ثالثًا: الوَلاءُ والبَراءُ

رقم الحديث: 52

52 - عن أبي سعيدٍ الخُدريِّ رضي الله عنه، أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: «لتَتَّبِعُنَّ سَنَنَ مَن قَبْلَكم شِبرًا بشِبرٍ، وذراعًا بذراعٍ، حتى لو سَلَكوا جُحْرَ ضَبٍّ لَسَلكْتموه»، قلنا: يا رسول الله، اليهود والنصارى؟ قال: «فمن؟!» [1] .

ترجمة راوي الحديث:
هو: سعدُ بنُ مالكِ بنِ سِنَانٍ الأنصاريُّ الخزرجيُّ الْمَدنيُّ، أبو سعيدٍ الخُدريُّ، صحَابِيٌّ جَلِيلٌ من فُقَهَاء الصَّحَابَةِ، اسْتُصْغِرَ يَوْمَ أُحُدٍ، ثُمَّ كَانَ أَوَّلَ مَشَاهِدِه الْخَنْدَقُ، وَشَهِدَ مع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ثِنْتَيْ عَشْرَةَ غزوةً، وشَهِد بيعة الشجرة، روى حديثًا كثيرًا: منه في الصحيحين ثلاثة وأربعون حديثًا، وانفرد البخاريُّ بستَّةَ عَشَرَ حديثًا له، وانفرد مسلمٌ له باثنين وخمسين حديثًا، وأفتى مدَّةً، وأبوه من شهداء أُحد، مات في أول سنة أربع وسبعين
[2]
.
غريب الحديث:
السَّنَن: الطريق، ورُوِي: «سُنَن» جمع سُنَّة، بمعنى الطريقة
[3]
.
الضَّبُّ: حيوانٌ معروفٌ يُشبه الوَرَل، ولا يشرَب الماء، ويَعيش حوالَيْ سَبعِمِائة سنةٍ، ويَبُول كل أربعين يومًا قطرةً واحدةً
[4]
.
المعنى الإجماليُّ للحديث:
يروي أبو سعيدٍ الخُدريِّ رضي الله عنه، أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: «لتَتَّبِعُنَّ سنَنَ مَن قَبْلَكم»؛ أي: ستتَّبِعون طريقةَ الَّذين كَانُوا قبلَكُمْ التي ابْتَدَعُوهَا من تِلْقَاءِ أنفسهم بعد أنبيائهم، من التغيير في دينهم. «شِبرًا بشِبرٍ، وذراعًا بذراعٍ»: حال كون الاتِّباع شبرًا بشبر، وذراعًا بذراع، وهو كناية عن شدَّة الموافقة لهم في المخالفات والمعاصي لا الكفر. «حتى لو سلكوا جُحْرَ ضَبٍّ لَسَلكْتموه»: تأكيد على المبالغة في اتباعهم، فمهما بلغوا إلى غاية، فستتَّبِعونهم لتَبلُغوها.
قال أبو سعيد: (قلنا: يا رسولَ الله، اليهود والنصارى؟)؛ أي: أَهُمُ اليهودُ والنصارى؟ أو: أتعني اليهودَ والنصارى؟ قال صلى الله عليه وسلم: «فمَن؟!»: استفهام استنكاريٌّ؛ أي: فمن غير أولئك؟! يعني ليس المرادَ غيرُهم.
الشرح المفصَّل للحديث:
هذا الحديثُ فيه مُعجزةٌ من معجزات النبيِّ صلى الله عليه وسلم، وهي إخبارُه بما سيكون في أُمَّته من الأمور الغَيبية، فأخبر أن المسلمين سيَصيرون إلى اتِّباع غيرهم في المعاصي والمخالَفات، وقد حصل ذلك بعده، فمال أكثرُ الناس إلى الحِيَل، وإلى أكْل الربا، وعبادة الصالحين، والتشبُّه بهم في ملابسهم وشعارهم، وإقامة الحدود على الضعفاء دون الأغنياء، وغير ذلك
[5]
.
وإخبار النبيِّ صلى الله عليه وسلم بهذا الأمر ليس إقرارًا منه له؛ بل قد حذَّر النبيُّ صلى الله عليه وسلم، ونهى عن اتِّباع اليهود والنصارى في كلِّ المعاملات
[6]
.
لذا؛ كان الدعاء بالهداية للصراط المستقيم؛ كما قال الله تعالى: ﴿اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ﴾ [الفاتحة: 6-7]. والمغضوب عليهم: اليهود، والضالون: النصارى.
وقوله: «لتتبِعُنَّ سَنَن مَن كان قبلَكم شِبرًا بشِبر، وذراعًا بذراعٍ» تمثيلٌ للاقتداء بهم في كل الأمور التي نهى عنها الشرع وحذَّر منها، وبيان أن هذه الأمّة يطرأ عليها من الابتداع والاختلاف مثلُ الذي كان وقَع على السابقين
[7]
. وقد أخرج الترمذيُّ عن عبد الله بن عمرٍو رضي الله عنهما، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ليأتينَّ على أُمتي ما أتى على بني إسرائيل حذْوَ النَّعل بالنعل، حتى إن كان منهم مَن أَتَى أُمَّه علانيةً، لكان في أُمتي مَن يصنع ذلك» [8] .
والمراد من ذلك هو بيان شدَّة موافقتهم في المعاصي والمخالَفات، لا في الشرك والكفر بالله
[9]
.
وهذا الإخبارُ منه صلى الله عليه وسلم ليس على ظاهره؛ بل هو عامٌّ مخصوصٌ؛ فإنه ليس كلُّ المسلمين يتَّبِعون مَن كان قبلَهم، ففيهم المتمسِّكون، والعلماءُ، وأهل الدين والتقوى؛ وإنما المراد: يكون فيكم اتِّباع لِمَن كان قبلَكم
[10]
.
وقوله: «حتى لو سلكوا جُحْرَ ضَبٍّ لسلكتموه» تمثيلٌ وبيانٌ لمطلق الاقتداء بهم في كل أمر، وإنما اختار الضبَّ لضِيقه ورداءته، وخُبث رائحته؛ يريد أنهم لشدة اقتفائهم آثارَ مَن قبلهم لو دخلوا مكانًا ضيقًا رديئًا لدخلوه
[11]
.
وقوله: «اليهود والنصارى؟!» فيه استنكارُ ذلك من الصحابة؛ فإنهم استعظموا أن يكون فيهم اتباعُ اليهود والنصارى؛ كأنهم قالوا: أنتَّبِعُ اليهود والنصارى على ضلالهم وغيِّهم بعد أن جاءنا النبي صلى الله عليه وسلم بالهدى؟!
[12]
.
الفوائد العلمية:
1. في الحديث التَّرَفُّع عن ذِكر أسماء الفُسَّاق والكُفَّار؛ فإن النبيَّ صلى الله عليه وسلم كنَّى عن اليهود والنصارى بقوله: «مَن كان قبلَكم».
2. أنذر صلى الله عليه وسلم في كثير من حديثه أن الآخِر شرٌّ، وأن الساعة لا تقوم إلا على شرار الخلق، وأن الدين إنما يبقى قائمًا عند خاصَّةِ من المسلمين لا يخافون العَدَاواتِ، ويحتسبون أنفسهم على الله في القول بالحقِّ، والقيام بالمنهج القويم في دين الله
[13]
.
3. فَحْوى الكلام من الحديث هو التحذير من متابعة من قبلَنا في معصية الله، ومن اتِّباعِهم في الأهواء والبدع.
4. في الحديث إشارة إلى أنه ينبغي معرفة ما كان عليه مَن كان قبلَنا مما يجب الحَذَرُ منه؛ لنَحذَره، وغالبُ ذلك - ولله الحمد - موجود في القرآن والسنَّة.
5. وجهُ التخصيص بجُحر الضَّبِّ، لشدَّة ضِيقه ورداءته، ومع ذلك فإنهم لاقتفائهم آثَارَهم واتِّباعِهم طرائقَهم لَو دخلُوا في مثل هذا الضِّيق الرَّدِيء لوافقوهم
[14]
.
6. قوله: «لتتبعن سنن من كان قبلكم» ليس على ظاهره أن جميع هذه الأمَّة تتَّبِع سنن من كان قبلها؛ بل هو عامٌّ مخصوص؛ لأن في هذه الأمة من لا يتَّبِع تلك السنن؛ كما أخبر النبيُّ صلى الله عليه وسلم لأنه لا تزال طائفة من هذه الأمة على الحقِّ
[15]
، وقيل: إن الحديث على عمومه، وأنه لا يلزم أن تتَّبِع هذه الأمة الأمم السابقة في جميع سُننها؛ بل بعض الأمة يتَّبِعها في شيء، وبعض الأمة يتَّبِعها في شيء آخَرَ، وحينئذ لا يقتضي خروجَ هذه الأمة من الإسلام، وهذا أَوْلى لبقاء الحديث على عمومه، ومن المعلوم أن من طُرق مَن كان قبلنا ما لا يُخرج من اْلِمَّلة؛ مثل: أكل الربا، والحسد، والبغيِ، والكذب، ومنه ما يُخرِج من الْمِلَّة؛ كعبادة الأوثان [16] .
7. قول الصحابة: "اليهود والنصارى"، يدلُّ على استعظامهم هذا الأمر؛ أي: استعظام الأمر أن نتَّبِع سنن من كان قبلنا بعد أن جاءنا الهدى مع النبيِّ صلى الله عليه وسلم
[17]
.
8. كلَّما طال العهد بين الإنسان وبين الرسالة، فإنه يكون أبعدَ من الحقِّ؛ لأنه أخبر عن مستقبل، ولم يخبر عن الحاضر، ولأن من سنن من قبلنا أنه لما طال عليهم الأمد قست قلوبهم؛ قال تعالى: { * أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلاَ يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُون} [الحديد: ١٦]
[18]
.
9. إذا كان طول الأمد سببًا لقسوة القلب فيمن قبلنا، فسيكون فينا، ويشهد لذلك ما جاء في "البخاريِّ من حديث أنس - رضي الله عنه - أنه قال: سمعت النبيَّ صلى الله عليه وسلم يقول: «لاَ يَأْتِي عَلَيْكُمْ زَمَانٌ إِلاَّ وَالَّذِي بَعْدَهُ أَشَرُّ مِنْهُ، حَتَّى تَلْقَوْا رَبَّكُمْ»
[19]
.
10. من تتبَّع أحوال هذه الأمَّة، وجد أن كل زمان ما بعده أشرُّ منه؛ لكن يجب أن نعرف الفرق بين الجملة والأفراد؛ فالمراد به من حيث الجُملةُ؛ ولذلك يوجد في أتباع التابعين من هو خير من كثير من التابعين
[20]
.
11. هذا لفظُ خبرٍ معناه النهيُ عن اتِّباعهم، ومنعهم من الالتفات لغير دين الإسلام؛ لأن نوره قد بهر الأنوار، وشِرْعتَه نسخت الشرائع، وهذا من معجزاته صلى الله عليه وسلم؛ فقد اتَّبَع كثير من أمَّته سنن فارس في شِيَمهم ومراكبهم وملابسهم، وإقامة شعارهم في الحروب، وغيرها، وأهل الكتابين في زخرفة المساجد، وتعظيم القبور، حتى كاد يعبدها العوامُّ، وقبول الرِّشا، وإقامة الحدود على الضعفاء دون الأقوياء، وترك العمل يوم الجمعة، والتسليم بالأصابع، وعدم عيادة المريض يوم السبت، والسرور بخميس البيض، وأن الحائض لا تمسُّ عجينًا، إلى غير ذلك مما هو أشنعُ وأبشع
[21]
.
12. من أكبر أسباب التقليد: أن النفس أبدًا تعتقد الكمال فيمن غَلَبها وانقادت إليه؛ إما لنظره بالكمال بما وَقَر عندها من تعظيمه، أو لما تغالط به من أن انقيادها ليس لغلب طبيعيٍّ؛ إنما هو لكمال الغالب، فإذا غالطت بذلك، واتَّصل لها، حصل اعتقادًا، فانتحلت جميع مذاهب الغالب، وتشبَّهت به، وذلك هو الاقتداء
[22]
.
13. ترى المغلوبَ يتشبَّه أبدًا بالغالب، في مَلْبَسِهِ، ومركبه وسلاحه، في اتِّخاذها وأشكالها؛ بل في سائر أحواله، وانظر ذلك في الأبناء مع آبائهم، كيف تجدهم مُتشبِّهين بهم دائمًا، وما ذلك إلا لاعتقادهم الكمال فيهم"
[23]
.
الفوائد العقدية:
1. كُفْر اليهود أصلُه من جهة عدم العمل بعلمهم؛ فهم يعلمون الحقَّ ولا يتَّبعونه عملًا، وكُفْر النصارى من جهة عمَلِهم بلا عِلم؛ فهم يجتهدون في أصناف العبادات بلا شريعة من الله، ويقولون على الله ما لا يعلمون
[24]
.
2. اليهود يَعدِلون الخالقَ بالمخلوق، فيصِفون الله بالعجز والفقر والبُخل، تعالى الله عن ذلك، والنصارى يَعدِلون المخلوقَ بالخالق، حتى يجعلوا للمخلوق من صفات الربوبية والألوهية، ويُجَوِّزون له ما لا يجوز لغير الخالق سبحانه. وفي هذه الأمة أمثالُ هؤلاء وهؤلاء
[25]
.
من هدايات الحديث:
1. من دلائل نبوَّته صلى الله عليه وسلم إخباره ببعض ما كان في الأمم السابقة، وبعض ما هو كائنٌ إلى يوم القيامة؛ فإنَّ ذلك من أنباء الغيب التي يُوحيها الله تعالى إليه؛ تصديقًا لنبوَّته، وتحدِّيًا لمن لا يؤمن برسالته.
2. سرُّ التمثيل بالشِّبر والذراع، وتخصيص الجُحْر بالضبِّ، هو رسم صورة واضحة للأمَّة في حرصها على اقتفاء آثارهم، والاقتداء بهم في كلِّ كبيرةٍ وصغيرةٍ، والدخول في مَداخلهم، وإن بلغت من الضِّيق والالتواء والرداءة مبلغ جُحْر الضَّبِّ.
3. ما فائدة التحذير الوارد في الحديث مع أنه واقع لا محالة؟ فائدته أن تحذر ذلك، وتكون في جانب الطائفة الثابتة على الحقِّ.
4. لقد دلَّ الكتاب والسُّنَّة على أنه لا يزال في هذه الأمة طائفة متمسِّكة بالحقِّ إلى قيام الساعة
[26]
، وأنَّ الله لا يزال يغرس في هذا الدين غرسًا يستعملهم فيه بطاعته [27] ، وأنهم لا يجتمعون على ضلالة [28] .
5. لقد حذَّر النبيُّ صلى الله عليه وسلم من اتِّباع سنن من قبلنا، وفي التحذير من التقليد وركوب السَّنن تكثيرٌ لهذه الطائفة الظاهرة المنصورة، وتثبيتٌ لها، وتقويةٌ لإيمانها؛ ففي أيِّ الطائفتين تريد أن تكون؟!
6. الحمدُ لله إذ منَّ على هذه الأمَّة بأنها مهما اختلفت وتخاذلت، فلا يزال طائفةٌ منها ظاهرين على الحقِّ لا يضرُّهم مَنْ خالفهم حتى يأتيَ أمر الله.
7. في الحديث إشارةٌ إلى بلاء التقليد، وسوء مغبَّته، وكم جرَّ التقليد على المسلمين من بلاءات ووَيْلات وَنَكَبات، وضياع هُوِيَّة الأجيال، وذوبانهم في هُوِيَّات الضلال والانحلال!
8. نرى بأعيننا مَضارَّ التقليد الأعمى وسَوءاته على الدين والمجتمع والنشء والأجيال الجديدة، وأنه يجعل الأمم تتردَّى في الهاوية والقاع.
9. الأمم القوية هي التي تتمسَّك بهُوِيتها وأعرافها وقيمها وأخلاقها، وتعتزُّ بها.
10. لا شكَّ أن المقلِّد ضعيفٌ يَشعُر بضعفه أمام من يقلِّده، وهذا من أكبر مضارِّ التقليد؛ شعور الْمُقلِّد بضعفه ودُونيَّته ونقصه، مع شعوره بكمال الْمُقلَّد وعظمته.
11. وَمَنْ يَبْتَغِ الْإِسْلَامَ دِينًا يَكُنْ لَهُ = نَصِيبٌ مِنَ الدَّارَيْنِ يَبْقَى وَلَا يَفْنَى
وَمَنْ يَبْتَغِ الدُّنْيَا مَصِيرَ مَآلِهِ = فَقَدْ خَسِرَتْ يُمْنَاهُ إِنْ طَفَّفَ الْوَزْنَا
لَنَا قِبْلَةٌ نُحْيِي ذُرَاهَا وَنَتَّقِي = حِمَاهَا وَنَهْوَى دُونَهَا الضَّرْبَ وَالطَّعْنَا
النقول:
قال المناويُّ رحمه الله: "هذا لفظُ خبرٍ معناه النهيُ عن اتِّباعهم، ومنعهم من الالتفات لغير دين الإسلام؛ لأن نوره قد بهر الأنوار، وشِرْعتَه نسخت الشرائع، وذا من معجزاته؛ فقد اتَّبَع كثير من أمَّته سنن فارس في شِيَمهم ومراكبهم وملابسهم، وإقامة شعارهم في الحروب، وغيرها، وأهل الكتابين في زخرفة المساجد، وتعظيم القبور، حتى كاد أن يعبدها العوامُّ، وقبول الرِّشا، وإقامة الحدود على الضعفاء دون الأقوياء، وترك العمل يوم الجمعة، والتسليم بالأصابع، وعدم عيادة المريض يوم السبت، والسرور بخميس البيض، وأن الحائض لا تمسُّ عجينًا، إلى غير ذلك مما هو أشنعُ وأبشع. «حتى لو أن أحدهم دخل جحر ضبٍّ لدخلتم»: مبالغةً في الاتِّباع، فإذا اقتصروا في الذي ابتدعوه فستقتصرون، وإن بسطوا فستبسطوا، حتى لو بلغوا إلى غاية لبلغتموها"
[29]
.
قال ابن عثيمين رحمه الله: "قوله: «لتتبعن سنن من كان قبلكم» ليس على ظاهره؛ بل هو عامٌّ مخصوص؛ لأننا لو أخذنا بظاهره، كانت جميع هذه الأمَّة تتَّبِع سنن من كان قبلها؛ لكننا نقول: إنه عامٌّ مخصوص؛ لأن في هذه الأمة من لا يتَّبِع تلك السنن؛ كما أخبر النبيُّ صلى الله عليه وسلم لأنه لا تزال طائفة من هذه الأمة على الحقِّ، وقد يُقال: إن الحديث على عمومه، وأنه لا يلزم أن تتَّبِع هذه الأمة الأمم السابقة في جميع سُننها؛ بل بعض الأمة يتَّبِعها في شيء، وبعض الأمة يتَّبِعها في شيء آخَرَ، وحينئذ لا يقتضي خروجَ هذه الأمة من الإسلام، وهذا أَوْلى لبقاء الحديث على عمومه، ومن المعلوم أن من طُرق مَن كان قبلنا ما لا يُخرج من اْلِمَّلة؛ مثل: أكل الربا، والحسد، والبغيِ، والكذب، ومنه ما يُخرِج من الْمِلَّة؛ كعبادة الأوثان"
[30]
.
قال ابن بطَّال رحمه الله: "قال المهلب: قوله: «لتتبِعُنَّ سنن من كان قبلكم» بفتح السين هو أَوْلى من ضمِّها؛ لأنه لا يُستعمَل الشِّبر والذراع إلا في السَّنن، وهو الطريق؛ فأخبر صلى الله عليه وسلم أن أمَّته قبل قيام الساعة يتَّبِعون المحدَثاتِ من الأمور، والبِدَع والأهواء الْمُضِلَّة، كما اتَّبَعْتَها الأمم من فارس والروم حتى يتغيَّر الدين عند كثير من الناس، وقد أنذر صلى الله عليه وسلم في كثير من حديثه أن الآخر شرٌّ، وأن الساعة لا تقوم إلا على شرار الخلق، وأن الدين إنما يبقى قائمًا عند خاصَّةِ من المسلمين لا يخافون العَدَاواتِ، ويحتسبون أنفسهم على الله في القول بالحقِّ، والقيام بالمنهج القويم في دين الله"
[31]
.
قال الطِّيبيُّ رحمه الله: "قولُه: «سنن من قبلكم»: السُّنن جمع سُنَّة، وهي الطريقة حسنةً كانت أو سيِّئةً، والمراد بها ها هنا طريقةُ أهل الأهواء والبِدَع التي ابتدعوها من تلقاء أنفسهم بعد أنبيائهم، من تغيير دينهم، وتحريف كتابهم، كما أتى على بني إسرائيل حَذْوَ النَّعل بالنعل. وقوله: «شبرًا بشبر»: حال مثل (يدًا بيد). قوله: «اليهود والنصارى»؛ أي: أتعني من نتَّبِعهم اليهود والنصارى؟ فأجاب: «فمن؟!»؛ أي: إن لم أُرِدْهم، فمن سواهم؟!"
[32]
.
قال بدر الدين العينيُّ رحمه الله: "قوله: «لتتبعن» بِضَمِّ العَين وَتَشْديد النُّون. قوله: «سنَن من قبلكُمْ»؛ أَي: طَرِيق الَّذين كَانُوا قبلكُمْ، والسَّنَن بِفَتْح السِّين: السَّبِيل والْمِنهاج، وَقَالَ الْكِرْمَانِيُّ: ويُروى بِالضَّمِّ. قَوْله: «شبْرًا بشبر» نُصِبَ بِنَزْع الْخَافِض، تَقْدِيرُه: لتتبعن سنَن مَن قبلَكم اتِّبًاعًا بشبر مُلتبِس بشبر، وذراع مُلتبِس بِذِرَاع، وهذا كِنَايَةٌ عن شدَّة الْمُوَافقَة لهم في المخالفات والمعاصي، لا في الكفر، وكذلك قوله: «لو سلكوا جُحر ضَبٍّ» بِضَم الْجِيم وَسُكُون الْحَاء، والضبُّ: دُوَيْبةٌ تشبه الوَرَن تَأْكُله الْأَعْرَاب، وَالْأُنْثَى ضبَّة، وَتقول الْعَرَب: هُوَ قَاضِي الطَّير والبهائم، يقولون: اجتمعت إليه أوَّل ما خلق الله الإنسان فوصفته له، فقال الضَّبُّ: تَصِفِينَ خَلْقًا يُنزل الطير من السَّمَاء، ويُخرج الْحُوت من الماء، فَمن كَانَ له جنَاح، فليَطِرْ، ومن كان ذا مخلب فليحتفر، ووجهُ التَّخْصِيص بجُحر الضَّبِّ، لشدَّة ضِيقِه ورداءته، وَمَعَ ذَلِك فَإِنَّهُم لاقتفائهم آثَارَهم واتِّباعِهم طرائقَهم لَو دخلُوا فِي مثل هَذَا الضِّيق الرَّدِيء لوافقوهم. قَوْله: «الْيَهُود»؛ يَعْنِي: قَالُوا: يَا رَسُول الله، هم الْيَهُود وَالنَّصَارَى؟ قَوْله: قَالَ: «فَمن؟!»؛ أَي: قَالَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم: فَمن غَيرهم؟! وَهَذَا اسْتِفْهَام على وَجه الْإِنْكَار؛ أَي: لَيْسَ الْمُرَاد غَيرهم"
[33]
.
قال ابن تيمية رحمه الله: "إنَّ الكتاب والسُّنَّة قد دَلَّا على أنه لا يزال في هذه الأمة طائفة متمسِّكة بالحقِّ إلى قيام الساعة
[34]
، وأنَّ الله لا يزال يغرس في هذا الدين غرسًا يستعملهم فيه بطاعته [35] ، وأنهم لا يجتمعون على ضلالة [36] ؛ ففي التحذير من التقليد وركوب السَّنن تكثيرٌ لهذه الطائفة الظاهرة المنصورة، وتثبيتٌ لها، وتقويةٌ لإيمانها. ثمَّ لو قُدِّر أنَّ أحدًا لا يترك التشبُّه بهم، والدخول في أهوائهم، لكان في هذا التحذير إيمانٌ بما جاء به الصَّادق الْمَصْدوق صلوات الله وسلامه عليه.
ألا ترى إلى ما يرويه مسلم من قوله: «من رأى منكم منكرًا، فَلْيغيِّره بيده، فإنْ لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وهذا أضعف الإيمان»
[37]
، وفي لفظ: «ليس وراءَ ذلك من الإيمان حبَّة خردل» [38] ، والإيمان بما كرهه اللهُ خيرٌ، وإن لم يقترن بالعمل.
ومن هنا كان حقًّا على العالِم بالمنكَر أن يُنكره، ولو تورَّط فيه وابتُليَ به، على أنَّ العالم بالذنب قد يستغفر الله، ولو أصرَّ على ما فعل، أو يأتي بحَسَنات تمحوه، أو تُخَفِّفه، أو تُضْعف همَّته في طلبه.
وكم بين العالم والجاهل من دَرَجات وفَضْل، والحمدُ لله إذ منَّ على هذه الأمة بأنها مهما اختلفت وتخاذلت، فلا يزال طائفةٌ منها ظاهرين على الحق لا يضرُّهم مَنْ خالفهم حتى يأتيَ أمر الله"
[39]

قال ابن خلدون رحمه الله: "في أن المغلوب مُولَع أبدًا بالاقتداء بالغالب في شعاره وزِيِّه ونِحْلَتِه وسائر أحواله وعوائده: والسبب في ذلك أن النفس أبدًا تعتقد الكمال فيمن غَلَبها وانقادت إليه؛ إما لنظره بالكمال بما وَقَر عندها من تعظيمه، أو لما تغالط به من أن انقيادها ليس لغلب طبيعيٍّ؛ إنما هو لكمال الغالب، فإذا غالطت بذلك، واتَّصل لها، حصل اعتقادًا، فانتحلت جميع مذاهب الغالب، وتشبَّهت به، وذلك هو الاقتداء... ولذلك ترى المغلوبَ يتشبَّه أبدًا بالغالب، في مَلْبَسِهِ، ومركبه وسلاحه، في اتِّخاذها وأشكالها؛ بل في سائر أحواله، وانظر ذلك في الأبناء مع آبائهم، كيف تجدهم مُتشبِّهين بهم دائمًا، وما ذلك إلا لاعتقادهم الكمال فيهم"
[40]
.