ثانيًا: تعظيمُ اللهِ تعالى وشعائره

رقم الحديث: 50

50 - عَنْ أَبِي ذَرٍّ رضي الله عنه، عَن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فِيمَا رَوَى عَن اللهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى أَنَّهُ قَالَ: «يَا عِبَادِي، إِنِّي حَرَّمْتُ الظُّلْمَ عَلَى نَفْسِي، وَجَعَلْتُهُ بَيْنَكُمْ مُحَرَّمًا؛ فَلا تَظَالَمُوا. يَا عِبَادِي، كُلُّكُمْ ضَالٌّ إِلَّا مَنْ هَدَيْتُهُ؛ فَاسْتَهْدُونِي أَهْدِكُمْ. يَا عِبَادِي، كُلُّكُمْ جَائِعٌ إِلَّا مَنْ أَطْعَمْتُهُ؛ فَاسْتَطْعِمُونِي أُطْعِمْكُمْ. يَا عِبَادِي، كُلُّكُمْ عَارٍ إِلَّا مَنْ كَسَوْتُهُ؛ فَاسْتَكْسُونِي أَكْسُكُمْ. يَا عِبَادِي، إِنَّكُمْ تُخْطِئُونَ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، وَأَنَا أَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا؛ فَاسْتَغْفِرُونِي أَغْفِرْ لَكُمْ. يَا عِبَادِي، إِنَّكُمْ لَنْ تَبْلُغُوا ضَرِّي فَتَضُرُّونِي، وَلَنْ تَبْلُغُوا نَفْعِي فَتَنْفَعُونِي. يَا عِبَادِي، لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ، وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ، كَانُوا عَلَى أَتْقَى قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ مِنْكُمْ، مَا زَادَ ذَلِكَ فِي مُلْكِي شَيْئًا. يَا عِبَادِي، لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ، وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ، كَانُوا عَلَى أَفْجَرِ قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ، مَا نَقَصَ ذَلِكَ مِنْ مُلْكِي شَيْئًا. يَا عِبَادِي، لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ، وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ، قَامُوا فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ فَسَأَلُونِي، فَأَعْطَيْتُ كُلَّ إِنْسَانٍ مَسْأَلَتَهُ، مَا نَقَصَ ذَلِكَ مِمَّا عِنْدِي إِلَّا كَمَا يَنْقُصُ المِخْيَطُ إِذَا أُدْخِلَ البَحْرَ. يَا عِبَادِي، إِنَّمَا هِيَ أَعْمَالُكُمْ أُحْصِيهَا لَكُمْ، ثُمَّ أُوَفِّيكُمْ إِيَّاهَا، فَمَنْ وَجَدَ خَيْرًا فَلْيَحْمَدِ اللهَ، وَمَنْ وَجَدَ غَيْرَ ذَلِكَ فَلا يَلُومَنَّ إِلَّا نَفْسَهُ» [1] .

ترجمة راوي الحديث:
هو: أبو ذُرٍّ، جُنْدُبُ بنُ جُنادةَ، وقيل: بريرُ بنُ جُندبٍ، الغِفاريُّ، الزاهد، الصادق، مِن كبار الصحابة وفضلائهم، كان يتعبَّد قبل مَبعث النبيِّ صلى الله عليه وسلم ثلاث سِنين يقوم من الليل مصلِّيًا، أسلم بمكةَ في أوَّل الدعوة، وهو رابعُ مَن دَخَلوا في الإسلام، قدِم على النبيِّ صلى الله عليه وسلم فصحِبه إلى أن مات، ثم خرج بعد وفاة أبى بكر رضي الله عنه إلى الشام، فلم يزَلْ بها حتى وَليَ عثمانُ رضي الله عنه، ثم استقدمه عثمانُ لشَكْوى معاويةَ به، وأسكنه الرَّبَذة، فمات بها، وصلَّى عليه عبدُ الله بنُ مسعود رضي الله عنه، تُوفِّي سنةَ (32هـ)
[2]
.
غريب الحديث:
الظُّلم: الجَوْر ومجاوَزة الحدِّ
[3]
.
صَعِيد واحِد: الصَّعيد: هو وجْهُ الأرض، والمرتفع منها، والموضعُ الواسعُ
[4]
.
المِخْيَط: الإبْرة
[5]
.
المعنى الإجماليُّ للحديث:
يروي أبو ذرٍّ رضي الله عنه، عن رَسُول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أنه روى عن ربِّه تعالى أنه قَالَ: «يَا عِبَادِي، إِنِّي حَرَّمْتُ الظُّلْمَ عَلَى نَفْسِي، وَجَعَلْتُهُ بَيْنَكُمْ مُحَرَّمًا؛ فَلا تَظَالَمُوا»؛ أي: يا عبادي، إني تقدَّستُ وتنزَّهتُ عن الظُّلم، وحرَّمتُ عليكم أن يظلم بعضكم بعض، فلا تتَظَالموا. «يَا عِبَادِي، كُلُّكُمْ ضَالٌّ إِلَّا مَنْ هَدَيْتُهُ؛ فَاسْتَهْدُونِي أَهْدِكُمْ»؛ أي: كلُّكم على ضلال إلا من هَديتُه، فاطلُبوا مني الهدايةَ، أَهْدِكم. «يَا عِبَادِي، كُلُّكُمْ جَائِعٌ إِلَّا مَنْ أَطْعَمْتُهُ؛ فَاسْتَطْعِمُونِي أُطْعِمْكُمْ»؛ أي: كلُّكم جائعون إلا من أطعمتُه، فاطلُبوا مني الطعام أُطعِمكم. «يَا عِبَادِي، كُلُّكُمْ عَارٍ إِلَّا مَنْ كَسَوْتُهُ؛ فَاسْتَكْسُونِي أَكْسُكُمْ»؛ أي: كلُّكم عارٍ إلا من كسوتُه، فاطلُبوا مني أن أَكْسُوَكم، أَكْسُكُم. «يَا عِبَادِي، إِنَّكُمْ تُخْطِئُونَ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، وَأَنَا أَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا؛ فَاسْتَغْفِرُونِي أَغْفِرْ لَكُمْ»؛ أي: إنكم تفْعَلونَ ما تأْثَمونَ عليه بالليل والنهار، وأنا أغفر الذنوب جميعًا، فاطلبوا مني المغفرة أغفرْ لكم ذنوبكم. «يَا عِبَادِي، إِنَّكُمْ لَنْ تَبْلُغُوا ضَرِّي فَتَضُرُّونِي، وَلَنْ تَبْلُغُوا نَفْعِي فَتَنْفَعُونِي»؛ فالله تعالى غنيٌّ عن عباده، وهو الضارُّ والنافع؛ فلا يستطيع العباد هذا؛ أن تضرُّوني ولا أن تنفعوني. «يَا عِبَادِي، لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ، وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ، كَانُوا عَلَى أَتْقَى قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ مِنْكُمْ، مَا زَادَ ذَلِكَ فِي مُلْكِي شَيْئًا»؛ يعني: لو أن كلَّ العباد من الإنس والجنِّ، الأوَّلين والآخرين، كانوا على أتقى قلب رجل واحد، ما زاد ذلك في ملك الله شيئًا. «يَا عِبَادِي، لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ، وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ، كَانُوا عَلَى أَفْجَرِ قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ، مَا نَقَصَ ذَلِكَ مِنْ مُلْكِي شَيْئًا». ولو أن كلَّ العباد من الإنس والجنِّ، الأوَّلين والآخرين، كانوا على أفجر قلب رجل واحد، ما نقص ذلك من ملك الله شيئًا؛ فإن الله تعالى هو الغنيُّ عن العالمين؛ بَرِّهم وفاجرهم. «يَا عِبَادِي، لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ، وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ، قَامُوا فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ فَسَأَلُونِي، فَأَعْطَيْتُ كُلَّ إِنْسَانٍ مَسْأَلَتَهُ، مَا نَقَصَ ذَلِكَ مِمَّا عِنْدِي إِلَّا كَمَا يَنْقُصُ المِخْيَطُ إِذَا أُدْخِلَ البَحْرَ»؛ أي: إن عطاء الله للأوَّلين والـآخِرين، الإنس والجن وجميع المخلوقات، منذ أنْ بدأ اللهُ الـخَلقَ إلى أن يرِثَ الأرضَ وما عليها، لا يَنقُص من مُلْك الله شيئًا البتَّةَ. «يَا عِبَادِي، إِنَّمَا هِيَ أَعْمَالُكُمْ أُحْصِيهَا لَكُمْ، ثُمَّ أُوَفِّيكُمْ إِيَّاهَا، فَمَنْ وَجَدَ خَيْرًا فَلْيَحْمَدِ اللهَ، وَمَنْ وَجَدَ غَيْرَ ذَلِكَ فَلا يَلُومَنَّ إِلَّا نَفْسَهُ»؛ أي: إنما هي أعمالكم، أحصيها وأَعُدُّها وأحفظُها لكم، وذلك بعِلمي وملائكتي الحفَظة، ثم أُعطيكم جزاءها وافيًا تامًّا؛ إنْ خيرًا فخيرٌ، وليحمد الله من وجد الخير على توفيق الله إيَّاه للخير، وإنْ شرًّا فشرٌّ، ولا يلومنَّ على الشرِّ إلا نفسه.
الشرح المفصَّل للحديث:
الله عز وجل واسع العطاء، عظيم الجُود، عمَّت نِعَمه سبحانه جميعَ الخلائق، فليس للعباد سواه، ولا نجاةَ لهم إلا بالتعلُّق ببابه، والتزام شَرْعه، وسؤاله العفْوَ والعافيةَ في الدنيا والآخرة.
وفي هذا الحديث القدسيِّ جانبٌ من نِعَم الله عز وجل على عباده، والـحديثُ القدسيُّ: هو ما يرويه النبيُّ صلى الله عليه وسلم عن ربِّه تبارك وتعالى بالمعنى، وألفاظُه من عند النبيِّ صلى الله عليه وسلم، ومِن ثَمَّ فلا يُتعبَّد بتلاوة ألفاظه، ولا يُتحدَّى به كما هو الشأن بالنسبة للقرآن؛ إذ القرآنُ الكريم لفظه ومعناه من قِبَل الله سبحانه وتعالى، وهو معجِزٌ، ونحن مأمورون بتلاوته
[6]
.
وهذا الـحديث يدور حولَ سِتَّة أمور:
أمَّا الأوَّل: فهو نهيُ الـعباد عن التَّظالم؛ أي: أن يَظلِم بعضُهم بعضًا.
يقول الله سبحانه: «يَا عِبَادِي، إِنِّي حَرَّمْتُ الظُّلْمَ عَلَى نَفْسِي، وَجَعَلْتُهُ بَيْنَكُمْ مُحَرَّمًا؛ فَلَا تَظَالَـمُوا»، والنداء بقوله تعالى: «يَا عِبَادِي» إشارةٌ إلى أن جميع الخَلْق عبادُ الله إما شرعًا وإما قهْرًا، أما المؤمنون فهم عِباد الله الذين استجابوا لأمره، والنداءُ له هنا فيه نوعٌ من اللُّطف والإيناس، وأما الكفار فهم مخاطَبون أيضًا بهذا الحديث؛ لدخولهم تحت العبودية لله قهْرًا؛ قال تعالى: {إِن كُلُّ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ إِلاَّ آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا} [مريم: 93].
وقوله تعالى: «إِنِّي حَرَّمْتُ الظُّلْمَ عَلَى نَفْسِي»؛ أي: تقدَّستُ وتعاليتُ عن الظلم، والظلمُ مستحيلٌ في حقِّ الله سبحانه وتعالى؛ إذ الظُّلم هو مجاوَزة الحد، والتصرُّف في غير الْمُلك، وكيف يجاوز سبحانه حدًّا، وليس فوقه مَن يُطيعه؟! وكيف يتصرَّفُ في غير مُلْك غيرِه والعالَمُ كلُّه في مُلْكه وسلطانه؟!
وأصلُ التحريم في اللغة: المنْعُ، فسمَّى سبحانه تقدُّسَه وتعاليَه عن الظلم تحريمًا؛ لمشابهتِه للممنوع في أصل عدم الشيء
[7]
.
فاللهُ عز وجل منزَّهٌ عن الظُّلم؛ قال تعالى: {وَمَا أَنَا بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيد} [ق: 29]، وقال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لاَ يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ} [النساء: 40]، فهو وحْدَه الـعدلُ؛ وبالـعدل أمَر عباده، وحرَّم أن يظلم بعضهم بعضًا، وقوله: «وجَعَلْتُهُ بَيْنَكُمْ مُحَرَّمًا؛ فَلَا تَظَالَـمُوا»؛ أي: لا تتظالموا، يعني: لا يظلِم بعضكم بعضًا
[8]
. والمعنى: "أنه تعالى حرَّم الظلم على عباده، ونهاهم أن يتظالموا فيما بينهم، فحرامٌ على كلِّ عبد أن يظلمَ غيرَه، مع أن الظلم في نفْسه محرَّم مطلقًا. والظلم نوعانِ: أحدهما: ظُلم النفْس، وأَعظَمُه الشِّركُ، ثم يَليه المعاصي على اختلاف أجناسها من كبائرَ وصغائر. والثاني: ظُلم العبد لغيره" [9] .
وتتَجلَّى محاسنُ الشريعة الإسلاميَّة في أبهى صورها في أمر الله سبحانه وتعالى بالـعدْل، حتى مع الطَّائفة التي نختلِف معها اختلافًا يؤدِّي إلى أشدِّ الـبُغض والـكراهية، يفرِض علينا الـقرآنُ الـكريمُ ألَّا يَحمِلنا بُغضُنا لبعض الناس على عدم الـعدل معهم وإعطائهم حقوقَهم؛ قال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاء بِالْقِسْطِ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُواْ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُون} [المائدة: 8].
وتوعَّد اللهُ الظالمين بالانتقام الـعاجل في الدُّنيا، والـحرمان من نِعَم الله عز وجل، والـعذاب الأليم يومَ الـقيامة.
وأمَّا الأمرُ الثَّاني الذي يُنوِّه به هذا الحديثُ، فهو افتقارُ العباد إلى الله عز وجل في كلِّ أحوالهم؛ قال تعالى: «يَا عِبَادِي، كُلُّكُمْ ضَالٌّ إِلَّا مَنْ هَدَيْتُهُ؛ فَاسْتَهْدُونِي أَهْدِكُمْ».
ومعنى قوله: «يَا عِبَادِي، كُلُّكُمْ ضَالٌّ إِلَّا مَنْ هَدَيْتُهُ» أنَّ الـعِباد "لو تُركوا مع الـعادات، وما تقْتَضيه الطِّباع من الْمَيل إلى الراحات، وإهمال النَّظر الــمؤدِّي إلى الــمعرفة، لغلَبَت عليهم الـعاداتُ والطِّباعُ، فضلُّوا عن الـحقِّ؛ فهذا هو الضلال الــمقصود في الـحديث؛ لكن مَن أراد الله تعالى توفيقَه، ألْهمَه إعمالَ الـفِكر الــمؤدِّي إلى معرفة الله تعالى، ومعرفة الرسول صلى الله عليه وسلم، وأعانه على الـوصول إلى ذلك، وعلى الـعمل بمقتضاه، وهذا هو الـهدى الذي أمَرنا الله بسؤاله.
أو قد يكون الــمقصودُ بالضلال هنا الـحالَ التي كان الناسُ عليها قبلَ إرسال الرُّسل، من الشِّرك، والـكفر، والـجهالات، وغير ذلك، فأرسل اللهُ إليهم الرُّسلَ ليُزيلوا عنهم ما كانوا عليه من الضَّلال، ويبيِّن لهم مرادَ الـحقِّ منهم في حالهم، ومآل أمرهم؛ فمَن نبَّهه الـحقُّ سبحانه وتعالى وبصَّره وأعانه، فهو الــمهتدي، ومَن لم يفعل اللهُ به ذلك، بَقِيَ على ذلك الضَّلال"
[10]
.
ولا تعارُضَ بين هذا الحديث وبين ما رواه أبو هريرةَ رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما مِن مولودٍ إلا يُولَد على الفِطرة...»
[11]
؛ إذ الضلالُ المشارُ إليه في هذا الحديث هو الضلالُ الطارئُ على الفِطرة، المغيِّر لها [12] .
وقوله سبحانه: «فَاسْتَهْدُونِي أَهْدِكُمْ»؛ أي: اطلُبوا مني الهدايةَ أهْدِكم، ومِن الحِكم في ذلك: أن يَعلم العبدُ أنه طلَب الهداية مِن مولاه فهداه، ولو هداه قبلَ أن يسألَه لم يبعُدْ أن يقول: إنما أُوتيتُه على عِلم عندي
[13]
.
أما عن أنواع الهداية التي يَنْبغي أن يطلبَها العبد من ربِّه دومًا فـ"الهدايةُ نوعانِ: هدايةٌ مُجمَلةٌ، وهي الهداية للإسلام والإيمان، وهي حاصلةٌ للمؤمن، وهدايةٌ مفصَّلةٌ، وهي هدايةٌ إلى معرفة تفاصيل أجزاء الإيمان والإسلام، وإعانته على فعل ذلك، وهذا يحتاج إليه كلُّ مؤمن ليْلًا ونهارًا؛ ولهذا أمر الله عباده أن يقرؤوا في كلِّ ركعة من صلاتهم قولَه: {اهدِنَــــا الصِّرَاطَ المُستَقِيم} [الفاتحة: 6]
[14]
.
وكافتقار العباد إلى الله عز وجل في الهداية، كذا هم مفتقرون إليه سبحانه في الطعام والكساء وسائر شؤون حياتهم؛ قال تعالى: «يَا عِبَادِي، كُلُّكُمْ جَائِعٌ إِلَّا مَنْ أَطْعَمْتُهُ؛ فَاسْتَطْعِمُونِي أُطْعِمْكُمْ. يَا عِبَادِي، كُلُّكُمْ عَارٍ إِلَّا مَنْ كَسَوْتُهُ؛ فَاسْتَكْسُونِي أَكْسُكُمْ».
وفي هذا البيان "تنبيهٌ على فَقْرنا وعَجْزنا عن جَلْب منافعنا، ودَفْع مَضارِّنا بأنفُسنا إلَّا أن ييسِّرَ الله ذلك لنا، بأن يخلُقَ ذلك لنا، ويُعينَنا عليه، ويصرِف عنَّا ما يضرُّنا"
[15]
.
فاللهُ وحْدَه هو الـهادي إلى الطريق الــمستقيم، وهو الذي يُطعِمنا ويَسقينا بحَوْله وقوَّته وحْدَه سبحانه.
وحتى الــمَلْبَسُ الذي يواري عَورةَ الإنسان قد تكفَّل اللهُ به؛ فنحن نعيشُ في رِعاية الله، ونفتقرُ دائمًا إلى عنايته؛ في الـهداية إلى طريق الـحقِّ، وفي الــمأكل والــمشرب، وفي الــملبس الذي يستُرُ أجسادنا.
وفي معنى قوله تعالى: «يَا عِبَادِي، كُلُّكُمْ جَائِعٌ إِلَّا مَنْ أَطْعَمْتُهُ؛ فَاسْتَطْعِمُونِي أُطْعِمْكُمْ. يَا عِبَادِي، كُلُّكُمْ عَارٍ إِلَّا مَنْ كَسَوْتُهُ؛ فَاسْتَكْسُونِي أَكْسُكُمْ»، يعني: أنه سبحانه خلَق الخلقَ كلَّهم ذوي فَقرٍ إلى الطعام؛ فكلُّ طاعم كان جائعًا حتى يُطعِمه اللهُ بسَوق الرِّزق إليه وتصحيح الآلات التي هيَّأها له، فلا يظُنَّ ذو الثروة أن الرزقَ الذي في يدِه وقد رفَعه إلى فِيه، أطعَمه إيَّاه أحدٌ غير الله تعالى، وفيه أيضًا أدبٌ للفقراء؛ كأنه قال: لا تَطلُبوا الطعام من غيري؛ فإن هؤلاء الذين تَطلبون منهم أنا الذي أُطعمهم، «فَاسْتَطْعِمُونِي أُطْعِمْكُمْ»، وكذلك ما بعده في أمرِ الكِساء
[16]
.
وأمَّا الأمرُ الثَّالثُ الذي يُنوِّه به هذا الحديثُ، فبَيانُ سَعةِ مَغفرةِ اللهِ:
قال تعالى: «يَا عِبَادِي، إِنَّكُمْ تُخْطِئُونَ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، وَأَنَا أَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا؛ فَاسْتَغْفِرُونِي أَغْفِرْ لَكُمْ»، كلمةُ «تُخْطِئُونَ»؛ أي: تفْعَلونَ ما تأْثَمونَ عليه
[17]
، وأما الاستغفارُ فهو طلَبُ المغفرة من الله عز وجل، والعبد أحوجُ شيء إليه؛ لأنه يخطئ بالليل والنهار [18] .
و"في هذا الكلام من التوبيخِ ما يَسْتحي منه كلُّ مؤمن؛ وذلك أن اللهَ خلَقَ الليل ليُطاع فيه، ويُعبَد بالإخلاص، حيث تسلَمُ الأعمال فيه غالبًا من الرِّياء والنفاق، أفلا يَستحي المؤمن ألَّا يُنفِق الليل في الطاعة؟! والنهار فإنه جُعِل مشهودًا من الناس، فيَنْبغي من كلِّ فطِن أن يُطيع الله فيه أيضًا، ولا يتظاهر بين الناس بالمخالَفة"
[19]
.
فعلى المسلم أن يُبادر بالتوبة والاستغفار والمسارعة في الصالحات؛ فاللهُ واسعُ الــمغفرة، يبسُط يده باللَّيل ليتوبَ مُسيءُ النهار، ويَبسُط يده بالنهار ليتوب مُسيءُ الليل، ويغفرُ جميع الذُّنوب ولا يُبالي؛ كأنَّ اللهَ تعالى قال: وكيف يَحسُن بالمؤمن أن يُخطِئ سرًّا أو جهرًا؛ لأنه سبحانه وتعالى قد قال بعد ذلك: «وَأَنَا أَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا؛ فَاسْتَغْفِرُونِي أَغْفِرْ لَكُمْ»، فذكَر الذنوبَ بالألف واللام التي للتعريف، وأكَّدها بقوله: «جميعًا»، وإنما قال ذلك قبل أمرِه بالاستغفار في قوله: «فَاسْتَغْفِرُونِي أَغْفِرْ لَكُمْ»؛ لئلا يَقنطَ أحدٌ من رحمة الله لعِظَم ذنْب ارتكبه
[20]
.
وأمَّا الأمرُ الرابعُ الذي اشتمل عليه الحديثُ، فهو بيانُ عجزِ الـعباد عن النَّفع والضرِّ، وبيان غِنى الله سبحانه وتعالى عن عباده:
يقول سُبحانه: «يَا عِبَادِي، إِنَّكُمْ لَنْ تَبْلُغُوا ضَرِّي فَتَضُرُّونِي، وَلَنْ تَبْلُغُوا نَفْعِي فَتَنْفَعُونِي»، ومعناه: "أن العباد لا يقدِرون أن يوصلوا إلى الله نفعًا ولا ضرًّا؛ فإن اللهَ تعالى في نفْسه غنيٌّ حميدٌ، لا حاجةَ له بطاعات العباد، ولا يعود نفْعُها إليه؛ وإنما هم ينتفعون بها، ولا يتضرَّرُ بمعاصيهم؛ وإنما هم يتضرَّرون بها؛ قال الله تعالى: {وَلاَ يَحْزُنكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَن يَضُرُّواْ اللَّهَ شَيْئاً} [آل عمران: 176]"(
[21]
فاللهُ وحْدَه هو مَن يملك النَّفعَ والضرَّ.
ثمَّ يقول اللهُ سبحانه وتعالى: «يَا عِبَادِي، لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ، وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ، كَانُوا عَلَى أَتْقَى قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ مِنْكُمْ، مَا زَادَ ذَلِكَ فِي مُلْكِي شَيْئًا. يَا عِبَادِي، لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ، وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ، كَانُوا عَلَى أَفْجَرِ قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ، مَا نَقَصَ ذَلِكَ مِنْ مُلْكِي شَيْئًا»، وفي هذا البيان "إشارة إلى أن مُلْكه سبحانه لا يَزيدُ بطاعة العباد، ولو كانوا كلُّهم بَرَرةً أتقياءَ، قلوبهم على قلب أتْقى رجُل منهم، ولا يَنقُص مُلْكُه سبحانه بمعصية العاصين، ولو كان الجنُّ والإنس كلُّهم عُصاةً فَجَرةً، قلوبُهم على قَلْب أفجرِ رجُلٍ منهم، فإنه سبحانه الغنيُّ بذاته عمَّن سواه، وله الكمالُ المطلَق في ذاته وصفاته وأفعاله، فمُلْكُه مُلكٌ كاملٌ، لا نقْصَ فيه بوجه من الوجوه"
[22]
، فلا يَزيد ملكُه سبحانه بطاعة الطائع، ولا يَنقُصُ بمعصية العاصي؛ وذلك "لأنه مرتبطٌ بقُدرته وإرادته، وهما باقيتانِ ذاتيَّتانِ، لا انقطاعَ لهما، فكذا ما ارتبط بهما، وعائدُ التَّقوى والـفجور على فاعلِهما" [23] .
والأمر الـخامس في هذا الحديث هو بيانُ عِظَم فضل الله ونِعَمه، التي لا يُحصيها ولا يُحيط بها إلا اللهُ وحدَه:
يقول سبحانه: «يَا عِبَادِي، لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ، وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ، قَامُوا فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ فَسَأَلُونِي، فَأَعْطَيْتُ كُلَّ إِنْسَانٍ مَسْأَلَتَهُ، مَا نَقَصَ ذَلِكَ مِمَّا عِنْدِي إِلَّا كَمَا يَنْقُصُ المِخْيَطُ إِذَا أُدْخِلَ البَحْرَ».
ومعنى ذلك: أنَّ عطاء الله للأوَّلين والـآخِرين، الإنس والجن وجميع المخلوقات، منذ أنْ بدأ اللهُ الـخَلقَ إلى أن يرِثَ الأرضَ وما عليها، لا يَنقُص من مُلْك الله شيئًا؛ "لأنَّ ما عند الله لا يَدخلُه نقْصٌ، وإنما يدخُلُ النَّقصُ الـمقدَّرَ الــمحدَّدَ الفانيَ، وما عند الله هو رحمتُه وإفضاله على عباده؛ وهي صفاته الـباقية التي لا تَفْنى، ولا يأخذُها حدٌّ ولا حصرٌ"
[24]
.
والتَّشبيهُ في الـحديث لتقريب الــمعنى إلى أفهام الـعباد؛ وإلا فمِن الــمعلوم يقينًا أنَّ عطاء الله عبادَه مهما بلَغ لا يَنقُص شيئًا قطُّ من خزائنه سبحانه وتعالى
[25]
.
والأمر السادس: هو بيانُ أنَّ الله يُوفِّي كلَّ نفْسٍ ما كسبت من خيرٍ أو شرٍّ:
يقول سبحانه: «يَا عِبَادِي، إِنَّمَا هِيَ أَعْمَالُكُمْ أُحْصِيهَا لَكُمْ، ثُمَّ أُوَفِّيكُمْ إِيَّاهَا، فَمَنْ وَجَدَ خَيْرًا فَلْيَحْمَدِ اللهَ، وَمَنْ وَجَدَ غَيْرَ ذَلِكَ، فَلا يَلُومَنَّ إِلَّا نَفْسَهُ»؛ أي: إنما هي جزاء أعمالكم، «أُحْصِيهَا» بمعنى: أَعُدُّها وأضبطُها وأحفظُها لكم، وذلك بعِلمي وملائكتي الحفَظة، «ثُمَّ أُوَفِّيكُمْ إِيَّاهَا»؛ أي: أُعطيكم جزاءها وافيًا تامًّا؛ إنْ خيرًا فخيرٌ، وإنْ شرًّا فشرٌّ، والتوفية: إعطاء الحقِّ على التمام
[26]
.
وقيل: المعنى: إنْ خيرًا فخيرٌ، وإنْ شرًّا فشرٌّ؛ فمَن وجَد خيرًا؛ أي: توفيقَ خَيرٍ من ربِّه، وعَمَلَ خيرٍ من نفْسه، فلْيَحمَد الله؛ أي: على توفيقه إيَّاه للخير؛ لأنَّه الـهادي، ومَن وجَد غير ذلك؛ أي: شرًّا أو أعمَّ منه، فلا يَلومَنَّ إلا نفْسه؛ لأنَّه صدَر من نفْسه، أو لأنه باقٍ على ضلاله الذي أُشير إليه بقوله: «كلُّكم ضالٌّ»؛ فالـخيرُ والشرُّ كلُّه من الله خلْقًا، ومن الـعبْدِ كَسبًا
[27]
.
ثم إنَّ توفيةَ جزاء الأعمال إنما يكون في الدنيا والآخرة؛ "أي: في الدنيا والآخرة، وقد يكونُ في الدنيا فقطْ، وقد يكون في الآخرة فقطْ. قد يكون في الدنيا فقطْ: فإن الكافر يُجازى على عملِه الحَسَن؛ لكن في الدنيا لا في الآخرة، والمؤمنُ قد يُؤخَّر له الثوابُ في الآخرة، وقد يُجازى به في الدنيا وفي الآخرة؛ قال الله تعالى: {مَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِن نَّصِيب} [الشورى: 20]"
[28]
.
الفوائد العلمية:
1. في الحديث بيان أن الهدى والضلال بيده سبحانه، وليس للعبد إلا أن يسألَ اللهَ الهدى، ويسير في طريق رِضاه سبحانه حتى يُوفَّق للهدى.
2. في الحديث إشارة بندائه تعالى: «يَا عِبَادِي» إلى أن جميع الخَلْق عبادُ الله، إما شرعًا وإما قهْرًا، فالمؤمنون عِباد الله الذين استجابوا لأمره، والنداءُ لهم فيه نوعٌ من اللُّطف والإيناس، وأما الكفار فهم مخاطَبون أيضًا بهذا الحديث؛ لدخولهم تحت العبودية لله قهْرًا؛ قال تعالى: {إِن كُلُّ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ إِلاَّ آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا} [مريم: 93].
3. الظلم نوعانِ؛ أحدهما: ظُلم النفْس، وأَعظَمُه الشِّرك، ثم يَليه المعاصي على اختلاف أجناسها من كبائرَ وصغائر. والثاني: ظُلم العبد لغيره
[29]
.
4. في الحديث بيان أنَّ الـعِباد لو تُركوا مع الـعادات، وما تقْتَضيه الطِّباع من الْمَيل إلى الراحات، وإهمال النَّظر الــمؤدِّي إلى الــمعرفة، لغلَبَت عليهم الـعاداتُ والطِّباعُ، فضلُّوا عن الـحقِّ؛ فهذا هو الضلال الــمقصود في الـحديث
[30]
.
5. في الحديث الأمر بسؤال الـهدى، وهو أن مَن أراد الله تعالى توفيقَه، ألْهمَه إعمالَ الـفِكر الــمؤدِّي إلى معرفة الله تعالى، ومعرفة الرسول صلى الله عليه وسلم، وأعانه على الـوصول إلى ذلك، وعلى الـعمل بمقتضاه
[31]
.
6. في الحديث قيل: إن الــمقصود بالضلال الـحالُ التي كان الناسُ عليها قبلَ إرسال الرُّسل، من الشِّرك، والـكفر، والـجهالات، وغير ذلك، فأرسل اللهُ إليهم الرُّسلَ ليُزيلوا عنهم ما كانوا عليه من الضَّلال، ويبيِّن لهم مرادَ الـحقِّ منهم في حالهم، ومآل أمرهم؛ فمَن نبَّهه الـحقُّ سبحانه وتعالى وبصَّره وأعانه، فهو الــمهتدي، ومَن لم يفعل اللهُ به ذلك، بَقِيَ على ذلك الضَّلال
[32]
.
7. الهدايةُ نوعانِ: هدايةٌ مُجمَلةٌ، وهي الهداية للإسلام والإيمان، وهي حاصلةٌ للمؤمن. وهدايةٌ مفصَّلةٌ، وهي هدايةٌ إلى معرفة تفاصيل أجزاء الإيمان والإسلام، وإعانته على فعل ذلك، وهذا يحتاج إليه كلُّ مؤمن ليْلًا ونهارًا؛ ولهذا أمر الله عباده أن يقرؤوا في كلِّ ركعة من صلاتهم قولَه: {اهدِنَــــا الصِّرَاطَ المُستَقِيم} [الفاتحة: 6]
[33]
.
8. الهداية نوعان: هداية التوفيق، وهذه لا تُطلَب إلا من الله؛ إذ لا يستطيع أحد أن يهديَك هداية التوفيق إلا الله عزَّ وجلَّ. وهداية الدلالة، وهذه تصحُّ أن تطلبها من غير الله، ممن عنده علم بأن تقول: يا فلانُ، أفتني في كذا؛ أي: اهدني إلى الحقِّ فيه، وقوله: «فَاستَهدُونِي» يشمل الهدايتين: التوفيق والدلالة، فهداية الدلالة تكون باتِّباع الوسائل التي جعلها الله عزّ وجل سببًا للعلم
[34]
.
9. في الحديث تنبيهٌ على فَقْرنا وعَجْزنا عن جَلْب منافعنا، ودَفْع مَضارِّنا بأنفُسنا إلَّا أن ييسِّرَ الله ذلك لنا، بأن يخلُقَ ذلك لنا، ويُعينَنا عليه، ويصرِف عنَّا ما يضرُّنا
[35]
.
10. في الحديث إشارة إلى أنه على المسلم أن يُبادر بالتوبة والاستغفار والمسارعة في الصالحات؛ فاللهُ واسعُ الــمغفرة، قال سبحانه: «وَأَنَا أَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا؛ فَاسْتَغْفِرُونِي أَغْفِرْ لَكُمْ»، فذكَر الذنوبَ بالألف واللام التي للتعريف، وأكَّدها بقوله: «جميعًا»، وإنما قال ذلك قبل أمرِه بالاستغفار في قوله: «فَاسْتَغْفِرُونِي أَغْفِرْ لَكُمْ»؛ لئلا يَقنطَ أحدٌ من رحمة الله لعِظَم ذنْب ارتكبه
[36]
.
11. إنَّ توفيةَ جزاء الأعمال يكون في الدنيا والآخرة؛ فالمؤمنُ قد يُؤخَّر له الثوابُ في الآخرة، وقد يُجازى به في الدنيا وفي الآخرة، أو في الآخرة فقطْ. وقد يكونُ الجزاء في الدنيا فقطْ؛ فإن الكافر يُجازى على عملِه الحَسَن في الدنيا لا في الآخرة؛ قال الله تعالى: {مَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِن نَّصِيب} [الشورى: 20]"
[37]
.
12. في قوله: «إنكم تخطئون بالليل والنهار» من التوبيخِ ما يَسْتحي منه كلُّ مؤمن؛ وذلك أن اللهَ خلَقَ الليل ليُطاع فيه، ويُعبَد بالإخلاص، حيث تسلَمُ الأعمال فيه غالبًا من الرِّياء والنفاق، أفلا يَستحي المؤمن ألَّا يُنفِق الليل والنهار في الطاعة؟! فإنه جُعِل مشهودًا من الناس، فيَنْبغي من كلِّ فطِن أن يُطيع الله فيه أيضًا، ولا يتظاهر بين الناس بالمخالَفة
[38]
.
13. في الحديث تنبيهُ الخلق على أن يعظِّموا المسألة في الدعاء، ويوسِّعوا الطلب؛ فإن ما عند الله لا يَنقُص، وخزائنه لا تَنفَد، فلا يظنَّ ظانٌّ أن ما عند الله يَغِيضه الإنفاق؛ كما قال صلى الله عليه وسلم في الحديث الآخر: «يَدُ الله ملأى لا يَغِيضُها نفقةٌ، سحَّاءُ الليلَ والنهارَ؛ أرأيتُم ما أنفق منذ خلق السمواتِ والأرضَ؛ فإنه لم يَغِضْ ما في يمينه»
[39]
.
14. في قوله: «إنما هي أعمالكم أُحصيها لكم ثم أوفِّيكم إيَّاها، فمن وجد خيرًا فليحمد الله» تنبيهٌ على المؤمن ألا يَسنِد طاعته وعبادته من عمله لنفسه؛ بل يَسنِدها إلى التوفيق، ويَحمَد الله على ذلك.
15. إن لله عزّ وجل أن يحرِّم على نفسه ما شاء؛ لأن الحُكم إليه، فنحن لا نستطيع أن نحرِّم على الله؛ لكن الله يحرِّم على نفسه ما شاء، كما أنه يوجب على نفسه ما شاء؛ كما قال تعالى: {قُل لِّمَن مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ قُل لِلَّهِ كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ} [الأنعام: 12]
[40]
.
16. إن الله تعالى حرّم الظلم بيننا فقال: «وَجَعَلتُهُ بَينَكُمْ مُحَرَّمًا»، وهذا يشمل ظلم الإنسان نفسَه، وظلم غيره؛ لكن هو في المعنى الثاني أظهر؛ لقوله: «فَلا تَظَالَمُوا»؛ أي: فلا يظلم بعضكم بعضًا، وإلا فمن المعلوم أن الظلم يكون للنفس، ويكون للغير؛ قال الله تعالى: {وَلَـكِن ظَلَمُواْ أَنفُسَهُمْ} [هود: 101]
[41]
.
17. مَدَارُ الظُّلم على النقص؛ كما قال الله تعالى: {كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئًا} [الكهف: 33]. ويدور على أمرين: إما منع واجب للغير؛ كأن تمنع شخصًا من دَين عليك فلا توفِّيه، أو تماطل به، وإما تحميله ما لا يجب عليه؛ كأن تدَّعي عليه دَينًا وتأتي بشهادة زور فيُحكم لك به، فهذا ظلم
[42]
.
18. في الحديث الحثُّ على طلب العلم؛ لقوله: «كُلُّكُم ضَالٌّ»، ولا شكَّ أن طلب العلم من أفضل الأعمال؛ بل قد قال الإمام أحمدُ - رحمه الله -: العلم لا يَعدِله شيءٌ لمن صحَّت نيَّته، لا سيَّما في هذا الزمن الذي كَثُر فيه الجهل، وكثُر فيه الظنُّ، وأفتى من لا يستحقُّ أن يُفتيَ، فطلبُ العلم في هذا الزمان متأكَّد
[43]
.
19. قوله: «اسْتَطْعِمُونِي» يشمل سؤال الله عزَّ وجلَّ الطعام، ويشمل السعيَ في الرزق، وابتغاء فضل الله عزَّ وجل؛ كما قال تعالى في سورة الجمعة: {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاَةُ فَانتَشِرُوا فِي الأَرْضِ وَابْتَغُوا مِن فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُون} [الجمعة: 10]، وقال تعالى: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِن رِّزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُور} [الملك: 15]، وإلا فمن المعلوم أن السماء لا تُمطر ذَهبًا ولا درهمًا ولا خبزًا؛ بل لابدَّ من السعيِ
[44]
.
20. الأصل في الإنسان العُرْيُ الحسي ُّحتى يَكسوَه الله عزَّ وجلَّ، وقد يُراد به المعنويُّ أيضًا؛ وذلك لأن الإنسان خرج من بطن أمِّه عاريًا، ولا يكسوه إلا الله عزَّ وجلَّ بما قدَّره من الأسباب
[45]
.
21. من كَرَم الله عزَّ وجلَّ، أنه يَعرِض على عباده بيان حالهم وافتقارهم إليه، ثم يدعوهم إلى دعائه تبارك وتعالى حتى يُزيل عنهم ما فيهم من الفقر والحاجة
[46]
.
22. الاستغفار يكون على وجهين؛ الأول: طلب المغفرة باللفظ بأن يقول: اللهم اغفر لي، أو أستغفر الله. والثاني: طلب المغفرة بالأعمال الصالحة التي تكون سببًا لذلك؛ كقوله صلى الله عليه وسلم: «مَنْ قَالَ: سُبحَانَ اَلله وَبِحَمْدِهِ في اليَوم مائَةَ مَرةٍ، غُفِرَت خَطَايَاه وَإِنْ كَانَت مِثْلَ زَبَدِ البَحْر»
[47]
.
23. إن الله تعالى يغفر الذنوب جميعًا، وهذا لمن استغفر؛ لقوله عزَّ وجلَّ: «فَاسْتَغْفِرُونِي»، أما من لم يستغفر، فإن الصغائر تكون مكفِّرةً بالأعمال الصالحة؛ لقول النبيِّ صلى الله عليه وسلم: «الصلَواتُ الخَمسُ، وَالجُمُعَة إِلى الجُمُعَةِ، وَرَمَضَانُ إِلى رَمَضَانَ، مُكَفِّرَاتٌ لِمَا بَينَهُنَّ مَا اجتَنَبَ الكَبَائِرَ»
[48]
، وأما الكبائر، فلابدَّ لها من توبة خاصة، فلا تكفِّرها الأعمال الصالحة، أما الكفر، فلابدَّ له من توبة بالإجماع [49] .
24. الذنوب على ثلاثة أقسام: قسم لابدَّ فيه من توبة بالإجماع، وهو الكفر، والثاني: ما تكفِّره الأعمال الصالحة، وهو الصغائر، والثالث: ما لابدَّ له من توبة، على خلاف في ذلك؛ لكن الجمهور يقولون: إن الكبائر لابدَّ لها من توبة
[50]
.
25. محلُّ التقوى والفجور القلب؛ لقوله: «عَلَى أَتقَى قَلبِ رَجُلٍ وَاحدٍ مِنكُمْ»، «عَلَى أَفجَرِ قَلبِ رَجُلٍ وَاحدٍ مِنكُمْ»، ويشهد لهذا قول النبيِّ صلى الله عليه وسلم: «أَلا وَإِنَّ في الجَسَدِ مُضغَة، إِذَا صَلَحَت صَلَحَ الجَسَد كُلُّهُ، وَإِذَا فَسَدَت فَسَدَ الجَسَدُ كُلُّهُ»
[51]
، ويتفرَّع على هذا: أنه يجب علينا أن نعتنيَ بالقلب، وننظر أين ذهب، وأين حلَّ؛ حتى نُطَهِّرهُ ونُصفِّيَه [52] .
26. يَظهَر أن اجتماع الناس في مكان واحد أقربُ إلى الإجابة من تفرُّقهم؛ ولهذا أُمِروا أن يجتمعوا في مسجد واحد في الجمعة، وأن يجتمعوا في مصلَّى العيد، وفي الاستسقاء، وأن يجتمعوا في عرفات في مكان واحد؛ لأن ذلك أقربُ إلى الإجابة
[53]
.
27. وجوب الحمد لله عزَّ وجلَّ على من وجد خيرًا، وذلك من وجهين؛ الأول: أن الله تعالى يسَّره حتى عَمِله. الثاني: أن الله تعالى أثابه
[54]
.
28. من تخلَّف عن العمل الصالح ولم يجد الخير، فاللَّوْمُ على نفسه. فإن قال قائل: كيف يكون اللوم على نفسي وأنا لم يقدَّر لي هذا؟ فالجواب: أنك حين فعلتَ المعصية أو تركتَ الواجب، لم تكن تعلم أنه قُدِّر لك هذا، فالعاصي يُقدِم على المعصية وهو لا يعلم أنها كُتبت عليه، إلا إذا عَمِلها، وكذلك تارك الواجب، لا يعلم أنه كُتب عليه ترك الواجب إلا إذا تركه، وإلا فلا يعلم، فاللَّوْمُ عليك، فالرسل بلَّغت، والقرآن حجَّة، ومع ذلك تركتَ هذا كلَّه، فاللَّوْمُ عليك أنت
[55]
.
الفوائد العقدية:
1. الخلاف بين الأشاعرة وأهل السنَّة هو في أصل كلام الله تعالى؛ فأهل السنَّة يقولون: كلام الله تعالى كلام حقيقيٌّ مسموع يتكلَّم سبحانه بصوت وحرف، والأشاعرة لا يُثبتون ذلك؛ وإنما يقولون: كلام الله تعالى هو المعنى القائم بنفسه، وليس بحرف وصوت؛ ولكن الله تعالى يَخلُق صوتًا يعبِّر به عن المعنى القائم بنفسه، ولا شكَّ في بطلان قولهم، وهو في الحقيقة قول المعتزلة؛ لأن المعتزلة يقولون: القرآن مخلوق، وهو كلام الله، وهؤلاء يقولون: القرآن مخلوق، وهو عبارة عن كلام الله، فقد اتَّفَق الجميع على أن ما بين دفَّتي المصحف مخلوق
[56]
.
2. التّحريم لغةً: المنع عن الشّيء، وشرعًا: ما يستحقُّ فاعله العقاب، وهذا غير صحيح إرادته في حقّه تعالى؛ بل المراد به أنّه تعالى منزَّه متقدِّس عن الظُّلم، وأطلق عليه لفظ التّحريم لمشابهته الممنوع بجامع عدم الشّيء، والظُّلم مستحيل في حقِّه تعالى؛ لأنّ الظُّلم في عُرف اللّغة التّصرُّف في غير الْمُلك أو مجاوزة الحدِّ، وكلاهما مُحَال في حقِّه تعالى؛ لأنّه الملك للعالم كلِّه المتصرِّف بسُلطانه في دقِّه وجِلِّه
[57]
؛ فاللهُ تعالى وحْدَه هو الـعدلُ، وبالـعدل أمَر عباده؛ قال تعالى: {وَمَا أَنَا بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيد} [ق: 29]، وقال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لاَ يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ} [النساء: 40].
3. في الحديث إشارة إلى أن مُلْكه سبحانه لا يَزيدُ بطاعة العباد، ولو كانوا كلُّهم بَرَرةً أتقياءَ، ولا يَنقُص مُلْكُه سبحانه بمعصية العاصين، ولو كان الجنُّ والإنس كلُّهم عُصاةً فَجَرةً؛ فإنه سبحانه الغنيُّ بذاته عمَّن سواه، وله الكمالُ المطلَق في ذاته وصفاته وأفعاله، فمُلْكُه مُلكٌ كاملٌ، لا نقْصَ فيه بوجه من الوجوه
[58]
.
4. إن العباد لا يقدِرون أن يوصلوا إلى الله نفعًا ولا ضرًّا؛ فإن اللهَ تعالى في نفْسه غنيٌّ حميدٌ، لا حاجةَ له بطاعات العباد، ولا يعود نفْعُها إليه؛ وإنما هم ينتفعون بها، ولا يتضرَّرُ بمعاصيهم؛ وإنما هم يتضرَّرون بها؛ قال الله تعالى: {وَلاَ يَحْزُنكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَن يَضُرُّواْ اللَّهَ شَيْئاً} [آل عمران: 176]
[59]
فاللهُ وحْدَه هو مَن يملك النَّفعَ والضرَّ.
5. في الحديث كمال سلطان الله عزَّ وجلَّ وغناه عن خلقه؛ لقوله عزّ وجل: «إِنَّكُمْ لَنْ تَبْلُغُوْا ضَرِّي... وَلَنْ تَبْلُغُوْا نَفْعِي»؛ وذلك لكمال سلطانه عزَّ وجلَّ وكمال غناه، فكأنه تعالى قال: إنما طلبتُ منكم الاستغفار من الذنوب لا لحاجتي لذلك، ولا لتضرُّري بمعاصيكم؛ ولكن المصلحة لكم
[60]
.
6. قَوْلُهُ تَعَالَى: «كُلُّكُمْ ضَالٌّ إِلَّا مَنْ هَدَيْتُهُ» ظَاهِرُ هذا أنهم خُلقوا على الضلال إِلَّا مَن هداه اللَّهُ تعالى، وفي الحديث المشهور: «كُلُّ مَوْلُودٍ يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ» فقد يكون المراد بالأوَّل وصفَهم بما كانوا عليه قبل مبعث النّبيِّ صلى الله عليه وسلم، وأنّهم لو تُركوا وما في طباعهم من إيثار الشّهوات والرّاحة وإهمال النّظر لضلُّوا، وفي هذا دليل لمذهب سائر أهل السّنَّة أنّ المهتديَ هو من هداه اللّه، وبهدى اللّه اهتدى، وبإرادة اللّه تعالى ذلك، وأنّه سبحانه وتعالى إنّما أراد هداية بعض عباده وهم المهتدون، ولم يُرد هداية الآخرين، ولو أرادها لاهتدَوا، خلافًا للمعتزلة في قولهم الفاسد أنّه سبحانه وتعالى أراد هداية الجميع جلَّ الله أن يريد ما لا يقع، أو يقع ما لا يريد
[61]
.
7. إن الله تعالى قادر على الظلم؛ لكنه حرَّمه على نفسه؛ لكمال عدله، ووجُه ذلك: أنه لو كان غيرَ قادر عليه، لم يُثْنِ على نفسه بتحريم الظلم لأنه غيرُ قادر
[62]
.
8. من صفات الله ما هو منفيٌّ؛ مثل الظلم؛ ولكن اعلم أنه لا يوجد في صفات الله عزّ وجل نفيٌ إلا لثبوت ضدِّه، فنفيُ الظلم يعني ثبوت العدل الكامل الذي لا نقصَ فيه
[63]
.
9. في الحديث الردُّ على القدرية في قولهم باستقلال العبد في إيمانه، وكفره، وهداه، وضلاله
[64]
.
10. في الحديثِ الردُّ على الجبرية، وإثبات فعل العبد
[65]
.
11. الـخيرُ والشرُّ كلُّه من الله خلْقًا، ومن الـعبْدِ كَسبًا
[66]
.
12. التَّشبيهُ في الـحديث لتقريب الــمعنى إلى أفهام الـعباد؛ وإلا فمِن الــمعلوم يقينًا أنَّ عطاء الله عبادَه مهما بلَغ لا يَنقُص شيئًا قطُّ من خزائنه سبحانه وتعالى
[67]
.
الفوائد التربوية:
1. ضرْبُ الأمثال من الأساليب الفاعلة في الدعوة إلى الله عز وجل، وتعليم العلم، ومن ثَمَّ ينبغي للمعلِّم والمربِّي أن يقرِّب المعانيَ المعقولةَ لأذهان الناس بضرب الأمثال المحسوسة القريبة إلى أفهامهم
[68]
.
2. الاقتداءُ بالمربِّي والمعلِّم خيرُ وسيلة؛ فإذا أراد الْمُرَبِّي أن يغرِسَ في نفوس أبنائه فضيلةً ما، فإنه يجب أن يتحلَّى بها أولًا، ولهذا قال الله: «إني حرمتُ الظلمَ على نفْسي».
3. على كل مسلم - لا سيَّما الداعية والمربِّي - أن يهتمَّ بما يُصلح القلوبَ؛ فإن "الأصل في التقوى والفجور هو القلبُ، فإذا بَرَّ القلبُ واتَّقى، برَّت الجوارحُ، وإذا فجَر القلبُ، فجَرَت الجوارح"
[69]
.
4. عدمُ الفخر والامتنان بما منحه الله للإنسان من رزق، أو هداية، أو علم؛ فكلُّ ذلك منه وحدَه.
الفوائد الحديثية:
1. لا تعارُضَ بين هذا الحديث وبين ما رواه أبو هريرةَ رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما مِن مولودٍ إلا يُولَد على الفِطرة...»
[70]
؛ إذ الضلالُ المشارُ إليه في هذا الحديث هو الضلالُ الطارئُ على الفِطرة، المغيِّر لها [71] .
2. قد يُضاف القول إلى قائله معنًى لا لفظًا؛ كما في القرآن الكريم؛ فإن الله تعالى يُضيف أقوالًا إلى قائليها، ونحن نعلم أنها أُضيفت معنًى لا لفظًا، كما في قصص الأنبياء وغيرهم، وكلام الهُدْهُد والنَّمْلَة؛ فإنه بغير هذا اللفظ قطعًا
[72]
.
3. الحديث القُدسيُّ: كلُّ ما رواه النبيُّ صلى الله عليه وسلم عن ربِّه عزَّ وجلَّ. لأنه منسوب إلى النبيِّ صلى الله عليه وسلم تبليغًا، وليس من القرآن بالإجماع، وإن كان كلُّ واحد منهما قد بلَّغه النبيُّ صلى الله عليه وسلم أمَّته عن الله عزَّ وجلَّ
[73]
.
4. اختلف العلماء - رحمهم الله - في لفظ الحديث القدسيِّ: هل هو كلام الله تعالى، أو أن الله تعالى أوحى إلى رسوله صلى الله عليه وسلم معناه، واللفظُ لفظ رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ على قولين؛ الأول: أن الحديث القدسيَّ من عند الله لفظه ومعناه؛ لأن النبيَّ صلى الله عليه وسلم أضافه إلى الله تعالى، ومن المعلوم أن الأصل في القول المضاف أن يكون بلفظ قائله لا ناقلِه، لا سيَّما أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم أقوى الناس أمانةً، وأوثقُهم روايةً. والثاني: أن الحديث القدسيَّ معناه من عند الله، ولفظه لفظ النبيِّ صلى الله عليه وسلم
[74]
.
5. لو كان الحديث القدسيُّ من عند الله لفظًا ومعنًى، لكان أعلى سندًا من القرآن؛ لأن النبيَّ صلى الله عليه وسلم يرويه عن ربه تعالى بدون واسطة، كما هو ظاهر السياق، أما القرآن، فنزل على النبيِّ صلى الله عليه وسلم بواسطة جبريل عليه السلام؛ كما قال تعالى: {قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِن رَّبِّكَ بِالْحَقِّ} [النحل: 102]، وقال: ﴿نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ * عَلَىٰ قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ * بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ﴾ [الشعراء: 193-195]
[75]
.
6. لو كان لفظ الحديث القدسيِّ من عند الله، لم يكن بينه وبين القرآن فرقٌ؛ لأن كِلَيهما على هذا التقدير كلام الله تعالى، والحكمةُ تقتضي تساويهما في الحكم حين اتَّفَقا في الأصل، ومن المعلوم أن بين القرآن والحديث القدسيِّ فروقًا كثيرة
[76]
.
7. من الفروق بين القرآن والحديث القدسيِّ: أن الحديث القدسيَّ لا يُتعَّبد بتلاوته؛ بمعنى: أن الإنسان لا يتعبَّد اللهَ تعالى بمجرَّد قراءته؛ فلا يثاب على كلِّ حرف منه عشْرَ حسنات، والقرآن يُتعبَّد بتلاوته بكلِّ حرف منه عشْرُ حسنات
[77]
.
8. من الفروق بين القرآن والحديث القدسيِّ: أن الله عزَّ وجلَّ تحدَّى أن يأتيَ الناس بمثل القرآن أو سورة منه، ولم يَرِد مثلُ ذلك في الأحاديث القدسيَّة
[78]
.
9. من الفروق بين القرآن والحديث القدسيِّ: أن القرآن محفوظ من عند الله عزَّ وجلَّ؛ كما قال سبحانه: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُون} [الحجر: 9]، والأحاديث القدسية بخلاف ذلك؛ ففيها الصحيح والحسن؛ بل أُضيف إليها ما كان ضعيفًا أو موضوعًا، وهذا وإن لم يكن منها؛ لكن نُسِب إليها، وفيها التقديم والتأخير، والزيادةُ والنقص
[79]
.
10. من الفروق بين القرآن والحديث القدسيِّ: أن القرآن لا تجوز قراءته بالمعنى بإجماع المسلمين، أما الأحاديث القدسية، فعلى الخلاف في جواز نقل الحديث النبويِّ بالمعنى، والأكثرون على جوازه
[80]
.
11. من الفروق بين القرآن والحديث القدسيِّ: أن القرآن تُشرَع قراءته في الصلاة، ومنه ما لا تصحُّ الصلاة بدون قراءته، بخلاف الأحاديث القدسية
[81]
.
12. من الفروق بين القرآن والحديث القدسيِّ: أن القرآن لا يمسُّه إلا طاهر على الأصحِّ، بخلاف الأحاديث القدسية
[82]
.
13. من الفروق بين القرآن والحديث القدسيِّ: أن القرآن لا يقرؤه الجُنُب حتى يغتسل على القول الراجح، بخلاف الأحاديث القدسية
[83]
.
14. من الفروق بين القرآن والحديث القدسيِّ: أن القرآن ثبت بالتواتُر القطعيِّ المفيد للعلم اليقينيِّ، فلو أَنكَر أحدٌ منه حرفًا أجمع القرَّاء عليه، لكان كافرًا، بخلاف الأحاديث القدسية؛ فإنه لو أَنكَر شيئًا منها مدَّعيًا أنه لم يثبت، لم يكفر، أما لو أنكره مع علمه أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم قاله، لكان كافرًا؛ لتكذيبه النبيَّ صلى الله عليه وسلم
[84]
.
15. إن أحسن ما يقال في الحديث القدسيِّ: إنه ما رواه النبيُّ صلى الله عليه وسلم عن ربِّه عزّ وجل، ونقتصر على هذا ولا نبحث هل هو من قول الله لفظًا ومعنى، أو من قول الله معنى ومن لفظ النبيِّ صلى الله عليه وسلم؛ لأن هذا فيه نوع من التكلُّف، وقد نُهينا عن التكلُّف، ونُهينا عن التنطُّع وعن التعمُّق
[85]
.
من هدايات الحديث:
1. الله تعالى واسع العطاء، عظيم الجُود، عمَّت نِعَمه سبحانه جميعَ الخلائق، فليس للعباد سواه، ولا نجاةَ لهم إلا بالتعلُّق ببابه، والتزام شَرْعه، وسؤاله العفْوَ والعافيةَ في الدنيا والآخرة.
2. لقد خلَق الله تعالى الخلقَ كلَّهم ذوي فَقرٍ إلى الطعام؛ فكلُّ طاعم كان جائعًا حتى يُطعِمه اللهُ بسَوق الرِّزق إليه وتصحيح الآلات التي هيَّأها له، فلا يظُنَّ ذو الثروة أن الرزقَ الذي في يدِه وقد رفَعه إلى فِيه، أطعَمه إيَّاه أحدٌ غير الله تعالى، وفيه أيضًا أدبٌ للفقراء؛ كأنه قال: لا تَطلُبوا الطعام من غيري؛ فإن هؤلاء الذين تَطلبون منهم أنا الذي أُطعمهم، «فَاسْتَطْعِمُونِي أُطْعِمْكُمْ»، وكذلك الكِساء
[92]
.
3. الظُّلمُ ظُلماتٌ يومَ الـقيامة، فعلى العبد أن يجتنبه، وألَّا يتلبَّس به أبدًا.
4. تتَجلَّى محاسنُ الشريعة الإسلاميَّة في أبهى صورها في أمر الله سبحانه وتعالى بالـعدْل حتى مع الطَّائفة التي نختلِف معها اختلافًا يؤدِّي إلى أشدِّ الـبُغض والـكراهية، يفرِض علينا الـقرآنُ الـكريمُ ألَّا يَحمِلنا بُغضُنا لبعض الناس على عدم الـعدل معهم وإعطائهم حقوقَهم؛ قال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاء بِالْقِسْطِ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُواْ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُون} [المائدة: 8].
5. اللهُ وحْدَه هو الـهادي إلى الطريق الــمستقيم، وهو الذي يُطعِمنا ويَسقينا بحَوْله وقوَّته وحْدَه سبحانه.
6. الدعاءُ وسيلةٌ تُحقِّق الآمالَ، فعلى العبد أن يجتهد في الدعاء، وتحرِّي أوقات الإجابة.
7. مَن أقبلَ على الله في طريق الـهداية أقبَل اللهُ عليه، فهداه ووَقاه من الضَّلال والــمعاصي، ومَن قعَد عن طريق الهداية، وركَن إلى الضلال، لم يَزِدْه اللهُ إلا ضلالًا.
8. اللهُ سبحانه خلَق الـخَلْق، وتكفَّل بما يُقيم مصالحهم كافَّةً في الدُّنيا، ومن ذلك الطَّعام والشَّراب والــملْبَس، فعلى العبد أن يعرفَ ذلك لخالقه سبحانه، وأن يديم شُكرَ نِعَمه سبحانه، ويُقبِل عليه بالتزام أمره واجتناب نهيِه.
9. حتى الــمَلْبَسُ الذي يواري عَورةَ الإنسان قد تكفَّل اللهُ به؛ فنحن نعيشُ في رِعاية الله، ونفتقرُ دائمًا إلى عنايته؛ في الـهداية إلى طريق الـحقِّ، وفي الــمأكل والــمشرب، وفي الــملبس الذي يستُرُ أجسادنا.
10. رحمة الله واسعةٌ، وباب التوبة مفتوحٌ لكل مَن تلبَّس بذَنْب مهما عَظُم، فعلى العبد أن يُبادر بالتوبة النصوح إلى الله عز وجل.
11. النافع والضارُّ هو اللهُ وحْدَه، فلا يسَعُ المسلمَ إلا أن يطلبَ النَّفْعَ من الله، ويستعين على دفع الضرِّ بمعونته ومدده سبحانه.
12. طاعة الـعباد لا تَزيد في مُلْك الله شيئًا، ومعصيتهم لا تَنقُص مُلْكَه سبحانه شيئًا كذلك؛ فالله غنيٌّ عن العالمين.
13. خزائن الله مَلْأى لا تَنفَد أبدًا مهما عظُم عطاء الله لعباده، فعلى المسلم أن يُوسِّع من مسألته لربه، ولا يسأل الله القليلَ، ولا يستعظم على الله خيرًا؛ فإن الله يرزق من يشاء بغير حساب.
14. ما من امرئٍ مسلم يسأل الله عز وجل شيئًا عنده إلا أعطاه إيَّاه، ما لم يدْعُ بإثمٍ، أو قطيعة رَحِم
[93]
.
15. الـفائز مَن وفَّقه الله لطاعته، والـعاجز مَن أتبع نفْسَه هواها، وتمنَّى على الله الأمانيَّ.
16. حمْدُ الله على التَّوفيق للطَّاعة واجبٌ، ولَومُ النَّفْس على الـمعصية مِن سمات مَن بَقِيَ في قلبه شيءٌ من الإيمان.
17. إن الإنسان ضالٌّ إلا من هدى الله، فعليك أن تسأل الله الهداية دائمًا حتى لا تضلَّ.
18. الدعاءُ سبب لهداية الله للعبد.
19. اللهُ سبحانه لا تنفعُه طاعةُ المطيعين، ولا تضرُّه معصيةُ العاصين، مع كمال غناه عن خَلقه، فلم يخلقهم ليتقوَّى بهم من ضعف، ولا يتكثَّر بهم من قلَّة؛ بل خَلَقَهم ليعبدوه؛ قال تعالى: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ * مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ * إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ﴾ [الذاريات: 56-58].
20. أمَا واللَّهِ إنَّ الظُّلمَ لُؤْمٌ = ولكنَّ المسيءَ هو الظَّلُومُ
إلى ديَّانِ يومِ الدِّينِ نمضي = وعندَ اللهِ تَجتَمِعُ الخُصومُ
21. تَوَقَّ دُعَا المظلومِ إنَّ دعاءَه = لَيُرفَعُ فوقَ السُّحْبِ ثم يُجَابُ
تَوَقَّ دُعا مَن ليس بينَ دعائِه = وبَيْنَ إلهِ العالمين حِجَابُ
22. دَعِ الناسَ إذ طالما أَتْعَبُوكَ = وَأَدِّ إلى اللهِ وَجْهَ الأَمَلْ
ولَا تَطْلُبِ الرِّزْقَ مِن طَالِبِيـ = ـهِ وَاطْلُبْهُ ممَّن له قد كَفَلْ
23. لا تَسْأَلَنَّ بُنَيَّ آدَمَ حَاجَةً = وَسَلِ الَّذِي أَبْوَابُهُ لَا تُحْجَبُ
اللَّهُ يَغْضَبُ إنْ تَرَكْتَ سُؤَالَهُ = وَبُنيُّ آدَمَ حِينَ يُسْأَلُ يَغْضَبُ
24. أيا عجبًا كيف يُعْصى الإلـ = ـهُ أمْ كيف يجحده الجاحدُ؟!
وفي كلِّ شيء له آيةٌ = تَدُلُّ على أنه واحدُ
وللهِ في كلِّ تحريكةٍ = وتسكينةٍ أبدًا شاهدُ
النقول:
قال ابن دقيق العيد رحمه الله: "قوله: "«إني حرَّمتُ الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرَّمًا» قال بعض العلماء: معناه: لا ينبغي لي ولا يجوز عليَّ؛ كما قال تعالى: {وَمَا يَنبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَن يَتَّخِذَ وَلَدًا} [مريم: ٩٢]؛ فالظلم مُحَالٌ في حقِّ الله تعالى. قال بعضهم في هذا الحديث: لا يَسُوغ لأحد أن يسأل الله تعالى أن يَحكُم له على خَصمِه إلا بالحقِّ؛ لقوله سبحانه: «إني حرَّمتُ الظلم على نفسي» فهو سبحانه لا يَظلِم عباده؛ فكيف يظنُّ ظانٌّ أنه يظلم عباده لغيره؟! وكذلك قال: «فلا تظالموا» المعنى: المظلوم يُقتَصُّ له من الظالم، وحُذفت إحدى التاءين تخفيفًا، أصله: فلا تتظالموا. وقوله: «كلُّكم ضالٌّ إلا من هديتُه، وكلُّكم عارٍ إلا من كسوتُه، وكلُّكم جائع إلا من أطعمتُه» تنبيهٌ على فقرنا وعجزنا عن جلب منافعنا، ودفع مَضَارِّنا، إلا أن يُعيننا الله سبحانه على ذلك، وهو يرجع إلى معنى: لا حول ولا قوة إلا بالله. وليَعلَم العبدُ أنه إذا رأى آثار هذه النعمة عليه، أن ذلك من عند الله، ويتعيَّن عليه شكر الله تعالى، وكلَّما ازداد من ذلك، يزيد في الحمد والشكر لله تعالى. وقوله: «فاستهدوني أهدكم»؛ أي: اطلبوا مني الهداية أَهدِكم، والجملة في ذلك أن يعلم العبد أنه طلب الهداية من مَوْلاه فهداه، ولو هداه قبل أن يسأله، لم يَبعُد أن يقول: إنما أُوتيتُه على علم عندي. وكذلك «كلكم جائع» إلى آخره؛ يعني أنه خلَق الخلقَ كلَّهم ذوي فَقرٍ إلى الطعام؛ فكلُّ طاعم كان جائعًا حتى يُطعِمه اللهُ بسَوق الرِّزق إليه وتصحيح الآلات التي هيَّأها له، فلا يظُنَّ ذو الثروة أن الرزقَ الذي في يدِه وقد رفَعه إلى فِيه، أطعَمه إيَّاه أحدٌ غير الله تعالى، وفيه أيضًا أدبٌ للفقراء؛ كأنه قال: لا تَطلُبوا الطعام من غيري؛ فإن هؤلاء الذين تَطلبون منهم أنا الذي أُطعمهم، «فَاسْتَطْعِمُونِي أُطْعِمْكُمْ»، وكذلك ما بعده في أمرِ الكِساء"
[94]
.
قال ابن عثيمين رحمه الله: "الحديث يسمَّى عند المحدِّثين قُدسيًّا، والحديث القُدسيُّ: كلُّ ما رواه النبيُّ صلى الله عليه وسلم عن ربِّه عزَّ وجلَّ. لأنه منسوب إلى النبيِّ صلى الله عليه وسلم تبليغًا، وليس من القرآن بالإجماع، وإن كان كلُّ واحد منهما قد بلَّغه النبيُّ صلى الله عليه وسلم أمَّته عن الله عزَّ وجلَّ. وقد اختلف العلماء - رحمهم الله - في لفظ الحديث القدسيِّ: هل هو كلام الله تعالى، أو أن الله تعالى أوحى إلى رسوله صلى الله عليه وسلم معناه، واللفظُ لفظ رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ على قولين: القول الأول: أن الحديث القدسيَّ من عند الله لفظُه ومعناه؛ لأن النبيَّ صلى الله عليه وسلم أضافه إلى الله تعالى، ومن المعلوم أن الأصل في القول المضاف أن يكون بلفظ قائله لا ناقلِه، لا سيَّما أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم أقوى الناس أمانةً، وأوثقُهم روايةً.
القول الثاني: أن الحديث القدسيَّ معناه من عند الله، ولفظه لفظ النبيِّ صلى الله عليه وسلم، وذلك لوجهين:
الوجه الأول: لو كان الحديث القدسيُّ من عند الله لفظًا ومعنًى، لكان أعلى سندًا من القرآن؛ لأن النبيَّ صلى الله عليه وسلم يرويه عن ربِّه تعالى بدون واسطة، كما هو ظاهر السياق، أما القرآن، فنزل على النبيِّ صلى الله عليه وسلم بواسطة جبريل عليه السلام؛ كما قال تعالى: {قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِن رَّبِّكَ بِالْحَقِّ} [النحل: 102]، وقال: ﴿نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ * عَلَىٰ قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ * بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ﴾ [الشعراء: 193-195]. الوجه الثاني: أنه لو كان لفظ الحديث القدسيِّ من عند الله، لم يكن بينه وبين القرآن فرقٌ؛ لأن كِلَيهما على هذا التقدير كلام الله تعالى، والحكمةُ تقتضي تساويهما في الحكم حين اتَّفَقا في الأصل، ومن المعلوم أن بين القرآن والحديث القدسيِّ فروقًا كثيرة، منها: أن الحديث القدسيَّ لا يُتعَّبد بتلاوته؛ بمعنى: أن الإنسان لا يتعبَّد اللهَ تعالى بمجرَّد قراءته؛ فلا يثاب على كلِّ حرف منه عشْرَ حسنات، والقرآن يُتعبَّد بتلاوته بكلِّ حرف منه عشْرُ حسنات. ومنها: أن الله عزَّ وجلَّ تحدَّى أن يأتيَ الناس بمثل القرآن أو آية منه، ولم يَرِد مثلُ ذلك في الأحاديث القدسيَّة.
ومنها: أن القرآن محفوظ من عند الله عزَّ وجلَّ؛ كما قال سبحانه: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُون} [الحجر: 9]، والأحاديث القدسية بخلاف ذلك؛ ففيها الصحيح والحسن؛ بل أُضيف إليها ما كان ضعيفًا أو موضوعًا، وهذا وإن لم يكن منها؛ لكن نُسِب إليها، وفيها التقديم والتأخير، والزيادةُ والنقص. ومنها: أن القرآن لا تجوز قراءته بالمعنى بإجماع المسلمين، أما الأحاديث القدسية، فعلى الخلاف في جواز نقل الحديث النبويِّ بالمعنى، والأكثرون على جوازه. ومنها: أن القرآن تُشرَع قراءته في الصلاة، ومنه ما لا تصحُّ الصلاة بدون قراءته، بخلاف الأحاديث القدسية. ومنها: أن القرآن لا يمسُّه إلا طاهر على الأصحِّ، بخلاف الأحاديث القدسية. ومنها: أن القرآن لا يقرؤه الجُنُب حتى يغتسل على القول الراجح، بخلاف الأحاديث القدسية. ومنها: أن القرآن ثبت بالتواتُر القطعيِّ المفيد للعلم اليقينيِّ، فلو أَنكَر منه حرفًا أجمع القرَّاء عليه، لكان كافرًا، بخلاف الأحاديث القدسية؛ فإنه لو أَنكَر شيئًا منها مدَّعيًا أنه لم يثبت، لم يكفر، أما لو أنكره مع علمه أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم قاله، لكان كافرًا؛ لتكذيبه النبيَّ صلى الله عليه وسلم. وأجاب هؤلاء عن كون النبيِّ صلى الله عليه وسلم أضافه إلى الله، والأصل في القول المضاف أن يكون لفظ قائله بالتسليم أن هذا هو الأصل؛ لكن قد يُضاف إلى قائله معنًى لا لفظًا؛ كما في القرآن الكريم؛ فإن الله تعالى يُضيف أقوالًا إلى قائليها، ونحن نعلم أنها أضيفت معنًى لا لفظًا، كما في قصص الأنبياء وغيرهم، وكلام الهُدْهُد والنَّمْلَة؛ فإنه بغير هذا اللفظ قطعًا. وبهذا يتبيَّن رجحان هذا القول، وليس الخلاف في هذا كالخلاف بين الأشاعرة وأهل السنَّة في كلام الله تعالى؛ لأن الخلاف بين هؤلاء في أصل كلام الله تعالى؛ فأهل السنَّة يقولون: كلام الله تعالى كلام حقيقيٌّ مسموع يتكلَّم سبحانه بصوت وحرف، والأشاعرة لا يُثبتون ذلك؛ وإنما يقولون: كلام الله تعالى هو المعنى القائم بنفسه، وليس بحرف وصوت؛ ولكن الله تعالى يَخلُق صوتًا يعبِّر به عن المعنى القائم بنفسه، ولا شكَّ في بطلان قولهم، وهو في الحقيقة قول المعتزلة؛ لأن المعتزلة يقولون: القرآن مخلوق، وهو كلام الله، وهؤلاء يقولون: القرآن مخلوق، وهو عبارة عن كلام الله، فقد اتَّفَق الجميع على أن ما بين دفَّتي المصحف مخلوق. ثم لو قيل في مسألتنا (الكلام في الحديث القدسيِّ): إن الأَولَى ترك الخَوض في هذا؛ خوفًا من أن يكون من التنطُّع الهالك فاعلُه، والاقتصار على القول بأن الحديث القدسيَّ ما رواه النبيُّ صلى الله عليه وسلم عن ربِّه وكفى. لكان ذلك كافيًا، ولعلَّه أسلمُ، والله أعلم"
[95]
.
قال النوويُّ رحمه الله: "«إِنِّي حَرَّمْتُ الظُّلْمَ عَلَى نَفْسِي». قال العلماء: معناه: تقدَّستُ عنه وتعالَيْتُ، والظّلم مستحيل في حقّ اللّه - سبحانه وتعالى - كيف يجاوز سبحانه حدًّا وليس فوقه من يُطيعه؟! وكيف يتصرّف في غير ملك والعالم كلُّه في ملكه وسلطانه؟! وأصل التّحريم في اللّغة: المنع، فسمَّى تقدّسه عن الظّلم تحريمًا؛ لمشابهته للممنوع في أصل عدم الشيء. قوله تعالى: «وجعلته بينكم محرّمًا فلا تظالموا» هو بفتح التّاء؛ أي: لا تتظالموا، والمراد: لا يظلم بعضكم بعضًا، وهذا توكيد لقوله تعالى: «يا عبادي وجعلته بينكم محرّمًا». وزيادة تغليظ في تحريمه قوله تعالى: «كلّكم ضالّ إلّا من هديته». قال المازِريُّ: ظاهر هذا أنّهم خُلقوا على الضّلال إلّا من هداه اللّه تعالى، وفي الحديث المشهور: «كلّ مولود يولد على الفطرة» قال: فقد يكون المراد بالأوَّل وصفَهم بما كانوا عليه قبل مبعث النّبيِّ صلى الله عليه وسلم، وأنّهم لو تركوا وما في طباعهم من إيثار الشّهوات والرّاحة وإهمال النّظر لضلُّوا، وهذا الثّاني أظهر، وفي هذا دليل لمذهب أصحابنا وسائر أهل السّنَّة أنّ المهتديَ هو من هداه اللّه، وبهدى اللّه اهتدى، وبإرادة اللّه تعالى ذلك، وأنّه سبحانه وتعالى إنّما أراد هداية بعض عباده وهم المهتدون، ولم يُرد هداية الآخرين، ولو أرادها لاهتدَوا، خلافًا للمعتزلة في قولهم الفاسد أنّه سبحانه وتعالى أراد هداية الجميع جلَّ الله أن يريد ما لا يقع، أو يقع ما لا يريد"
[96]
.
قال الصنعانيُّ رحمه الله: "التّحريم لغةً: المنع عن الشّيء، وشرعًا: ما يستحقُّ فاعله العقاب، وهذا غير صحيح إرادته في حقّه تعالى؛ بل المراد به أنّه تعالى منزَّه متقدِّس عن الظّلم، وأَطلَق عليه لفظ التّحريم لمشابهته الممنوع بجامع عدم الشّيء، والظّلم مستحيل في حقّه تعالى؛ لأنّ الظّلم في عرف اللّغة التّصرُّف في غير الملك أو مجاوزة الحدِّ، وكلاهما مُحال في حقّه تعالى؛ لأنّه الملك للعالم كلّه المتصرّف بسلطانه في دِقِّه وجِلِّه. وقوله: «فلا تظالموا» تأكيد لقوله: «وجعلته بينكم محرّمًا». والظّلم قبيح عقلًا، أقرَّه الشّارع، وزاده قبحًا، وتوعَّد عليه بالعذاب؛ {وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْمًا} [طه: 111] وغَيْرَها"
[97]
.
قال ابن عثيمين رحمه الله: "نداءٌ من الله عزّ وجل أبلغنا به أصدق المخبِرين وهو محمد صلى الله عليه وسلم. وقوله: «يَا عِبَادِي» يشمل كلَّ من كان عابدًا بالعبودية العامَّة والعبودية الخاصَّة. «إِنِّي حَرَّمتُ الظُّلمَ عَلَى نَفسِي»؛ أي: منعتُه مع قدرتي عليه، وإنما قلنا: مع قدرتي عليه؛ لأنه لو كان ممتنعًا على الله لم يكن ذلك مدحًا ولا ثناءً؛ إذ لا يُثنى على الفاعل إلا إذا كان يمكِنه أن يفعل أو لا يفعل. فلو سألَنا سائل مثلًا وقال: هل يقدر الله أن يَظلِم الخلق؟ فالجواب: نعم؛ لكن نعلم أن ذلك مستحيل بخبره، حيث قال: {وَلاَ يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا} [الكهف: 49]. «وَجَعَلتُهُ بَينَكُمْ مُحَرَّمًا»؛ أي: صيَّرتُه بينكم محرَّمًا. «فَلا تَظَالَمُوا» هذا عطف معنويٌّ على قوله: «جَعَلتُهُ بَينَكُمْ مُحَرَّمًا»؛ أي: فبناءً على كونه محرَّمًا لا تظالموا؛ أي: لا يَظلِم بعضكم بعضًا. «يَا عِبَاديَ كُلُّكُم ضَالٌّ»؛ أي: تائه عن الطريق المستقيم «إِلاَّ مَنْ هَدَيْتُهُ»؛ أي: علَّمتُه ووفَّقته، وعلَّمته هذه هداية الإرشاد، ووفَّقته هداية التوفيق. «فَاستَهدُونِي أَهدِكُمْ»؛ أي: اطلبوا مني الهداية، لا من غيري، أَهدِكم، وهذا جواب الأمر. «يَا عِبَادِي، كُلُّكُمْ جَائِعٌ إلَّا مَنْ أَطْعَمْتُهُ»؛ أي: كلُّكم جائع إلا من أطعمه الله، وهذا يشمل ما إذا فُقِد الطعام، أو وُجِد ولكن لم يتمكَّن الإنسان من الوصول إليه، فالله هو الذي أنبت الزرع، وهو الذي أَدَرَّ الضَّرْعَ، وهو الذي أحيا الثمار، واقرأ من سورة الواقعة من قول الله تعالى: ﴿أَفَرَأَيْتُمْ مَا تُمْنُونَ * أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخَالِقُونَ * نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ * عَلَىٰ أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثَالَكُمْ وَنُنْشِئَكُمْ فِي مَا لَا تَعْلَمُونَ * وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولَىٰ فَلَوْلَا تَذَكَّرُونَ * أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ * أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ * لَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَامًا فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ * إِنَّا لَمُغْرَمُونَ * بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ * أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ * أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ * لَوْ نَشَاءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجًا فَلَوْلَا تَشْكُرُونَ * أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ * أَأَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَهَا أَمْ نَحْنُ الْمُنْشِئُونَ * نَحْنُ جَعَلْنَاهَا تَذْكِرَةً وَمَتَاعًا لِلْمُقْوِينَ * فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ﴾ [الواقعة: 58-74]، تجد كيف تحدَّى الله الخلق في هذه الآيات، لا بالنسبة للمأكول، ولا المشروب، ولا ما يَصلُح به المأكول والمشروب؛ فكلُّنا جائع إلا من أطعمه الله. كذلك أيضًا يمكِن أن يوجد الطعام؛ لكن قد لا يتمكَّن الإنسان منه؛ إما لكونه محبوسًا، أو مصابًا بمرض، أو بعيدًا عن المحلِّ الخِصب والرخاء. «فَاسْتَطْعِمُونِي»؛ أي: اطلبوا مني الإطعام، وإذا طلبتم ذلك ستجدونه. «أُطْعِمْكُمْ» أُطعِم: فعل مضارع مجزوم على أنه جواب الأمر. «يَا عِبَادِي، كُلُّكُم عَارٍ» فكلُّنا عارٍ؛ لأننا خرجنا من بطون أمَّهاتنا عُراةً. «إِلَّا مَنْ كَسَوتُهُ فَاستَكْسُونِي أَكْسُكُمْ» سواء كان من فعل الإنسان؛ كالكبير يشتري الثوب، أو مِن فعل غيره؛ كالصغير يُشترى له الثوب، وربما يقال: إنه يشمل لباس الدِّين، فيَشمَل الكِسْوَتين: كسوةَ الجسد الحسيَّة، وكسوةَ الروح المعنوية"
[98]
.
قال ابن رجبٍ رحمه الله: "الهدايةُ نوعانِ: هدايةٌ مُجمَلةٌ، وهي الهداية للإسلام والإيمان، وهي حاصلةٌ للمؤمن، وهدايةٌ مفصَّلةٌ، وهي هدايةٌ إلى معرفة تفاصيل أجزاء الإيمان والإسلام، وإعانته على فعل ذلك، وهذا يحتاج إليه كلُّ مؤمن ليْلًا ونهارًا؛ ولهذا أمر الله عباده أن يقرؤوا في كلِّ ركعة من صلاتهم قولَه: {اهدِنَــــا الصِّرَاطَ المُستَقِيم} [الفاتحة: 6]"
[99]
.
قال النوويُّ رحمه الله: "قَوْلُهُ تَعَالَى: «مَا نَقَصَ ذَلِكَ مِمَّا عِنْدِي إِلَّا كَمَا يَنْقُصُ الْمِخْيَطُ إِذَا أُدْخِلَ الْبَحْرَ»: الْمِخْيَطُ: بكسر الميم وفتح الياء، هو الإبرة. قال العلماء: هذا تقريب إلى الأفهام، ومعناه: لا يَنقُص شيء أصلًا، كما قال في الحديث الآخر: «لا يَغِيضُها نفقة»؛ أي: لا يَنقُصها نفقة؛ لأنّ ما عند اللّه لا يدخله نقص؛ وإنّما يدخل النّقص المحدود الفانيَ، وعطاء اللّه تعالى من رحمته وكرمه، وهما صفتان لا يتطرَّق إليهما نقص، فضرب المثل بالمخيط في البحر لأنّه غاية ما يضرب به المثل في القلَّة، والمقصود التّقريب إلى الأفهام بما شاهدوه؛ فإنّ البحر من أعظم المرئيّات عِيانًا، وأكبرها، والإبرة من أصغر الموجودات مع أنّها صقيلة لا يتعلّق بها ماء واللّه أعلم. قوله تعالى: «يا عبادي إنّكم تخطئون باللّيل والنّهار» الرّواية المشهورة (تُخطئون) بضمّ التّاء، ورُوي بفتحها، وفتح الطّاء، يُقال: خَطِئ يَخطَأ إذا فعل ما يأثم به، فهو خاطئ"
[100]
.
قال ابن عثيمين رحمه الله: "«يَا عِبَادي، إِنَّكُمْ تُخْطِئُونَ»؛ أي: تجانبون الصواب؛ لأن الأعمال إما خطأٌ وإما صواب، فالخطأ مجانَبةُ الصواب، وذلك إما بترك الواجب، وإما بفعل المحرَّم. وقوله: بِالَّليْلِ الباء هنا بمعنى: (في)... «وَأَنَا أَغفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا»؛ أي: أسترُها وأتجاوز عنها مهما كَثُرت، ومهما عَظُمت؛ ولكن تحتاج إلى الاستغفار. «فَاستَغفِرُونِي أَغْفِر لَكُم»؛ أي: اطلبوا مغفرتي، إما بطلب المغفرة؛ كأن يقول: اللهم اغفر لي، أو أستغفر الله وأتوب إليه. وإما بفعل ما تكون به المغفرة، فمن قال: سبحان الله وبحمده مائة مرة غُفرت خطاياه ولو كانت مثلَ زبَد البحر. «يَا عِبَاديَ إِنَّكُمْ لَنْ تَبْلُغُوا ضرِّي فَتَضُرُّونِي، وَلَنْ تَبْلُغُوا نَفعِي فَتَنْفَعُونِي»؛ أي: لن تستطيعوا أن تضرُّوني ولا أن تنفعوني؛ لأن الضارَّ والنافع هو الله عزّ وجل، والعباد لا يستطيعون هذا؛ وذلك لكمال غناه عن عباده عزَّ وجلَّ. «يَا عِبَادِي، لَو أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ كَانُوا عَلَى أَتقَى قَلبِ رَجُلٍ وَاحدٍ مِنكُمْ مَا زَادَ ذَلِكَ فِي مُلْكِي شَيْئًا» يعني: لو أن كلَّ العباد من الإنس والجنِّ، الأوَّلين والآخرين، كانوا على أتقى قلب رجل، ما زاد ذلك في ملك الله شيئًا؛ وذلك لأن ملكه عزَّ وجلَّ عامٌّ واسع لكل شيء، للتَّقيِّ والفاجر.
ووجَّه قوله: «مَا زَادَ ذَلِكَ فِي مُلكِي شَيئًا» أنهم إذا كانوا على أتقى قلب رجل واحد كانوا من أولياء الله، وأولياءُ الله عزَّ وجل جنودُه، وجنوده يتَّسِع بهم مُلكه، كما لو كان للمَلِك من ملوك الدنيا جنود كثيرون، فإن ملكه يتَّسِع بجنوده. ثم قال: «يَا عِبَادِي لَو أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ كَانُوا عَلَى أَفجَرِ قَلبِ رَجُلٍ وَاحدٍ مِنكُمْ مَا نَقَصَ ذَلِكَ مِن مُلْكِي شَيْئًا» ووجه ذلك: أن الفاجر عدوٌّ لله عزَّ وجلَّ، فلا يَنصُر الله، ومع هذا لا يَنقُص من ملكه شيئًا؛ لأن الله تعالى غنيٌّ عنه. «يَا عِبَادِي لَو أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ قَامُوا في صَعِيدٍ وَاحِدٍ فَسَأَلونِي فَأَعطَيتُ كُلَّ وَاحِدٍ مَسأَلَتَهُ»؛ أي: إذا قاموا في أرض واحدة منبسِطة؛ وذلك لأنه كلَّما كَثُر الجَمع، كان ذلك أقربَ إلى الإجابة. «مَا نَقَصَ ذَلِكَ مِمَّا عِنْدِي إلَّا كَمَا يَنْقُصُ المِخْيَطُ إذَا أُدْخِلَ البَحرَ» وهذا من باب المبالغة في عدم النقص؛ لأن كل واحد يعلم أنك لو أَدخلتَ المخيَط، وهو الإبرة الكبيرة، في البحر ثم أخرجتَها، فإنها لا تَنقُص البحر شيئًا ولا تغيِّره... فكذلك لو أن أوَّل الخلق وآخرهم، وإنسَهم وجنَّهم، سألوا الله عزَّ وجلَّ، وأعطى كلَّ إنسان مسألته مهما بلغت، فإن ذلك لا يَنقُص ما عنده إلا كما يَنقُص المخيَط إذا أُدخل البحر، ومن المعلوم أن المخيَط إذا أُدخِل البحر لا يَنقُص البحر شيئًا، وفي الحديث الصحيح عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم أنه قال: «يَدُ اللهِ مَلأى سحَّاء»؛ أي: كثيرة العطاء. «الَّليلَ والنَّهَارَ»؛ أي: في الليل والنهار. «أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْفَقَ مُنْذُ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرض فَإِنَّهُ لَمْ يَغِضْ»؛ أي: لم يَنقُص «مَا فِي يَمِيْنِهِ»
[101]
" [102] .
قال ابن دقيق العيد رحمه الله: "وقوله: «إنكم تخطئون بالليل والنهار» في هذا الكلام من التوبيخِ ما يَسْتحي منه كلُّ مؤمن؛ وذلك أن اللهَ خلَقَ الليل ليُطاع فيه، ويُعبَد بالإخلاص، حيث تسلَمُ الأعمال فيه غالبًا من الرِّياء والنفاق، أفلا يَستحي المؤمن ألَّا يُنفِق الليل والنهار في الطاعة؟! فإنه جُعِل مشهودًا من الناس، فيَنْبغي من كلِّ فطِن أن يُطيع الله فيه أيضًا، ولا يتظاهر بين الناس بالمخالَفة. وكيف يَحسُن بالمؤمن أن يخطئ سرًّا أو جهرًا؛ لأنه سبحانه وتعالى قد قال بعد ذلك: «وأنا أغفر الذنوب جميعًا»، فذَكَر الذنوب بالألف واللام التي للتعريف، وأكَّدها بقوله: «جميعًا» وإنما قال ذلك قبل أمره؛ إيمانًا بالاستغفار؛ لئلا يَقنَط أحد من رحمة الله لعظم ذنب ارتكبه. قوله: «يا عبادي، لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم» إلى آخره: فيه ما يدلُّ على أن تقوى المتَّقِين رحمة لهم، وأنها لا تَزيد في ملكه شيئًا. وأما قوله: «لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنَّكم قاموا في صعيد واحد» إلى آخره: ففيه تنبيهُ الخلق على أن يعظِّموا المسألة، ويوسِّعوا الطلب، ولا يقتصر سائل، ولا يختصر طالب؛ فإن ما عند الله لا يَنقُص، وخزائنه لا تَنفَد، فلا يظنَّ ظانٌّ أن ما عند الله يَغِيضه الإنفاق؛ كما قال صلى الله عليه وسلم في الحديث الآخر: «يَدُ الله ملأى لا يَغِيضُها نفقةٌ، سحَّاءُ الليلَ والنهارَ؛ أرأيتُم ما أنفق منذ خلق السمواتِ والأرضَ؛ فإنه لم يَغِضْ ما في يمينه»
[103]
، وسرُّ ذلك أن قدرته صالحة للإيجاد دائمًا، لا يجوز عليها عجزٌ ولا قصورٌ، والممكِناتُ لا تنحصر ولا تتناهى. وقوله: «إلا كما يَنقُص الْمِخيَط إذا أُدخل البحر» هذا مَثَلٌ قُصِد به التقريب إلى الأفهام بما نشاهده، والمعنى: أن ذلك لا يَنقُص مما عنده شيئًا، والْمِخْيَط بكسر الميم وإسكان الخاء وفتح الياء هو الإبرة. وقوله: "«إنما هي أعمالكم أُحصيها لكم ثم أوفِّيكم إيَّاها، فمن وجد خيرًا فليحمد الله» يعني: لا يَسنِد طاعته وعبادته من عمله لنفسه؛ بل يَسنِدها إلى التوفيق، ويَحمَد الله على ذلك.
وقوله: «ومن وجد غير ذلك» لم يَقُلْ: ومن وجد شرًّا؛ يعني: ومن وجد غيرَ الأفضل، فلا يلومنَّ إلا نفسه، أكَّد ذلك بالنون؛ تحذيرًا أن يَخطُر في قلب عامل أن اللَّوْمَ تستحقُّه غيرُ نفسه. والله أعلم"
[104]
.
قال ابن رجبٍ رحمه الله: "إن العباد لا يقدِرون أن يوصلوا إلى الله نفعًا ولا ضرًّا؛ فإن اللهَ تعالى في نفْسه غنيٌّ حميدٌ، لا حاجةَ له بطاعات العباد، ولا يعود نفْعُها إليه، وإنما هم ينتفعون بها، ولا يتضرَّرُ بمعاصيهم؛ وإنما هم يتضرَّرون بها؛ قال الله تعالى: {وَلاَ يَحْزُنكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَن يَضُرُّواْ اللَّهَ شَيْئاً} [آل عمران: 176]"(
[105]
).
قال ابن عثيمين رحمه الله: "«يَا عِبَادِي، إِنَّمَا هِيَ أَعْمَالُكُمْ»: هذه جملة فيها حصرٌ، طريقُه: (إنما)؛ أي: ما هي إلا أعمالكم «أُحْصِيْهَا لَكُمْ»؛ أي: أضبطها تمامًا بالعدِّ لا زيادة ولا نقصان؛ لأنهم كانوا في الجاهلية لا يعرفون الحساب، فيضبطون الأعداد بالحصى...
«ثُمَّ أُوَفِّيكُمْ إِيَّاهَا»؛ أي: في الدنيا والآخرة، وقد يكون في الدنيا فقط، وقد يكون في الآخرة فقط. قد يكون في الدنيا فقط؛ فإن الكافر يُجازى على عمله الحَسَن؛ لكن في الدنيا لا في الآخرة، والمؤمن قد يؤخَّر له الثواب في الآخرة، وقد يُجازى به في الدنيا وفي الآخرة؛ قال الله تعالى: {مَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِن نَّصِيب} [الشورى: 20]... إذًا؛ فالتوفية تكون في الدنيا دون الآخرة للكافر، أما المؤمن فتكون في الدنيا والآخرة جميعًا، أو في الآخرة فقط. «فَمَنْ وَجَدَ خَيْرًا فَليَحْمَدِ اللهَ»؛ أي: من وجد خيرًا من أعماله، فليحمد الله على الأمرين: على توفيقه للعمل الصالح، وعلى ثواب الله له. «وَمَنْ وَجَدَ غَيْرَ ذَلِكَ»؛ أي: وجد شرًّا أو عقوبة، «فَلا يَلُومَنَّ إِلَّا نَفسَهُ»؛ لأنه لم يُظلَم، واللَّوم: أن يَشعُر الإنسان بقلبه بأن هذا فعلٌ غيرُ لائق وغير مناسب، وربما ينطق بذلك بلسانه"
[106]
.