحدنا شهوته ويكون له فيها أجر؟ قال: «أرأيتُم لو وَضَعها في الحرام، أكان عليه وِزْرٌ؟»؛ يعني: لو زنى ووَضَع الشهوة في الحرام، هل يكون عليه وزر؟ قالوا: نعم. قال: «فكذلك إذا وَضَعها في الحلال، كان له أجرٌ» والحمد لله. ومعنى ذلك: أن الرجل إذا استغنى بالحلال عن الحرام، كان له بهذا الاستغناء أجر"
[50]
.
قال ابن رجب رحمه الله: "والصَّدَقة بغير المال نوعان؛ أحدهما: ما فيه تَعْدِيةُ الإحسان إلى الخَلْق، فيكون صدقةً عليهم، وربّما كان أفضلَ من الصَّدقة بالمال، وهذا كالأمر بالمعروف، والنَّهي عن المنكر، فإنّه دعاءٌ إلى طاعة اللّه، وكفٌّ عن معاصيه، وذلك خيرٌ من النّفع بالمال، وكذلك تعليمُ العلم النّافع، وإقراءُ القرآن، وإزالةُ الأذى عن الطَّريق، والسَّعي في جلب النَّفع للنَّاس، ودفعُ الأذى عنهم، وكذلك الدَّعاءُ للمسلمين والاستغفار لهم"
[51]
.
قال النوويُّ رحمه الله: "قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم: «وَفِي بُضْعِ أَحَدِكُمْ صَدَقَةٌ» هُوَ بِضَمِّ الْبَاء، ويُطلَق على الجِمَاع، ويُطلَق على الفَرْجِ نفسِه، وكلاهما تصِحُّ إرادته هنا، وفي هذا دليلٌ على أنَّ المباحاتِ تَصِير طاعاتٍ بالنِّيَّات الصَّادقات؛ فالجماعُ يكون عبادةً إذا نوى به قضاء حقِّ الزَّوجة ومُعاشَرتها بالمعروف الذي أَمَر اللّه تعالى به، أو طَلَبَ ولدٍ صالح، أو إعفافَ نفسِه، أو إعفاف الزَّوجة، ومَنْعَهما جميعًا من النّظر إلى حرام، أو الفِكْرِ فيه، أو الهمِّ به، أو غيرِ ذلك من المقاصد الصَّالحة. قَوْلُهُ: قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَيَأْتِي أَحَدُنَا شَهْوَتَهُ وَيَكُونُ لَهُ فِيهَا أَجْرٌ؟ قَالَ: «أَرَأَيْتُمْ لَوْ وَضَعَهَا فِي حَرَام، أَكَانَ عَلَيْهِ فِيهَا وِزْرٌ؟ فَكَذَلِكَ إِذَا وَضَعَهَا فِي الْحَلَالِ كَانَ لَهُ أَجْرٌ»: فيه جواز القياس، وهو مذهبُ العلماءِ كافَّةً، ولم يخالف فيه إلّا أهلُ الظّاهر، ولا يُعتدُّ بهم، وأمَّا المنقول عن التّابعين ونحوهم من ذمِّ القياس، فليس المرادُ به القياسَ الّذي يعتمده الفقهاء المجتهدون، وهذا القياس المذكور في الحديث هو من قياس العكس، واختلف الأصوليّون في العمل به، وهذا الحديث دليلٌ لمن عَمِل به، وهو الأصحُّ، واللّه أعلم"
[52]
.
قال ابن رجب رحمه الله: "وَقَوْلُهُ: «أَرَأَيْتَ لَوْ وَضَعَهَا فِي الْحَرَامِ، أَكَانَ عَلَيْهِ وِزْرٌ؟ فَكَذَلِكَ إِذَا وَضَعَهَا فِي الْحَلَالِ، كَانَ لَهُ أَجْرٌ»: هذا يسمَّى عند الأصوليّين "قياس العكس"، والنّوع الثّاني من الصَّدَقة الّتي ليست ماليّةً: ما نَفْعُه قاصرٌ على فاعله؛ كأنواع الذِّكْر: من التّكبير، والتّسبيح، والتّحميد، والتّهليل، والاستغفار، وكذلك المشيُ إلى المساجد صَدَقةٌ، ولم يَذكُر في شيء من الأحاديث الصَّلاةَ والصّيام والحجَّ والجهاد أنّه صدقة، وأكثرُ هذه الأعمال أفضلُ من الصّدقات الماليَّة؛ لأنّه إنّما ذُكِر جوابًا لسؤال الفقراء الّذين سألوه عمَّا يُقاوم تطوُّع الأغنياء بأموالهم، وأمّا الفرائضُ، فإنّهم قد كانوا كلُّهم مشتركين فيها"
[53]
.
قال ابن عثيمين رحمه الله: "وفي حديث أبي ذرٍّ - رضي الله عنه - تنبيهٌ على ما يسمِّيه الفقهاءُ "قياس العكس"، وهو إثباتُ نَقْصِ حُكم الأصل في ضِدِّ الأصل؛ لمفارقة العِلَّة؛ فهنا العِلَّة في كَون الإنسان يؤجَر إذا أتى أهله، هو أنه وَضَع شهوتَه في حلال، نَقِيضُ هذه العلَّة: إذا وَضَعَ شهوته في حرام، فإنه يُعاقَب على ذلك، وهذا هو ما يسمَّى عند العلماء بقياس العكس؛ لأن القياس أنواعٌ: قياسُ عِلَّة، وقياس دلالة، وقياس شَبَه، وقِياس عَكْسٍ"
[54]
.
قال ابن رجب رحمه الله: "وقد تكاثَرَتِ النّصوص بتفضيل الذِّكر على الصَّدقة بالمال وغيرها من الأعمال؛ كما في حديث أبي الدّرداء، عن النّبيِّ صلى الله عليه وسلم قال: " «ألا أُنبِّئُكم بخير أعمالكم، وأزكاها عند مليككم، وأرفعِها في درجاتكم، وخيرٍ لكم من إنفاق الذّهب والفِضَّة، وخيرٍ لكم من أن تَلْقَوْا عَدُوَّكم، فتضربوا أعناقهم، ويضربوا أعناقكم؟» قالوا: بلى يا رسول اللّه، قال: «ذِكْرُ اللّه عزَّ وجلَّ»
[55]
خرَّجه الإمام أحمدُ والتّرمذيُّ، وذكره مالك في "الموطَّأ" موقوفًا على أبي الدّرداء. وفي "الصّحيحين" عن أبي هريرة، عن النّبيِّ صلى الله عليه وسلم، قال: «من قال: لا إله إلّا اللّهُ وحده لا شريكَ له، له الْمُلْكُ، وله الحمدُ، يُحيي ويميت، وهو على كلِّ شيء قدير، في يوم مائةَ مرَّةٍ، كانت له عَدْلَ عَشْرِ رقابٍ، وكُتِبت له مائةُ حسنة، ومُحِيَت عنه مِائةُ سيِّئة، وكانت له حرزًا من الشَّيطان يومَه ذلك حتَّى يُمسيَ، ولم يأتِ أحدٌ بأفضلَ ممّا جاء به إلّا أحدٌ عَمِل أكثرَ من ذلك»" [56] .
قال النوويُّ رحمه الله: "وفي هذا الحديث فضيلةُ التّسبيح، وسائر الأذكار، والأمرِ بالمعروف والنّهيِ عن المنكَر، وإحضارُ النّيَّة في المباحات، وذِكْرُ العالم دليلًا لبعض المسائل التي تخفى، وتنبيهُ المفتي على مختصَر الأدلَّة، وجوازُ سؤال المستفتي عن بعض ما يخفى من الدّليل إذا عَلِم من حال المسؤول أنّه لا يَكرَه ذلك، ولم يكن فيه سُوءُ أَدَبٍ، واللّه أعلمُ"
[57]
.